أضواء على حياة محمد سعيد عبد المقصود خوجه |
صاحب الريادة في.. الأدب والصحافة والاجتماع
(1)
|
بقلم: د. محمد بن سعد آل حسين |
منذ قرأت المقدمة التي كتبها الأستاذ المرحوم محمد سعيد عبد المقصود لكتاب (وحي الصحراء) ذلك الكتاب الذي جمعه بالاشتراك مع الشيخ عبد الله أبا الخير وطبعاه عام 1355هـ، منذ قرأت تلك المقدمة وأنا أتلفت بين حين وآخر لآثار ذلك الرائد، وأتلمس أخباره، فلا أجد ما يشفي سوى ما نقلت بالتصوير من الصحف والمجلات، حتى جمعتني الصدفة بابنه الشيخ عبد المقصود، الذي أفادني في أول مجلس بما فتح لي باب البحث. |
لقد أقبلت على ما عندي من مصورات ونتف أخبار فألفت شتاتها واستنسختها وأخذت في دراستها حتى ظفرت بجهد متواضع سأقدمه لأبناء وطني، وبخاصة الشباب ليتبينوا كيف كان أسلافهم، وليقبسوا من نور آرائهم وأفكارهم، التي لم تدفعها النزعة إلى الجديد، إلى إهمال الموروث، بل حفظت موروثها وحرصت على أن تطعمه بصالح الجديد، دون أن يذوب فيه أو ينهزم أمامه. |
وأملي أن أكون بهذا العمل قد أسهمت في خدمة فكر أمتنا وأديت شيئاً من الواجب حيال أولئك الروّاد وتراثهم. |
يعد الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود من مخضرمي العهود التركية والهاشمية والسعودية، وهذا يعني أنه كان في الطليعة من الروّاد الذين كان على أيديهم إيقاظ الأدب من غفوته، التي طال به الأمد فيها حتى بات أشكالاً بالية عبثت فيها أيدي العاجزين. |
ولقد وصف الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود عصره وما قبله في أدبه، وبخاصة تلك المقدمة التي كتبها لكتاب (وحي الصحراء) ثم ما كتبه من مقالات متناثرة هنا وهناك. |
ولكوننا لا نرتاح للتكرار وملء الصفحات بما يمكن أن يغني عنه سواه، فإنا لن نطيل في حديثنا عن عصر صاحبنا، ولسبب آخر، هو أنك تجد الحديث عن هذا العصر مبسوطاً في مؤلفات المتأخرين. لقد عرف صاحبنا الحياة واستقبل التعليم في أيام كان يرى كل ما من حوله مشوباً بالعجمة إن لم يكن جميعه أعجمياً. |
فلقد دخلت اللغة التركية الدواوين الرسمية والمطابع والمكتبات والصحف مع قلة هذه الوسائل وهزالها، ثم كان حزب الاتحاد والترقي الذي كان يحاول فرض آرائه وأهدافه على الناس. |
وفي عام 1334هـ انتهى عهد الأتراك في الحجاز وبدأ العهد الهاشمي، ومع أن دبيب الحياة في الوسائل التثقيفية من مدارس وصحف ومطابع ونحوها كان بطيئاً وهزيلاً، إلاّ أن البون كان شاسعاً بين العهدين التركي والهاشمي. |
وفي عام 1343هـ بدأ العهد السعودي في الحجاز، العهد الذي وحدت فيه البلاد وباتت في نجوة من الحروب وويلاتها ومن أطماع الطامعين الذين يرهقون بنزواتهم العباد، ويمزقون بأهوائهم البلاد فيسود الفساد والاستبداد لقد انتهى ذلك في العهد السعودي، فاستقرت الأحوال وهدأت النفوس، وأخذ الناس في جد يصلون العمل بالعمل والجهد بالجهد ليلحقوا بالركب في ما جاورهم من البلدان. |
