ما معنى هذا؟!! |
-1- |
في بعض الإحصاءات أن عدد الأجانب المقيمين في سويسرا بلغ 15 بالمئة بالنسبة إلى سكانها. ويعلق بعض الباحثين الاجتماعيين على هذه الإحصائية فيقولون: إن الأهالي في سويسرا أخذوا يضيقون بهذا العدد ويعتبرون نسبته هائلة وخطيرة لا تبعث على الاطمئنان، وربما أحالت اقتصاديات سويسرا إلى حالة تعيش فيها تحت رحمة الأجانب. |
ويقولون: إنها فرصة جيرانهم من الإيطاليين، فقد امتاز العمال في إيطاليا بالنشاط فوجدوا مرتعهم خصباً بين السويسريين الذين يميلون أكثر ما يميلون إلى الأعمال الإدارية والخدمة في البنوك ويتحاشون أن يزاولوا من المهن ما يخدش أياديهم الناعمة!! |
تذكرت هذا وأنا أمر بالأمس بعمارة لا تزال في دور الإنشاء، فراعني منها أنه ليس بين عمالها مواطن واحد.. تعمدت الوقوف على كثب منها لأطيل النظر بينهم فإذا حاملو الحجر من التكارنة، وإذا العاملون في البناء من العدنيين، وإذا الواقفون للإشراف والهندسة من إخواننا المجاورين أصحاب البنطلونات. |
ورأيتني أسائل نفسي: ترى لو تمت أعمال الإنشاء في العمارة وعقبتها أعمال النجارة والبلاط والبياض والتسليك وسائر ما يلزم لأعمال (التشطيب) أكنا نجد من بين الوطنيين من يتناول كل هذه الأعمال؟ |
وتبادر الجواب إلى نفسي كما يتبادر الآن إلى نفس كل قارئ بأننا قد لا نجد بين مزاوليها وطنياً واحداً! |
تُرى ما معنى هذا؟؟ |
قد يُقال هنا إن الوطنيين مظلومون في مثل هذا المجال. ففي بلادنا عشرات وعشرات ممّن يمتهنون أمثال هذه الحرف يواجهونك عاطلين لا يجدون ما يشتغلونه. |
إذن فالسؤال لا يزال في مكانه: تُرى ما معنى هذا؟ |
أمّا أنا فيتبادر إلى ذهني جواب أتمنى أن يكون خاطئاً.. فقد شاع من سمعة إخواننا المواطنين أنهم يغالون في أسعارهم، وأن أعمالهم في مثل هذه المهن تتسم بالرتابة، وأنهم رغم حاجتهم يمتازون بأخلاق (تجارية) لا يستسيغها الزبون!! |
أنا شخصياً لا أؤكد هذا ولا أنفيه ولكني أسأل وللمرة الثالثة: إذن فما معنى هذا؟ |
ما معنى أن أصحاب الإنشاءات يفضلون معاملة التكروني واليمني والفلسطيني وكثير من أجناس المجاورين وينأون عن معاملة مواطنيهم؟! |
قال لي مرة مسؤول في أحد مكاتب العمال إن إخواننا المواطنين متزاحمون على مكاتب العمل بحثاً عن عمل يرتزقون منه، فإذا عرض على أحدهم عملاً في ورشة للحدادة أو النجارة أو السمكرة أو معامل الطوب أو ما أشبه ذلك أزورَّ عنا ثاني عطفه. |
فإذا سُئل عمّا يفضله من الأعمال قال: أريدكم لتلحقوني في وظيفة فراش في أي مكتب يتراءى لكم. |
إلى أن قال وعبارة: "أريدكم لتلحقوني فرَّاشاً في أي مكتب" تكاد أن تكون قاسماً مشتركاً بين أكثر طلاب العمل من مواطنينا. |
أجدني للمرة الرابعة حرّياً بأن أسأل: تُرى ما معنى هذا؟؟ |
وأرجو أن لا يلحاني غيور على بلاده إذا وجدني عاجزاً عن أن أعلل ما غمض عليّ من أسباب ذلك. |
وأن يعذرني إذا رجوت إلى أصحاب الاختصاص في البحوث الاجتماعية أن يناقشوا الفكرة نقاشاً علمياً لعلّ في ذلك ما ينتهي إلى العلاج. |
-2- |
