من الذاكرة: |
مصحف مكة المكرمة
(1)
|
بقلم: عبد الله حبابي |
أستسمح القارئ الكريم المتابع وأستميحه العذر في تعدد ((القفز)) في هذه المقالات والانطلاق من شاطئ إلى شاطئ، نسبح أحياناً في سيرة الذات، فإذا بنا نغوص تارة في سير الحواري، ويجرفنا اليم إلى سير الناس، ثم نخوض أعماق التراث المتعدد الجوانب ومعذرة فنحن لعمقه لا نقدر على خوضه بل نلمسه لمساً خفيفاً ونمسحه مسحاً هيناً على قدر المقدرة، ولا يخلو الأمر من القرب والتقرب للأدب ورجاله والفكر ومبدعيه، ولعلّ في مداخلات الأصدقاء ما يثري المقال ويحفز على الوصول إلى حفافي الإتقان، كما أن في الحديث عن ((الأحاديات)) أي تلك المعالم ذات السمات الأحادية المتفردة ما يضيف ويضفي نكهة المعرفة وشوق التطلع والاستطلاع على قيمة تلك المعالم وعلى جهود الروّاد الأوائل لإحالة الأحلام إلى حقائق ناطقة بالخير والفضل، وعبرها نتكشف نوعية الرجال. |
وجزى الله خيراً كل من يسهم في التذكير أو التعريف، بما قد يغيب عن الذهن من معالم حياتنا القريبة التي كدنا مع زحمة الحياة أن ننسى ملامحها، وجزى الله خيراً دعاء طيباً أسوقه وأبتهل به والقلم يجري مدراراً للعزيز الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، ربيب التراث الذي يعيش ويتعايش معنا في ما أحاوله من تذكر عن معالم مكة المكرمة.. وكلها معالم كريمة تنضح أمجاداً تاريخية ونضارة من تراث، لا نكاد نغفو بعد ذكر أي منه، حتى نفيق وندرك أن هناك أرصدة من كنوز ((جهد الأوائل)) لا تزال في الخبايا. |
هكذا يهديني الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، من حين إلى آخر، ما يهدي قلمي سواء السبيل وليهد الله به وبنا.. وأحادية اليوم هي من إهدائه عن (مصحف مكة المكرمة). |
إن في (رواية) إقدام الشيخ محمد طاهر الكردي الخطاط الفنان والمؤلف التراثي الراسخ القلم والمدرس.. إن في هذه الرواية -كما رواها الأستاذ محمد علي المغربي في كتابه أعلام الحجاز الجزء الثاني- ما يحدو بنا لنستنبط قصة كفاح هذا الرجل الفلاحي الأزهري وعزمه على تنفيذ هذا العمل الجليل في كتابة مصحف مكة المكرمة بخط يده يقول الأستاذ محمد علي المغربي: (في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، حضر الشيخ محمد طاهر الكردي إلى مكتب المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان بالطائف كان الشيخ المغربي يعمل في مكتب الشيخ محمد سرور وطلب مقابلته وقال له: إنني عزمت على كتابة القرآن الكريم بخط يدي.. فأبدى الشيخ محمد سرور ترحيبه بذلك مشيراً إلى أن هناك شركة تأسست حديثاً للطباعة والنشر.. فلماذا لا تتفق مع هذه الشركة على شراء هذا المصحف الذي تنوي كتابته لتقوم بطبعه ونشره بين الناس؟ |
كانت هذه الشركة قائمة إلاّ أنها تعرضت للخسارة فقام الشيخ محمد علي المغربي بمشاركة الأستاذ عبد الله باحمدين بشرائها. |
ورحب كل من الشيخ الكردي والشيخ المغربي بفكرة الشيخ محمد سرور، واتفق الرأي بينهما وبالاتفاق مع الشيخ باحمدين على أن كتابة المصحف ستكون بداية لعمل عظيم، فهو أول مصحف يكتب في مكة المكرمة ويطبع وينشر فيها. |
كان الاختلاف الوحيد، كما يذكر الشيخ المغربي، هو أن الشيخ طاهر حدد المدة اللازمة لإتمام كتابة المصحف الشريف في حدود عامين، في حين كان الشيخ المغربي متعجلاً وراغباً في إتمام هذا العمل خلال عام واحد.. وهنا قال الشيخ طاهر للشيخ المغربي؛ إن هذا عمل بالغ الدقة ولا أستطيع الإقدام عليه، إلاّ وأنا في حالة نفسية متهيئة، وقد أبدأ بالكتابة واستمر فيها أياماً وأسابيع، ولكن قد يطرأ ما يمنعني عن الإمساك بالقلم أياماً وأسابيع أخرى، فدعني أتصرف بما يمليه علي مزاجي ولا تنس أن الخط عمل فني مثل الرسم والشعر والكتابة، والفنان لا يقدم على ممارسة فنه، إلاّ إذا تهيأت له الأسباب النفسية أولاً. |
