شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الدكتور فهد العُرابي الحارثي ))
- لأحد أبناء الجيل الثاني من الأكاديميين في بلادنا الدكتور فهد العرابي الحارثي كلمة فليتفضل:
- بسم الله الرحمن الرحيم.
البروفسور أحمد خالد البدلي لم أزامله في الداخل في المعهد العلمي السعودي ولم أرافقه في القاهرة أو بلاد فارس أو بريطانيا العظمى، البروفسور البدلي التقيته في الرياض في كلية الآداب دكتوراً مليئاً كامل الأبهة كنت يومها معيداً صغيراً في كلية التربية، والكبير ليس له أن يلتفت فعلاً إلى صغير. كان ينظر إليَّ من فوق خشمه، علاقتي بالأدب وبالثقافة هي التي أفسحت لي في عينيه الضيقتين مكاناً لم يكن رحباً كما ينبغي ولم يكن وثيراً كما يجب لكنه في الأحوال كلها كان يتيح لي أن أراقب ما كان لافتاً حقاً في شخصية البروفسور أحمد خالد البدلي.
زملاؤه تحدثوا وسوف يتحدثون هذه الليلة عن جوانب العلم في حياته، أما أنا فسأتحدث عن الفلسفة في مواقفه وتصرفاته، البدلي أيها الناس يضحك قليلاً ولكنه يسخر دائماً، كل الذين عرفوه أو احتكوا به يسمعون منه ما لم يسمعوه من غيره، يضحكون دائماً لكنهم قليلاً ما يعيشون ويدركون المرارات السحيقة التي أراد أن يُبلغها لهم هذا الفيلسوف المر.. أحمد خالد البدلي. يسخر من نفسه، ومن التاريخ، ومن السياسة، ومن الأنثروبولوجيا، ومن الأرض كلها، وممن في الأرض كلهم، قليلاً ما نهتدي إلى حكمة البدلي أو العقل الكامن أو المستكين في سخرياته، هو متواضع إلى درجة الثقة المتناهية في النفس، وهو متعال إلى درجة أنه لا يأبه بأحد عندما يريد أن يفرغ ما في صدره، أو يفضفض كما نقول في لغتنا اليومية، ولأن الناس يعرفون عنه ذلك فإنهم يقبلون منه ما لا يقبلونه أبداً من غيره، ولأن الناس يدركون كم هو متواضع، وكم هو متعال في الوقت نفسه، فإنهم يمنحونه دون تردد الحق في أن يخوض ويخوض ويخوض في عُقَدِهِم الكبيرة وفي عُقَدِهِم الصغيرة، التي لا يقبلون لأحد أن يتجرأ على القرب منها أو يلامسها أو يلوك لسانه بها.. كلهم يستمعون وكلهم ينصتون ولكنهم قليلاً جداً ما يتعظون أو يتعلمون أو يدركون حكمةَ البدلي أو العقل المستتر في سُخرياته..
إنَّ دوراً بارزاً واحداً على الأقل ظلَّ البدلي يلعبه بين أصدقائه ومعارفه، ذلك الدور هو أن يحرضهم على أن يخلعوا عن وجوههم الأقنعة، وهو يحثهم على أن يُعرِّضوا أجسادهم للشمس وأدمغتهم للهواء الطلق فيبدأ البدلي بنفسه.. يرمي قِناعه أو أقنعته من أقرب النوافذ إليه.. فيدهش.. ثم يحس قريباً بمرارة الفشل إذ يلاحظ بعد قليل أن كلاً منا ومن المحيطين به لا ينفك يتشبث حتى الفناء بقِناعه أو هي أقنعته..
أوه يا سيدي الفيلسوف إنك تنسى أننا أجبن وأهون من أن نجلس مع الناس، أو أن نتحدث إليهم، أو أن نصارحهم أو أن نمشي في جنائزهم بلا أقنعة. أوه يا سيدي الفيلسوف إنك تنسى أننا لا نستطيع أن ننظر إلى وجوهنا في المرآة ونحن نخلع عنها الأقنعة ولا نقوى أبداً على أن نخلو إلى أنفسنا أو إلى زوجاتنا ونحن نخلع عن وجوهنا كل الأقنعة، إنَّ الأقنعة هي التي تتحدث بالنيابة عنا، وهي التي تُصاهر وتُصادق وتُحب بالنيابة عنا، هي الحاضرة دوماً، ونحن الغائبون أبداً سيدي الفيلسوف.
ولكن البدلي لا ييأس، ولا ينفض يديه منا، فهو يواصل فلسفته فيسخر من نفسه، ومنَّا، ومن الأرض ومن جميع من هم فوق الأرض. إنني أعرفه حق المعرفة أيها السادة.. ولولا خوفه من أن يزعجكم وهو الذي حضرتم الليلة إلى هنا كي تكرموه وتحتفوا به، لولا خوفه من أن يزعجكم، لخلع أمامكم الآن كل الأقنعة، ولقال لكم بلهجته المكية "الحاروية" الصارخة التي لا تبقي ولا تذر "يلا انتو كمان اخلعوا يا.. أختكم" إنني لا أستبعد أبداً أن يفعلها قبل أن يغادر هذا المكان.