فانتشرت المدارس والصحف والمطابع وتقدمت أساليبها، ولهذا حديث إن شاء الله. |
لقد نشأ الشيخ محمد سعيد عبد المقصود في هذا الجو الذي أومأنا لحاله، فمن هو محمد سعيد عبد المقصود خوجه؟ |
لقد سعيت إلى الشيخ محمود حافظ الحسني القرشي، صهر الشيخ محمد سعيد فتزودت منه عن الرجل بأحاديث نجني ثمارها في هذا البحث، ثم في الدراسة الموسعة التي فرغنا منها والتي ستجد طريقها إلى أيدي القرّاء قريباً إن شاء الله. |
الشيخ محمد سعيد عبد المقصود هو ذلك الرجل الذي ولد ونشأ في بيت علم وأدب بمكة المكرمة، وكان جده عبد المقصود خوجه عالماً أزهرياً من أبناء الفيوم بمصر نزح إلى الحجاز في العهد التركي. |
وكان يجيد علم الحساب إلى جانب علوم اللغة والدين، فعمل مدرساً في المدرسة الرشدية بمكة المكرمة، وكان الناس في الحجاز ومصر يطلقون على من يرتدي الزي الأزهري ويمتهن التدريس لقب (خوجه أفندي). |
حين توفي محمد سعيد عام 1360 كان الناس يقولون إنه توفي في السادسة والثلاثين من عمره وهذا يعني أنه ولد عام 1324 أو 1325 ومكان ولادته مكة المكرمة وفيها كانت دراسته بمدرسة الفلاح ثم في الحرم المكي حيث أخذ عن جملة من علمائه. |
كما لزم الشيخ إبراهيم خلوصي سنتين أخذ فيهما عنه الخط والإملاء، حتى أتقن ذلك كشيخه إبراهيم الذي اشتهر في الحجاز بإجادة الخط وله في ذلك كتاب. |
وفي عام 1350 التحق بالحسبة (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو أول من التحق بها من أهل مكة، وكان الناس يعجبون من أمر هذا الشاب الطويل الأبيض، الوسيم العصري الأديب، الذي يدور على أرباب المحلات ويلزمهم بالقيام إلى الصلاة، وذلك لأنه ما كان يلتحق بهذا العمل إلاّ من جاوز مرحلة الشباب، وكان هو آنذاك في السادسة والعشرين. |
وفي عام 1353 انتقل محاسباً لصحيفة أم القرى ومطبعتها، وبعد عام عيّن مديراً للجريدة والمطبعة، فأقبل على عمله الجديد بنشاطه المعهود، وأخذ على عاتقه تطويرها بعد أن سماها مطبعة الحكومة، وأرسل بعثتين إلى مصر، الأولى في أول عام 1357 ومهمتها إجادة فن الطباعة والتجليد، والثانية في آخر العام نفسه ومهمتها الدراسة في معمل الطوابع والزنكوغراف، وكان لهاتين البعثتين أثر كبير في تطوير فن الطباعة إلى ما أضافه إلى أجهزتها من إضافات، وله في الطباعة بحث. |
وظل مديراً للجريدة والمطبعة إلى أن اشتد به المرض في آخر عام 1360، فأناب مكانه في الإدارة الشيخ عادل ماجد كردي، ورحل إلى الطائف حيث نصحه الأطباء بالإقامة هناك، وأنزل في قصر الشيخ يوسف ياسين، حيث توفي هناك رحمه الله. |
وقد خرج جميع أدباء ووجهاء مدينة مكة وجدة إلى الطائف لتشييع جنازته، وذلك لما كان يحظى به من منزلة أدبية وعلمية واجتماعية، ودفن بجوار مسجد ابن عباس في المقبرة الخاصة بكبار العلماء والوجهاء. وحين أُصيب بالمرض كان كبار المسؤولين وجميع الوجهاء في زيارة له متصلة، يرحلون إليه من مكة وجدة وغيرها. |