هنا يواصل الشيخ المغربي القول: كنت أعرف أن ما يقوله الأستاذ طاهر صحيح كل الصحة، فوافقت عليه.. هذا وقد طلب الشيخ طاهر ورقاً معيناً وأقلاماً وأحباراً معينة، وكان الزمن زمن حرب، ولكن الله يسر الأمر، فوجدنا كل ما طلبه في مكة المكرمة.. وبدأ العمل واتفقنا أن يكون المصحف موافقاً للرسم العثماني ومضت الشهور وكنت كلما رأيت الشيخ طاهر سألته ماذا فعل؟ فيجيب بأنه مستمر في عمله.. وكان قد أحضر لي بعض الصفحات من أوائل ما كتب وأطلعني عليها، ثم عاد بعد أسابيع على نفس هذه الصفحات وقد كُتِِبَتْ مرة أخرى بخط أحسن.. وقال إن هذا هو الفارق بالنسبة إلى مزاج الخطاط حينما يكتب. |
ثم يردف الشيخ المغربي بأن الشيخ طاهر انتهى من كتابة القرآن الكريم بعدما يقرب من ثلاثة أعوام. وقبل الانتهاء، كنا قد تقدمنا إلى الحكومة نطلب تأليف لجنة للتصحيح، فألفت الحكومة لجنة تتكوّن من الشيخ عبد الظاهر أبو السمح إمام المسجد الحرام في ذلك الوقت والشيخ صالح حجازي شيخ القرّاء في مكة المكرمة والسيد محمد شطا والسيد إبراهيم النوري من وزارة المعارف.. وللتاريخ إن السيد إبراهيم النوري تفرغ للمراجعة والتصحيح، وأعطى هذا العمل جهده وكامل اهتمامه. |
وحين عرضت عليه مكافأة مقابل ذلك اعتذر عن قبولها فاعتبرناه مساهماً في الشركة التي تألفت وأسميناها شركة مصحف مكة المكرمة، واستوردنا لها مطبعة خاصة من أمريكا، وللسيد إبراهيم النوري جدّ يدعى الشيخ عبد المعطي النوري كان له كُتّاب من أهم الكتاتيب لتخريج حفظة للقرآن (انظر كتاب مكة في القرن الرابع عشر الهجري لمحمد رفيع). |
ويورد الشيخ المغربي أنه بعد أن انتهى العمل والتصحيح قام السيد إبراهيم النوري بحضور الشيخ باحمدين والشيخ المغربي بتقديم نسخة المصحف يومها إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل النائب العام لجلالة المغفور له الملك عبد العزيز.. وأبدى سموه إعجابه واقترح عرضه على جلالة الملك عبد العزيز، الذي سُرّ به كثيراً أو أثنى على القائمين بالأمر ونفح كلاً منهم مبلغاً من المال تعبيراً عن تقديره وإعجابه. |
تولى الشيخ المغربي إجراءات عمل الإكليشيهات ومتطلباتها في مصر حيث تعاون معه في هذا الأمر هناك الأستاذ صادق سعيد بازرعة والسيد محمد عرفة شيخ المسجد الحسيني، والشيخ محمد علي الضباع شيخ المقارئ المصرية. وجرى الاتفاق مع مصنع الإكليشيهات على أن يقوم الشيخ الضباع بتصحيحها ثم إصدار الرخصة بطبعها. |
أخذ هذا العمل من الأستاذ محمد علي المغربي في القاهرة شهوراً وهو يتردد أسبوعياً على العمل إلى أن انتهت الإكليشيهات، ولم يبق إلاّ تصديرها إلى المملكة. وهذا يتطلب تذليل الصعوبات المتعلقة بالتصدير من مصر. ووافقت هذه المرحلة زيارة الملك عبد العزيز الرسمية والتاريخية إلى مصر، وصادف أن كان الشيخ محمد سرور الصبان من ضمن مرافقيه، فاستطاع، عبر اتصاله بالوزير الوفدي إبراهيم عبد الهادي باشا وكذلك وزير المالية مكرم عبيد باشا، تسهيل تصدير الإكليشيهات إلى المملكة ووصولها إلى مكة المكرمة حيث تم طبعها لشركة المصحف. وتولى السيد إبراهيم النوري إدارة شؤون هذه الشركة وهكذا سخر الله لهذا العمل الجليل أن يحظى بتشجيع الملك عبد العزيز وسمو الأمير فيصل وتكللت الجهود المتكاثفة والمتكاتفة للخطاط الفنان محمد طاهر الكردي والشيخ محمد علي المغربي والشيخ عبد الله باحمدين والسيد إبراهيم النوري وتوجيه الشيخ محمد سرور الصبان ونفوذه بإخراج مصحف مكة المكرمة. |
رحم الله جميع هؤلاء على ما قدموا!! |
ولا يمكن هنا إغفال عنصر (العزيمة) وعلى قدر أهل العزم تؤتى المكارم. فقد كانت الإرادة والعزيمة تملأ نفس كل منهم وتضافرت الأدوار لقهر العوائق والسباق مع الزمن.. وكان لكل دوره الجليل، فالشيخ محمد سرور الصبان لم يبخل بالنصح والمشورة وتوجيه المسار، وكان طاهر كردي صاحب المبادرة يتخاطب مع الأستاذ محمد المغربي بروح الفنان وحساسية المبدع، فالخط فن قائم بالذات، ويجب أن يكون الزمن في خدمته، مهما طال ووفقاً لمزاج الفنان وما يحتدم داخله ويجيش به نبضه، ولا يمكن لأنامل طاهر كردي إلاّ أن تكون صدى لذلك.. في حين أن الأستاذ محمد علي المغربي، وهو الأديب الأريب والكاتب المجيد ورجل الأعمال الناجح، كان يهتم بالإنجاز ورؤية هذا المصحف عملاً منجزاً في أقرب وقت. |
|
|