شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من هِضاب أبي قبيس أرسَلهَا صيحة تدوي في أركان المعمورة
فرق بين أن تبز أقرانك وتبدو كبيراً ممتازاً في أمتك.. وبين أن تطبع هؤلاء الأقران وتصنع أمتك من جديد!! فأنت في الأولى عظيم في التاريخ.. وأنت في الثانية صانع للتاريخ. وعظماء التاريخ حفل التاريخ بهم وازدحمت صفحاته وفصوله بسيرهم. أمّا صانعو التاريخ فهم الندرة التي لا يجود بها الدهر في مئات الأجيال.. ولا تصادفك حوادثهم بعد ملايين الفصول إلاّ مرة واحدة.
وسيدنا العظيم الذي نتحدث اليوم عنه كان صانعاً للتاريخ إذا شئت. وأكثر من صانع إذا شئت.
إنه لم يطبع جيلاً واحداً، ولم ينشئ أمة واحدة، ولم يصبغ قلمه قارة واحدة في خارطة العالم.
إنه طبع دهراً بكامله.. دهراً انطوت فيه أجيال، وستنطوي فيه أجيال وأجيال، ولا يزال لطابعه جدته كما لو لم تمضِ عليه ساعة.
إنه أنشأ أمماً لا تُحصى ألوانها ولا تُعد لغاتها، إنشاء أفنى فيه كل ما ورثوا من أديان وما عرفوا من عادات وأخلاق.
وإن قلمه مضى على ثلاثة أرباع خارطة العالم في أقل من مئة عام مضت، استحالت بعده آلاف الكنائس، ومئات البِيع، ومئات الألوف من الهياكل الباطلة إلى مساجد يذكر فيها اسم الله وحده لا شريك له، يسبّح له فيها بالغدو والآصال.. كأنه صلى الله عليه وسلم أمام عيني الآن بين هضاب أبي قبيس يرسل الصيحة يهتز لها أبو قبيس وتدوي لها شعاب الهواشم.
كأنه بين عيني الآن يرسل الصيحة في هذه القفار القاحلة بين المروتين، فتسمع صداها يدوّي في الهند والتركستان إلى روسيا وبولونيا، وبلاد البلقان والترك وفي برقة والجزائر ومراكش إلى أدغال إفريقيا جنوباً وأطراف أوروبا شمالاً.. دوياً يهيب بالأديان فتخر طائعة بين يديه، والعقائد الموروثة فتستحيل أمامه هباء، والعصبيات الجنسية واللغوية واللونية فتأتي إليه صاغرة يصوغها كما يشاء ويوجهها أينما شاء.
هو الآن على درج الصفا: "يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تميم، يا بني مخزوم، يا بني أسد، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإنني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيباً إلاّ أن تقولوا: لا إله إلاّ الله".
فينهض أبو لهب في غضب صائحاً: تباً لك سائر هذا اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فتكون الصدمة ويتفرق الناس تحت صيحة أبي لهب في شعاب مكة ساخرين مستهزئين.
تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (المسد: 1-3).
كانت صدمة قد يصح أن يكون لها مفعول الصدمة الأولى في غير نفس محمد صلى الله عليه وسلم. أمّا هذه النفس العالية، أمّا هذا المبدأ الثابت، فتستحيل أمامه جميع الصعاب طرقاً سهلة يعبرها في عزم إلى غايته في الحياة.
وقد مضى صلى الله عليه وسلم.. مضى في قوة، مضى وحده وعشرات القبائل في مكة تتألب ضده.. مضى يتحدّاهم ويتحدّى آلهتهم، وتغص دار الندوة بأشراف قريش يبحثون هذا الجلل ويتبادلون الرأي فيه كخطر داهم.
ويمشي عظيم مكة أبو سفيان في جمهرة من كبرائها إلى دار عمه أبي طالب: "يا أبا طالب إن ابن أخيك سب آلهتنا.. فإمّا أن تكفه عنا أو تخلي بيننا وبينه" فيردهم رداً جميلاً ويظنونها كافية لأن تفت في هذا العضد ناسين سمو الأفذاذ عن أمثال هذا النقيق.
