لنحَارب الفقر |
هل استطعنا أن نحارب الفقر بمثل القوة التي حاربنا بها الجهل والمرض؟
|
إنها أحاسيس أشعلها الاحتفال الدائب بمقدرات الحياة!!
|
ليس من شك في أن موازنات الدولة التي شرعنا نعلنها من سنوات في أوقاتها المقررة تستطيع أن تعطي دليلاً على يقظتنا، وإننا بدأنا نشعر مبلغ حاجتنا الماسَّة إلى مسايرة الحياة الصحيحة، والعمل على تنظيم اقتصادياتنا وتبنيدها في فصول مبوبة وأرقام مقررة نتقيد بها كحدود محترمة. |
لا نشك في هذا، كما لا نشك في أن موازناتنا تخطو درجات طيبة إلى الانتقال من سنة إلى أخرى، وإننا إذا ظللنا على هذا النحو نخطو من حسن إلى أحسن. في مثل هذه المدارج فإننا سنصافح اليوم الذي نستطيع أن نعتز فيه بأنفسنا كأمة أثبتت وجودها بين شعوب الأرض الحية. |
وإذا كنا لا نشك في كل هذا أن فيه ما يحفز مثلي إلى مناقشة بعض ما تراءى لي على هامش الميزانية، فقد درجت الأمم الراقية التي ننوي أن نساير قوافلها على ترك الأقلام تناقش ما تراه في حدود ما تعرف لتنكشف أمام المختصين بعض الأفكار العامة، وربما استطاعت الإفادة من مداولتها. |
إننا كأمة تتهيأ للعمل الجاد المثمر، ربما احتجنا قبل كل شيء إلى علاج الفقر والمرض والجهل التي ورثنا تركتها مثقلة من مئات السنين، وفي رأيي إن على ميزانياتنا العامة أن تحتفي بهم في بنودها عناية خاصة وتعطيهم من طاقتها ما تستحق. |
وكل متتبع لحركاتنا العامة في نهضتنا الجديدة يعلم أننا في سنواتنا الأخيرة لم ندخر وسعاً في بذل الجهد لمحاربة الجهل، وإننا أعطينا ذلك من عنايتنا ما يستأهل التقدير. وحسبنا من ذلك أننا استطعنا في أقل من ربع قرن أن نستفيد من شبابنا الجديد لكثير من مناصب الوزارات، وغير قليل من مراكز الاختصاص، وإننا بعد أن كنا نستعين بالأكفاء من جيراننا وأشقائنا استطعنا اليوم إلى حد أن نجد من مثقفينا مَن يضطلع بكثير من المهام عدا الشباب المهيأ تحت سقوف المعاهد والكليات في انتظار دوره للخدمة العامة في سائر الحقول التي كنا نعجز عن خدمتها. |
نحن لا نقول إن ثقافتنا بلغت الشأن الذي يجب أن نقنع به، ولكننا ندّعي أن خطوتنا لمحاربة الجهل وإعداد الكفاءات كانت من أسبق الخطوات وأقواها في نهضتنا الجديدة. |
كما ندّعي أن ما بذلناه إلى اليوم في سبيل محاربة المرض يعتبر بذلاً طيباً إذا قسناه بكثير من عناصر نهضتنا، وإذا أدخلناه في حساب تلك السنوات المعدودة التي مرت بها هذه النهضة. |
بقي لنا بعد ذلك أن نسأل: هل استطعنا أن نحارب الفقر بمثل القوة التي وفرناها لحرب الجهل والمرض؟؟ |
ما أحلى أن نُخلص القول للمسؤولين عن نهضتنا، وأن نصارحهم الرأي ما دمنا قد عقدنا العزم حكاماً ومحكومين على أن نتعاون في سبيل العمل على تقدم بلادنا. |
قد يرى بعضهم أن في سخاء بعض أصحاب الشأن والغنى في بلادنا وعطفهم على الفقير ما يستأهل الغبطة، وأننا بهذا نستطيع أن نحارب الفقر في أعلى حصونه، ونجبر عثرات المحتاجين.. ولكني أستطيع أن أؤكد أنها وسائل لا تقدم خطوة إلى الهدف المرجو. |
وفي رأيي أن ميزانيتنا العامة هي المسؤولة أولاً وآخراً عن الزحف المقدس لحرب الفقر واستئصال جذوره. |