أشرتُ في كلمتي السابقة إلى ما يشاع عن رتابة أيادينا العاملة وما يكرهونه من الأعمال المرهقة، وقلت لعلّهم مظلومون فيما أشيع عنهم. |
وبالأمس قابلني شخص من رجال الأعمال ليقول لي: لقد قرأتُ كلمتك عن الأيدي العاملة عندنا، وكنت أتمنى لو خالطت بعض أعمالي واطلعت على ما يذهلك من الحقائق.. |
ثم قال: إني أملك ورشة للسمكرة. لو زرتني فيها لوجدت جميع عمالي من التكارنة إذا استثنيت المعلّم ومساعديه وهم من الأجانب المستقدمين.. |
ستتّهمني بالجحود وتجدف على وطنيتي، ولكن ستغير رأيك إذا راق لك أن تعرف الحقيقة.. فاسمعني: |
إن اسم الورشة مسجل في مكتب العمل التابع لمدينتي، وإنها مستعدة لتشغيل ما لا يقل عن عشرين شخصاً من العمال الموفدين من المكتب.. |
ودعني بعد هذا أصوّر لك ما يصادفني من غرائب هؤلاء الموفدين، واسمح لي زيادة في الإيضاح أن أعطيهم أرقاماً متسلسلة.. |
العامل رقم (1) خطا نحو باب الورشة وأنا ألمح في يده مذكرة مكتب العمل، فاستعد لاستلامها ولكنه ما كاد يلقي نظرة عامة على الحوش المترب ويسمع المطارق تصم أذنيه حتى توقف لا يريم عن العتبة ثم يلوي عائداً من حيث أتى..!! |
العامل رقم (2) كان أكثر إقداماً من سابقه، فقد تخطى الباب ثم سأل عنّي وسلّمني الورقة فأسلمته إلى المعلم الذي كلفه بتنظيف قطعة معينة، فما كاد يبدأ العمل حتى تبيّن له أنه متعب فانسل من الورشة دون أن نشعر به عائداً من حيث أتى..!! |
العامل رقم (3) جالد عمله أسبوعاً.. غاب بعده أياماً ثم عاد ليسألني لماذا لا أضعه إلى عمال (الصباغ)؟ فلما أفهمته أن نظام العمل يقتضي التدريج أطال التحديق في مدى بعيد.. ثم استأنف: إذن حاسبوني.. وما كاد يقبض حقوقه حتى عاد من حيث أتى..! |
العامل رقم (4) كان أكثر جلداً من سابقه. فقد واظب نحو شهر ثم جاء يستأذنني لزيارة أمه في القرية، فلمّا أفهمته أن التحاقه بهذه المهنة يقتضيه المواظبة وأن المواظبة يترتب عليها زيادة الأجرة، كما يترتب عليها نجاحه في مهنة تدر عليه في المستقبل كسباً طيباً ما زاد أن ضحك وقال الرزق بيد الرزاق ثم مد يده إلى باقي استحقاقه وعاد من حيث أتى..!! |
العامل رقم (5) واظب على عمله أكثر من أربعة شهور، ولكنه كان يرهقني بطلبات السلف وعندما كنت أفهمه أن للسلف حدوداً لا يجوز أن تتعداها وأن نظامها مقدر بالأسبوع كان هذا لا يزيده إلاّ إلحاحاً، ومع هذا ظللت أجالده لشدة حاجتي إلى اليد العاملة فلم تجده المجالدة، ورأيتني في أحد الأيام أصفي حسابه فإذا هو استنزف راتبه قبل أن ينتصف الشهر فاضطررت لإنذاره فكان ذلك آخر يوم عاد فيه من حيث أتى..!! |
العامل رقم 6 إلى رقم 18 استقاموا عندي أياماً يتراوح عددها ما بين عشرين إلى تسعين يوماً حسب التواريخ التي التحقوا فيها بعملي، ثم أهلَّ شهر ذي القعدة فإذا هم يتسللون واحداً بعد الآخر بحثاً عن مرتزقهم في الأسواق، وعند المطوفين، وأصحاب الزمزم، وقد شعرت بمغبة هذا التسلل من أولى بوادره فانثنيت أناقش زملاءهم قبل أن يتسللوا لأقنعهم بأن الكسب المؤقت في الموسم لا يفيد مستقبلهم بقدر ما تفيدهم هذه المهنة إذا واظبوا على أعمالها، فكانوا يؤكدون لي بأن ما أقوله حقٌ.. ولكن هذا الحق ما لبث أن انبلج يوم نظرت في الورشة فإذا جميع مقاعدهم خالية، وعلمت أنهم لحقوا بإخوانهم عائدين من حيث أتوا..! |
