(الحلقة الثالثة) |
حوادث الإدريسي واليمن: |
لقد كان العالم العربي الإسلامي يظن أن سيادة الإمام يحيى أحفظ الناس على تدعيم أركان المملكة العربية السعودية، وبالأخص بعد حادثة جبل العرو، ولقد كان يظن أن سيادة الإمام أبعد الناس عن إثارة الفتن، وإيقاد نارها، هكذا كان يظن المسلمون والعرب، وأنا أحد الذين كانوا يؤمنون بذلك ويقولون به، ولكن والأسف ملؤ الفؤاد فإن الأيام أظهرت في جلاء تام أن حقيقة سيادة الإمام غير ما يؤمل فيه، أظهرت الحوادث أن لسيادة الإمام غايات ليست من صالح المسلمين ولا العرب. لم يظن أن سيادة الإمام يحيى يسعى لإثارة الأدارسة في عسير وتعضيدهم وتشجيعهم على القيام بتلك الفتنة التي ذهب ضحيتها الكثير من أبناء العرب، بأيدي العرب في بلاد العرب، ولم يكن يظن أن سيادة الإمام يمد يده لبريطانيا ويتنازل لها عن قسم كبير من بلاد اليمن، وصميم اليمن. |
لم يكن يخطر على بال المسلمين والعرب أن سيادة الإمام يحيى يقابل حسنة جبل العرو بسيئة فتنة الأدارسة واحتلال نجران، وتجنيد الجنود لاحتلال الجبال التابعة للمملكة العربية السعودية، من غير مبرر ولا موجب: |
ومهما تكن عند امرء من خليقة |
وإن خالها تُخفى على الناس تُعلم |
|
يرجع تاريخ دس الدسائس لإثارة فتنة الأدارسة إلى شهر شوال عام 1350هـ وقد كانت بطبيعة الحال تتمشى مع سياسة الفتن فكانت بالدعاية لها في الخفاء؛ كان الإدريسي يسعى لإشعال نار الفتنة في الداخل؛ وعمَّال سيادة الإمام يسعون في توسيع نطاقها من الخارج، وقد علمت الحكومة العربية السعودية بذلك، ولكنها لم تشأ أن تستعجل الأمور فتربصت لتأخذ المجرمين بجنايتهم. |
- في شهر جمادى الأولى عام 1351هـ ظهرت بوادر الفتنة بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك، وفي الساعة السادسة من 6 رجب عام 1351هـ أُطلق رصاص الفتنة من قبل الأدارسة وعقبها الإمدادات من جهات اليمن؛ كان عمال سيادة الإمام يمدون الإدريسي بأرزاق وجبخان، وقد قبضت الحكومة على بعض ذلك، كما أنها قبضت على عبد العزيز اليماني آتياً جيزان من جهات اليمن. على هذا الشكل حدثت ثورة الإدريسي، وبهذه الصفة وقعت.. وأراد الله أن قضى السيف على فتنة الأدارسة، وانتهت بفرار الإدريسي وأذنابه إلى اليمن، فتقبله سيادة الإمام، وأخذ يعمل في الذود عنه. |
هذه الفتنة وما أعقبها من حوادث أظهرت في جلاء تام أن من في اليمن لهم أصابع قوية في تحريكها، نحن لا نبرئ الأجانب من أن لهم غايات ومقاصد، وأنهم أحد المحركين لهذه الفتنة، لا نبرؤهم ولكننا نقول والأسف ملؤ فؤادنا أن الأجانب لم يأتوا العرب إلاَّ عن طريق العرب، فإذا أحسنا الظن ولم نجزم أن هذه الفتنة مصدرها الوحيد اليمن، فنحن لا يخالجنا شك في أن من في اليمن كانوا همزة وصلها -للأسف- والله يعلم أننا نكتب هذه الحقائق ونحن خجلون منها، ولكن إظهار الحقائق المرَّة والمؤلمة خير من الغش والتدليس لأن التاريخ أجلَّ وأعظم من أن يقبل ذلك أو يرضى عنه. |
المطالبة بإعادة المجرمين: |
تقول المادة الثانية من معاهدة اليمن ما لفظه بالحرف الواحد: ((يكون على كل من الدولتين تسليم المجرمين السياسيين وغير السياسيين المحدثين بعد هذه الاتفاقية إلى كل حكومة عند طلب حكومته له)). وتقول المادة الخامسة ما لفظه: ((على كل من الدولتين عدم قبول من يفر عن طاعة دولته كبيراً أو صغيراً مستخدماً أو غير مستخدم وإرجاعه إلى دولته حالاً)). |