إذا استطعنا أن ننفق في سعة على إحياء الأراضي الصالحة للزراعة في شتى مناطقنا وهي أكثر بكثير مما نتخيل، وأن نبذل في سبيل المياه الجوفية التي لا تخفانا مظانها الملايين والملايين، واستطعنا أن نقيم السدود ونستفيد من السيول الدافقة التي تدمر كل شيء ولا تنفعنا بشيء، فقل إن خطوتنا إلى جهاد الفقر باتت واكدة، وإننا بذلك نستطيع أن نغني البادية عن ذل الحاجة، وأن نوفر بهذا الاكتفاء الذاتي جزءاً كبيراً من أموالنا نحن في أشد الحاجة إليه. |
وقل مثل هذا في شأن المواصلات.. فقد أعطت الميزانية لمصلحة الطرق ملايين الريالات، وفي رأيي أنها مصلحة تستأهل أكثر بكثير من هذه العناية، ذلك لأن مزارعنا التي ندعو إلى الحفاوة بها من أجل الاكتفاء الذاتي موزعة شتاتاً بين مهابط الوديان البعيدة ومخارف الجبال العاتية، وهي على قلتها اليوم لا تجد أسواقاً تروجها فيضطر المزارع إلى بيعها بقيمة التكاليف أو أقل منها، وربما اضطر إلى هجرها ليتركنا عالة على ما تنتجه البلاد الأجنبية، ذلك لأن البلاد الأجنبية تجد طريقها معبّداً سهلاً من البحر أو البر إلى مدننا، ويعجز فلاحنا عن نقلها إلينا لصعوبة السفر بين وديانه وجباله، فلو أعطينا مصلحة الطرق بذلاً أوسع لاستطعنا بعد العناية بالزراعة أن ننقل منتوجاتنا إلى أسواق المدن بأسعار لا تهزمها مضاربة البلاد الأجنبية. |
وأعطت الميزانية مجلس التخطيط الأعلى ملايين أخرى. والذي أعرفه أن وظيفة مجلس التخطيط أوسع بكثير ممّا يتّسع له هذا البند، فهو مسؤول عن تتبع مكان المعادن من أدنى البلاد إلى أقصاها، وهو مسؤول عما ينتجه البحر من ثروات لا حدود لها ولا حصر ممّا لم نستفد منه شيئاً إلى اليوم، وهو مسؤول عن تنمية رؤوس الأموال المحبوسة بين جدران الغرف والخزائن بعد إغرائها بالبروز، ودراسة أهم ما يجب أن نتناوله من مشاريع حيوية لتقدمها إلى المتمولين في تخطيط مقروء يرسم الأفكار ويرشد إلى أضمن الوسائل للأخذ بها. |
وأعطت الميزانية للمشاريع العامة وتوسيع الحرمين ملايين غيرها، وفي اعتقادي أنه مبلغ لا يُستهان به إذا استطعنا أن نقيده بلوائح رسمية نافذة المفعول. |
لقد زحفت الأيدي العاملة من سائر الآفاق إلى بلادنا تجتذبها سمعة هذه الملايين ويغريها بنا جهلنا بالانتفاع بما نملك، وإهمالنا تقنين ما يلزم لحدودنا، فاستطاع هذا الزحف أن يستولي على تسعة أعشار ما يبذله البند، فلو فرضنا له من اللوائح ما يحدد علاقتنا بالعامل الأجنبي، ويلزمه بإباحة ما يحترف لعمالنا، ويلزم عمالنا بتوزيعهم على محال الاحتراف في نظام مقدر لاستطعنا أن نربح لعمالنا ألوف المهن التي تغنيهم عن التسكع، وتحميهم من غائلة الفقر، ولو استطعنا أن نحدد إقامة كل وافد محترف أو متخصص بمدة كافية للاستفادة من خبرته لما عجزنا عن تسليمهم إلى طريق العودة مشكورين، وتوفير مجالاتهم لأصحاب الشفعة المغلوبين في بلادهم. |
إنها آراء لا أدّعي أني من أصحاب التخصص الفني فيها؛ لأنها ليست إلاّ نتيجة أحاسيس أشعلها الاحتكاك الدائب بمقدرات الحياة وما أشاهده من تفاعلات الحوادث اليومية.. فإذا رأى المختصون فيها أو بعضها ما يستحق البحث وإلاّ فحسبي أني صدعت بما رأيت والله يتولانا بما يختار
(1)
. |
|