هذه نماذج حية يشكو من نتائجها أكثر أصحاب الأعمال في بلادنا. وهي في رأيي من أشد الظواهر التي يتعيّن على وزارة العمل أن تحيل دراستها إلى الباحثين الاجتماعيين في الوزارة لعلّهم يجدون حلاً لعلاجها. |
-3- |
.. وقال لي أحد رجال الأعمال: لقد قرأتُ ما كتبته عن مشاكل العمل، ولكن المشكلة التي أرويها يصح أن يكون لها بند آخر. |
إن أعمالي لا ينفع لها أي شخص يوافيني ليطلب عملاً، لا بد له أن يتمرّن على شيء لا يعرفه ولم يمر بذهنه قط، ولا يكفي لتمرينه شهراً أو أكثر بل لا بد له أن يستديم إلى مدة ربما بلغت العام أو طالت إلى عامين. |
ولا تسل عمّا أتكلّفه أثناء تمرينه فأنا أدفع له مكافأة شهرية لقاء تعطيله مرتبطاً بالتعليم، وأنا أتقاضى إلى جانب ذلك عما يتلفه أثناء التعليم دون أن أتقاضاه شيئاً. |
ومع هذا فإنه لا يكاد يشعر أنه بات يتقدم خطوات فيما يتعلم حتى يصبح سيد الموقف. |
ربما عنَّ له أن يترك العمل ليسافر إلى بلده، أو يلتحق بأي جهة في العمل نفسه ليعمل فيها. |
سيقال إنه حر فيما يتصرف، وهذا حق يبدو ولأول وهلة لا غبار عليه ولكن.. صاحب العمل أليس له حق في مثل هذا المجال أو شبه حق؟؟ |
لقد فتح أمامه الباب ليتعلم وبسط أمامه جميع الأدوات ليتمرّن عليها كما تغاضى عن جميع الأخطاء وسامح فيما ناله من خسارة اقتضاها الحال.. ثم هو بعد ذلك أو قبله إن شئت لم يتقاضَ شيئاً عما بذل للتعليم بل تكلّف ما كان يدفعه شهرياً كراتب مقرر.. فما موقفه بعد هذا؟ |
إن نظام العمل لم يعيّن له موقفاً خاصاً لأنه ليس في مواده أن يتقاضى شيئاً عما بذل للتعليم. |
لم ينص هل يتعيّن عليه أن يفيد الورشة أو المصنع بما تعلمه إلى مدة مقدرة تتكافأ مع ما بذله المصنع في تعليمه أم ينطلق حراً ويترك الدار تنعى مَن بناها وهل يظل دار العمل يعلم كل يوم جديداً حتى إذا غادره الجديد استأنف المشقة مع غيره.. ثم مع غيره وغيره.. دواليك. |
من أجل هذا ظلّت الورش وظلّت المصانع تتحاشى أن تعلم طالب العمل فيظل حياته متسكعاً لا يجد ما يعمله.. وتضطر دور العمل لقاء هذا أن تحاول جهدها لاستقدام مَن سبق له العمل من خارج البلاد. |
ولا تثريب فيما أعتقد على صاحب العمل ما دام يعرف أن جهوده لتعليم العمال لا تجديه إلاّ خسارة.. جهوداً يقف المتعلم في نهايتها سيداً للموقف.. يواظب إذا عنَّ له أن يواظب بدافع من شهامته.. ويترك العمل إذا عنَّ له تركه دون أن يخشى نظاماً يحده أو قاعدة تلزمه بما أنفق المحل على تعليمه. |
ترى هل يعرف المسؤولون عن تقرير النظام الجديد للعمل والعمال أنهم إذا ظلوا يغفلون مثل هذا فيما ينظمون من مواد جديدة فإنما يسيئون بذلك إلى الثقافة الصناعية في البلاد؟ |
إن دور العمل لا تجرؤ على فتح أبوابها لطلاب التعليم فيما تحترف إلاّ إذا وجدت في نظام العمل ما ترتكز عليه ليضمن جهودها في التعليم وحقوقها عند من تعلمه.. وإلاّ فسيظل عمَّالنا على جهلهم متسكعين وتعيش دور العمل عالة على ما تستقدمه من خارج البلاد. |
|