وفي الحديث عن دأبه في العمل الفكري، قال الشيخ محمود حافظ: (إن الشيخ يوسف ياسين) حين عاد الشيخ محمد في مرضه قال لي ((لقد قتل هذا الرجل نفسه بالدأب في العمل)). وكان الشيخ محمود يحدثني بذلك وهو متصل البكاء، كما قال وكان محباً لأعمال الخير كثير البذل في سبيلها حتى إن الناس كانوا يظنون به الثراء الكبير من كثرة ما يقدمه من تبرعات، وعندما توفي عيّن الملك عبد العزيز: رحمه الله: لأبنائه الصغار مرتباً تقاعدياً كان ثلث راتبه، وكان من أوائل الأشخاص القلائل الذين حصلوا على المرتبات التقاعدية.. |
وحدثني الشيخ محمود حافظ بأنه يذكر أنه كانت لمحمد سعيد مكتبة ضخمة في منزله، وكان مما حوته هذه المكتبة مذكراته ومخطوطاته، وكانت مكتبة كبيرة الحجم، لكن هذه المذكرات والمخطوطات قد ضاعت، فلم نعد نعرف عنها شيئاً.. |
قال: وكان يقرأ كثيراً وكان مولعاً بقراءة الكتب الأدبية والتاريخية، وخصوصاً كتب التراث، وكان إذا -قرأ الكتاب يحرص على التهميشة عليه بما يبتدر ذهنه من معلومات إضافة أو نقداً. |
وكانت له يد مشكورة في طبع كثير من كتب التراث مثل كتاب (الأزرقي في تاريخ مكة) تحقيق رشدي ملحس، لكن الشيخ محمد سعيد عبد المقصود كان يزهد في أن يذاع صنيعه في إخراج هذه الكتب ومن هنا خلت من ذكر اسمه، والمعاصرون له من المهتمين بالفكر يعرفون ذلك جيداً.. |
وكانت له نشاطات اجتماعية وأدبية، منها أنه كان يقيم في يوم 10 من شهر ذي الحجة حفلاً كبيراً (بمنى) في منزل الشيخ ماجد كردي، لأنه كان يحتوي على صالة واسعة جداً، وكان الشيخ محمد سعيد عبد المقصود يدعو إلى هذه الحفلة التي يقيمها سنوياً كبار شخصيات الحجاج من علماء وأدباء وسياسيين وعسكريين، وقد أطلق عليها (حفلة التعارف) وكان يطبع لها بطاقات بهذا العنوان تسلم لكبار الشخصيات، وكان يحضرها أيضاً وجهاء البلاد السعودية، ويتولى افتتاحها بخطبة أدبية بليغة فيها ترحيب بالحاضرين والوافدين، ثم يتولى تقديم الخطباء والشعراء واحداً بعد الآخر، وكان رجال الفكر من المسلمين العرب وغير العرب يقبلون على هذه الندوة ويعدونها بمثابة احتفال العيد والحج. |
ويبدو أن السبب في إعراض الأدباء عن الإشادة بالشيخ محمد سعيد والاهتمام بتراثه أنه كان المنافس الأول في ميدان الفكر والإصلاح للشيخ محمد سرور الصبان الذي كان أقوى نفوذاً منه. |
يقول الشيخ محمود حافظ (ومع هذا بلغني أن الشيخ محمد سرور الصبان قال بعد وفاة الشيخ محمد سعيد: لقد خسرت البلاد بوفاة هذا الرجل خسارة كبيرة، ربما أحس بها أنا أكثر من غيري). |
هذه لمحة عن حياة الشيخ محمد سعيد عبد المقصود خوجه، لم نعرض فيها للحديث عن أدبه، ولم نتحدث فيها عن فنه وأسلوبه، اعتماداً على ما بسطناه في الكتاب الذي ضمناه ما عثرنا عليه من مقالاته، وأملنا أن نكون قد وفقنا في هذا وذاك إلى خدمة فكر أمتنا وروّاد ذلك الفكر، الذين ما زال يعيش بين ظهرانينا من صفوفهم من سيكون لأدبه وإسهامه حديث.. |
|