ويستأنف أبو سفيان مشيته في أهول رهط إلى عمه مرة أخرى: "يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا.. لتكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين".
وينتهي أبو طالب إلى ابن أخيه بما ندب.. "يا ابن أخي أبقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق".
كلمة جادة وتنصل رزين كانا يكفيان للتأثير في أقوى النفوس وأشدها شكيمة.
لكنه محمد، لكنه صانع التاريخ.. لم يتحيّر، ولم يتلكأ، ولم يستنظر بل أرسلها قوية صارخة. "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه لما تركته!؟".
لغة واضحة، وأسلوب صريح، لا محل فيه للمواربة. جمع العم الشيخ في أثرها أطراف عباءته وهو يشد على يده: "اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه".
وتمضي الأيام آخذة برقاب بعضها.. ويمضي سيدنا دائباً في دعوته كما تمضي قريش ممعنة في عدائها وإيذائها، حتى يقف عتبة بن ربيعة مندوباً من قريش فيهيب بهذا الطود: "إنك منا يا ابن أخي حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلّك تقبل بعضها.. إن كنتَ إنّما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تريد تشريفاً سوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنتَ تريد ملكاً ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ".
عرض هادىء، وإغراء جميل مشوق.
المال!! المال كل زينة الحياة ونهاية الرغبة فيها.
المال طالما بيعت به همم!! وخفرت من أجله ذمم!! ونسيت في سبيله مبادىء! ومذاهب وأديان!!
والسيادة.. السيادة نشوة تغري أكثر أصحاب المبادىء فتنسيهم أهم واجباتهم دينية واجتماعية ووطنية.
لكنه صانع التاريخ.. لكنه محمد وكفى: "دونك يا عتبة آيات من التنزيل تحضرني الآن.. ثم يتلو عليه سورة السجدة حتى آخرها ولا يتكلم، وينصرف عتبة وقد ترك فيه الإعجاز أثراً بالغاً إلى مجالس قريش بغير ما توجه: "أرى أن تتركوا محمداً للعرب فإن تغلبوا عليه استرحتم وإن اتبعوه افتخرتم".
وبعد.. فقد تركوا محمداً للعرب.. تركوه يمضي.. وقد انتهى مضيه إلى نجاح ارتجت له أركان المعمورة.. ودانت له الحياة طائعة!!
فهل أغراه النجاح؟ وهل طوح به كل مطوح!!؟
يقول ابن هشام يصفه بعد أن بلغ في نجاحه الذروة.
إنه لم يشبع قط!!
ولم يطعم خبز الشعير يومين متواليين!!
كان التسويق طعام أكلته الكبرى!!
وكان التمر سائر طعام يومه!!
وكان الثريد ممّا لا يكثر له ولا لأهله تناوله.
وكان على ما أعطاه الله من أطايب الرزق يتحرق شوقاً إلى زند الخروف!!
والقرع!! والعسل!! والحلوى!!
ويقول الواقدي في طبقاته:
كان معروف ثيابه القميص والكساء.. وكانا من صوف أو قطن أو تيل، وكان يحتذي حذاءً بسيطاً.. ولم يلبس خفاً إلاّ حين أهدى إليه النجاشي خفين وسراويل.. أمّا فراشه الذي كان ينام عليه فكان أدماً حشوه ليف.
وكان إلى هذا يعتز بما نستنكف فيقول: أنا ابن أمة كانت تأكل القديد بمكة!!
ونقل عن أصحابه أنه: "كان يرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويتقشف في مسكنه، وأنه عندما سيقت إليه الدنيا لم يستأثر بدينار ولا درهم، بل دأب على توزيعها في مصالح المسلمين، وبحسبه طعام الشعير في أكلته الكبرى!!
وأرقته أوقية من فضة بقيت في فراشه بعد التوزيع، فلم يذق حلاوة النوم ليلتها.
فكيف به ونحن اليوم ننام على مال القاصر، وإرث اليتيم، ورشوة العاجز.. ثم نصبح لنلوك آيات الله ونروي ما قال رسول الله دون أن تأخذنا خشية أو يعذبنا ضمير.
رحمتك اللَّهم وغفرانك.. فلا تؤاخذنا بما كسبت أيدينا.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :430  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج