هَل يُلام المؤلفونَ إذا دَفنوا مؤلفاتِهم في الكوابر؟ |
إلى هنا وربك سامع الدعاء |
شاب من كلية المعلمين ما صادفني إلاّ سألني في إلحاح عن الطبعة الجديدة لتاريخ مكة. |
وزميل لي من موظفي الإذاعة هو الكاتب المعروف عبد الله الجفري لم يكتفِِِ بتحقيقاته الشفوية في كل مقابلة حتى كتب إليَّ أخيراً باسم (الثقافة الأسبوعية) يسأل عمّا تم في شأن الطبعة الجديدة من تاريخ مكة. |
ونفر غير هذا وذلك أتلقى استفساراتهم كلّما قابلني أحدهم أو كتب إليّ، وجميعها تدور حول الطبعة الجديدة من تاريخ مكة. |
كان عليَّ ألاّ أقول مثل هذا بين نفسي، فهو هراء ربما ضاق به صدر القارئ وهو في رأيي من ألوان الدعاية السخيفة التي يستثقل الناس ظلها. |
ولكن في الموضوع شيء غير هذا. |
شيء تقدمت بين يديه بمثل هذه الألفاظ العريضة، لأني وجدتني في أشد الحاجة إلى أن أعالج ناحية لها أهميتها في عالم التأليف. |
إنهم يعيبون على المؤلفين ضآلة آثارهم، ويمقتون في الأدباء والشعراء صدوفهم عن إبراز ما ينتجون. |
إلى هنا "وربك سامع الدعاء!!!". |
وكنت أتمنى لو أجد مرة مَن يحقق لي: هل يُباع في أسواقنا من سائر المؤلفات ما يوازي جزءاً واحداً من ألف جزء يُباع من قراطيس السكر والشاي في دكاكين البقالة؟ |
كنتُ أتمنى لو أجد مَن يثبت لي أن مؤلفاً أدبياً واحداً في بلادنا استطاع أن يظفر بنصف ما أنفق على طبع مؤلفه لأقيم وإيّاه الحجة على خطأ كل الأدباء وقصورهم عن إبراز ما ينتجون. |
إن بلادنا لا تبيع المؤلفات إلاّ في نحو أربع مدن وبضع قرى كبيرة لا تتجاوز أصابع اليد، وأن معدل ما يُباع في كل مدينة لا يتجاوز مائة نسخة لأديب سارت الركبان باسمه -كما يقول أجدادنا القدامى- وضجت الصحف بشهرته كما يتحدث شبابنا المحدث. |
سيُقال إن أثمانها باهظة تحول دون رواجها، وهي كلمة تبدو وجاهتها لأول وهلة ولا يستطيع أن يتغلغل إلى زيفها إلاّ (حكّاك)!! لا يقنعه إلاّ أن يزج أنفه بين البصلة وقشرتها. |
إن للمؤلف في العادة قرابات وزمالات وصداقات لا يُحصى عددهم، وله إلى جانبهم أساتذة علّموه وتلامذة أعجبوا به، وبارزون شجعوه، وعامة قدروه، ومعارف لا تحدهم طبقة ولا يقيدهم نوع. |
كل هؤلاء يقرأون إعلانه فيقفون من الأمر على كثب ليزنوا عواطفه نحوهم ويحددوا حقيقة علاقته بهم. |
لقد عاشوا يولون الجميل فهل يقدر لهم ما أولوه، فيتسلّمون هديته مع أول بريد متوجه بالتقديم الرقيق، أم تراه فدماً لا يبالي بعواطفهم ولا يقدر حقيقة شعورهم؟ |
طببها إذن.. إن كنت صاحب طب. |
أيفي لكل هؤلاء فيتقدم بهداياه إليهم؟ |
أيعطي بعضهم فيرضيه و (يطنش) عن الآخرين فيسخطهم؟ |
أيضع (في إحدى أذنيه طينة وفي الأخرى عجينة) ويمسك الدرب!! |
إن كان الأول فقد تعين عليه أن يضيف إلى النسخة مثل قيمتها ليعوّض ما فقد. |
وإن كان الثاني والثالث فقد زرع في مئات القلوب شر ما يمكن حصاده وخلق لنفسه عداوات كان من أغنى الناس عنها. |
أيلام المؤلفون بعد هذا إذا ناطوا مؤلفاتهم بالرفوف العالية أو دفنوها في الكوابر؟؟ |
لقد صدرت الطبعة الأخيرة من تاريخ مكة وساعدني الإهداء الواسع -والحمد لله- على نفادها. |
وصدرت لي بعدها عدة مؤلفات أهديت منها وبعت بعضها وعندما شكا نفر من سعرها أعلنت التخفيض شهراً كاملاً فلم يحقق ذلك ما يصح أن يُسمّى رواجاً. |
ومع هذا أستطيع أن أؤكد أن حظّي من رواج الكتب ربما فاق حظ البعض فكيف حال هذا البعض؟ |
إن مبلغ علمي أن كبار المسؤولين في وزاراتنا خير مَن يعرف حقوق المؤلفين في موازناتها الضخمة، وإن رعاية التأليف جدير بأن يحتل مركزه الممتاز في بنود نفقاتها، وإن عنايتها بالنشر لا يجب أن تظفر بأقل بما تظفر به عنايتها بالمدارس. |
كان هذا من سنوات، وكنت أزمعت الرأي على إعادة النظر في الطبعة السابقة من تاريخ مكة توطئة لتقديمه لطبعة جديدة، فقرأت ما شاء الله أن أقرأ وتوسعت في بحوثه ما استطعت أن أبحث، وسافرت في سبيله إلى أكثر من بلد (صددت في بعضها) فلم يفت ذلك في عزمي. |
ومضيتُ في مراجعاتي وإصلاحاتي إلى أن أوشك الكتاب أن ينتهي إلى الفصل الأخير، ثم قدمته إلى المطبعة لتتشاغل بطبعه فأنجزت المطبعة أكثر من نصف ملازمه. |
ولكني ما حتمت أن تباطأت.. إن فشل التأليف والنشر في بلد محدود لا يشجع مثلي على ارتياد الصعاب لأقف بين فدافدها وحدي لا أعتمد إلاّ على كياني وهو ضعيف، ولا تسندني إلاّ ثروتي وهي لا بلغة فيها. |
ألا فليعلم أخونا من كلية المعلمين وزميلنا من دار الإذاعة وبعض إخواني السائلين ممّن يهمهم إنتاجي المتواضع من تاريخ مكة أن الطبعة الجديدة تأخذ طريقها في تخاذل اليائس بين أدراج العمال في دقائق فراغهم، وأن الفصل الأخير من الكتاب لا يزال في ملفه ينتظر إحدى الحالات النفسية التي تعيد إليه الحياة. |
وأنت يا أخانا (البواردي) أتمنى أن تجرب لمؤلفاتك الجديدة ما جربت قبلك لتستطيع أن تقنع المختصين ليؤيدوا حقوق التأليف في موازنتهم ولا يضنوا على المؤلفين بما ينشط حركتهم
(1)
. |
|