هذه نصوص صريحة لا تقبل التأويل وليس فيها مدعاة للشك. الإدريسي ومن معه مجرمون فروا عن طاعة دولتهم أمر ظاهر؛ فعلى أساس عهد الله، وما جنت أيديهم طلبت الحكومة العربية السعودية إعادتهم، فلم يكن من سيادة الإمام يحيى إلاَّ أن طلب العفو عن المجرمين بحجة أنهم استجاروا به (وهذا هو المطلب الأول)، قبلت الحكومة ذلك وأعلنت العفو عنهم، وأمنتهم إذا هم عادوا. بعد هذا عاد سيادة الإمام فطلب بقاءهم لديه على أنه كفيل على ما يحدث منهم (وهذا هو المطلب الثاني)، قبلت الحكومة ذلك واشترطت إبعادهم عن أطراف الحدود. بعد هذا عاد سيادته فتمادى في الطلب، فطلب تعيين مرتبات ومخصصات تقوم بأود المجرمين (وهذا هو المطلب الثالث) فقبلت الحكومة وخصصت للمجرمين ألفين وخمسمائة ريال في كل شهر. |
من العدل والإنصاف أن نبحث هذه المطاليب الثلاث، ولأن المسألة، مسألة استدراج لتمثيل دور سياسي وإحداث فتن جديدة نقول: |
المطلب الأول: القانون لدول العالم يحرم على سيادة الإمام أن يتدخل في شؤون دولة مستقلة ذات سيادة كالدولة العربية السعودية هذا من جهة، كما أنَّ طلب العفو عن مجرم قام بفتنة فُقد فيها من العرب المسلمين الشيء الكثير لا يقبله العدل ولا يقره من جهة ثانية، ثم إن هذا نقض صريح لمعاهدة 8 شعبان من جهة ثالثة. |
إذا قلنا إنَّ من في اليمن لم تكن لهم يد في فتنة عسير، وإن سيادة الإمام أبعد الناس عنها؛ فما معنى امتناع سيادته عن إرجاع الأدارسة حالاً؟ وما معنى طلب العفو عنهم، زد على ذلك أن هناك سبباً أعظم يوجب على سيادة الإمام إرجاع الأدارسة وهو تأصل العداوة بين الجانبين حتى إن سيادة الإمام هجا الإدريسي بالشعر ومن ذلك ما يأتي: |
وليس بذي تقوى ولا ذي مروءة |
ولكنه عبد اللهى واللهازم |
|
كما أنه كان سيادة الإمام يسمي الإدريسي ((الضال))، كل هذا يجعلنا في شك من أمر الصداقة الجديدة. إن الحقيقة التي لا غبار عليها أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هناك أشياء تحاك، وأن الأدارسة أحد خيوطها، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله. |
المطلب الثاني: الذي يغدر أولاً ليس من المستبعد أن يغدر ثانياً، وكون سيادة الإمام يطلب بقاء الأدارسة في بلاده وقد غدروا بحكومتهم، ليس من الحكمة في شيء، والمصلحة تقضي بإبعاد أمثال هؤلاء، وإني لخجل أن أقول إنَّ قبول سيادة الإمام للأدارسة ليس حبًّا في سواد عيونهم، لا، وإنما ليتخذهم آلة يحرك بهم مكان الفتنة متى أراد ذلك.. ((ويلي عليك وويلي منك يا رجل)). |
المطلب الثالث: أن طلب سيادة الإمام تخصيص مخصصات لرجل استجار به -كما يدعي- ليس من شيمة العرب في شيء؛ وإذا كان سيادة الإمام عاجزاً عن صرف شيء بسيط لشرذمة بسيطة استجارت به -كما يدعي- فهو عن الأشياء الأخرى أعجز. |
والحقيقة أن كل ما جاء في المطاليب الثلاث لم يكن على وجهته، وإنما كان يقصد من ورائه إحداث التصادم مع سيادة الإمام، كأن يعتقد أن الحكومة العربية ترفض هذه المطاليب، وتتصلب في إعادة المجرمين، وتشدد في معاقبتهم، وتقتر عليهم، ولكن الحكومة العربية كانت تسعى جهدها للتقرب من سيادة الإمام، فلم يكن بالمهم عندها بقاء الإدريسي في مكان بعيد عن إثارة الفتن، ولا بالمهم عندها معاقبة طائفة خدعتها غواية الدساسين المضلين، وليس بالمهم تخصيص مبلغ يقوم بأودهم، كل ذلك ليس بالمهم عندها، لأنها كانت تسعى لغايات شريفة أعظم بكثير مِنْ مثل هذه الخزعبلات ولكن من في اليمن لم يعملوا لمصلحة العرب، وسنأتي على ما وضعوه من عقبات لذلك في أبحاثنا المقبلة. |
للبحث صلة (متألم)
|
|