هذه هي فلسفة البدلي، الخروج إلى الناس بلا أقنعة، وتنفس الهواء الطلق أو غير الطلق بلا أقنعة، والحب إلى الذؤابات بلا أقنعة.. كثير من أقوال البدلي أيها السادة لا نستطيع أن نكتبها ولا نستطيع أن نقولها من فوق منبر أو عبر مكبرات الصوت، قد نقولها همساً، ونحن نتلفت، قد نقولها بالإشارة ونحن نتحسس أصابعنا ونتلمس شفاهنا.. ولكن لا بأس من أن أروي لكم هنا بعض الكثير مما أعرف.. طبعاً الذي سأرويه هنا سيكون من الوزن الخفيف جداً.. الحليم جداً.. الرقيق جداً.. الحنيّن جداً.. الذي يتحمله المنبر والذي لن تضيق به مكبرات الصوت.. ولن أعلق بشيء عما سأرويه، لأنني أخاف أن أقول لكم كل ما أفهمه من مواقف البدلي وتصرفاته.. إنني أحس أنها تحمل معاني ودلالات عميقة، وفي الصميم وعليكم أنتم أن تستنبطوها، وأنا شخصياً مثل الكثير بينكم متشبث بقناعي والله حسبي وحسبكم.. خذوا هذه:
عُيِّن الأستاذ أحمد خالد البدلي عميداً لمعهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، التابع لجامعة الملك سعود خلفاً للدكتور محمود اسماعيل الصيني.. فجاء إلى زملائه في كلية الآداب في اليوم التالي يقول: "يا عيال أو ما لاحظتم في المعهد أنَّ الصيني ملأَ المعهد بالصينيين.. والله لأمليه لكم تكارنه".
خذوا هذه أيضاً.. ذهبت شلة الدكاترة الأولين، الحازمي والأنصاري والضبيب والشعفي والشاذلي والشامخ وطبعاً البدلي، لمقابلة معالي المرحوم الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ وزير المعارف والتعليم العالي فيما بعد، يشكون له أوضاعهم المالية في ظل تدفق الأموال على الناس أجمعين، فما وجد الشيخ حسن رحمه الله إلا أن يقول لهم بأنهم هم الثروة الحقيقية للبلاد، ولا يجب أن يُلقوا بالاً لوسخ الدنيا، فعندما غادروا مجلس الوزير وباتوا في الشارع، سُئل البدلي عن رأيه في اللقاء فقال: الحقيقة أنني اقتنعت بأنني ثروة ولكن الحمد لله أنهم ألغوا الدكة اللي في مكة.
من شلة الدكاترة الأولين، الدكتور الضبيب والدكتور البدلي وهما صديقان حميمان، وكان للدكتور البدلي رأي واضح في الشعر النبطي، الذي يتحمس له الضبيب، وتروج له الصحف وغير الصحف، فيقول دائماً إن هذا شعر خاص بالبدو وبأهل نجد وأنتم بلغتكم يا أحمد ما تنفهم، شوف أنا تعلمت الفارسية أقرأها وأكتبها وأتحدث بها بطلاقة، وحضَّرت في أدبها الدكتوراة، كل ذلك في خمس سنين، ولكني أسكن الرياض من خمس وعشرين سنة، وحتى الآن لا أستطيع أن أفهم لغتهم، ثم يضيف أرى أن نتقدم أنت وأنا إلى الجامعة باقتراح لإنشاء معهد على غرار معهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ونسميه معهد تعليم اللهجة البدوية لغير الناطقين بها.. وهكذا يمكن أن يفتح الله على سكان المملكة الآخرين بفهم الشعر النبطي اللي امتحنتونا فيه الله يمتحنكم.
وما دمنا في سيرة البدو.. وأنا غير معني بهذه الكلمة، فالدكتور البدلي لم يسلم منه حتى أصدق أصدقائه من البدو، وهو الدكتور منصور الحازمي، ومن تشنيعاته عليه التي لم يستطع الدكتور الحازمي أن يتخلص منها إلى هذا اليوم، أنهم عندما ذهبوا إلى القاهرة طلاباً هناك، اشترى الحازمي كما يروي البدلي "روب دي شامبر" (1) ومن شدة إعجابه به، كان يلبسه حتى وهو في الجامعة.. بدوي.. ويقول البدلي عن الحازمي نفسه إنَّ اسطوانة الغاز عندما فرغت من الغاز في القاهرة وجاء البواب لأخذها، رفض الحازمي أن يعطيه الأنبوبة، وعندما أصر البواب، أخذ الحازمي السكين وهو يقول: تخسأ لحيتك، والله ما تأخذها هذه حقتنا.. كيف تأخذها؟
 
للتاريخ.. الحازمي يزعم ويغلظ في الأيمان بأنَّ هذا لم يحدث قط.. العيار الثقيل أيها السادة من أقوال البدلي لا تحتمله المنابر، ولا مكبرات الصوت، يتداوله فقط أصدقاؤه الذين فشل في أن يعلمهم شيئاً من حكمته، وأنا بلا فخر واحد من هؤلاء.. إنَّ أصدقاءه ما زالوا يتشبثون بأقنعتهم، وإنه هو لم ييأس قط.. تعيش أيها الفيلسوف العنيد البروفيسور أحمد خالد البدلي.
والسلام عليكم.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :628  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج