على حافة المدينة.. وعند حدود الصحراء
(1)
|
بقلم: حسين محمد بافقيه |
لم تكن السنوات الست والخمسون التي تفصل بين كتاب ((وحي الصحراء)) لمحمد سعيد عبد المقصود وعبد الله عمر بلخير، وكتاب ((ثقافة الصحراء)) لسعد البازعي تستدعي زمناً ساكناً ثابتاً، هو زمن الصحراء التي تلفها مساحات من الفراغ غير المنتهي، وليس همه ما ينبئ عن اختلاف إلاّ ما تحدثه كثبانها الرملية ومنعرجاتها كلما هبت ريح زوبع، فلا تلبث أن تزيد الصحراء وابنها عذاباً ممتداً، وإنما كان المدى الذي يفصل ما بين عام 1355هـ. زمن صدور ((وحي الصحراء)) وعام 1412هـ، زمن صدور ((ثقافة الصحراء))، خليقاً بأن يحدث تغييرات شتى في صحراء الجزيرة العربية، حين أيقظها وقع خطى المستكشفين الجدد عن الذهب الأسود من سبات عميق. لم تأنس فيه إلى ما سوى خطى أبنائها من البدو الذين يذرعون المهامة بحثاً عن قطرة ماء. في نجعة أبدية لم ينهها سوى ضجيج الحضارة الجديدة، التي ستغير، بعد حين، من وجه هذه الصحراء، وتحاول أن توقف زحف رمالها التي غطت تحت كثبانها مدناً كانت وأقواماً كانوا. وتدخل بها إلى زمن جديد محفوف بالأهوال والحروب والصفقات التجارية وقطع جديد للطريق لا يقوم به أبناؤها من البدو الهائمين في الصحراء بحثاً عما يسد المسغبة، وإنما من هرعوا إلى تمدينها والتعدي على هدوئها. |
ثمة ما يجمع بين ((وحي الصحراء)) و ((ثقافة الصحراء))، حيث التركيب الإضافي الواحد، والارتهان إلى عنوان فرعي صفحة من الأدب العصري في ((الحجاز)) في الأول، و ((دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصرة)) وإصرار الكتابين كليهما على إضفاء سمة التجديد والحداثة على مضمونها، من خلال مفردة ((العصري)) التي كانت شائعة في تلك المدة، ومفردة ((المعاصر)) التي استبدلها الدارسون بمفردة ((العصري)). |
غير أن الكتابين يفترقان في أشياء أخرى. في اقتصار ((وحي الصحراء)) على إقليم ((الحجاز)) دون غيره من أقاليم الجزيرة العربية، أو المملكة العربية السعودية التي كانت ستخطو في ذلك العهد خطواتها الأولى، وتوسيع ((ثقافة الصحراء))، لدائرة اهتمامه لتشمل ((الجزيرة العربية))، وهو ما قد يعني اختلافنا في المنظور الأدبي بين عهدين، حين لم يكن للأدب العصري من رواج وشيوع خارج إقليم الحجاز، فلم تجاوز نجد، في تلك المدة. قصائد شاعرها الكبير ابن عثيمين ورصيفه ابن بليهد، فيما كانت سائر أقاليم المملكة الوليدة في عزلة عما يحدث في العالم. |
ولعلّ من الطريف في سياق الأدب والثقافة في المملكة، أن ما كان ((وحياً)) لدى عبد المقصود وبلخير -عند منتصف القرن الرابع عشر الهجري- يصبح ((ثقافة)) لدى البازعي في السنوات العشر الأولى للقرن الخامس عشر الهجري، وكانت الصحراء التي بدت مخفورة خاطفة في الوحي.. أرسخت أطنابها حين تحولت إلى ((ثقافة)) بما تحفل به من الكلمة من رموز ودلالات، تحمل في داخلها معاني الهوية والجذور. |
ولكن أين تقع ((الصحراء)) في كلا الكتابين؟ خصوصاً أن سعد البازعي يستدعي، وهو يقيم بصيرته إلى مصطلح ((ثقافة الصحراء)) -كتاب ((وحي الصحراء)) من خلف العقود التي تفصل بينهما. |
يقيم سعد البازعي أطروحته المركزية على أن ((ثقافة الصحراء)) هي جماع ((الهوية المحلية)) مستفيداً في سكة لهذا المصطلح من الناقد عبد الله نور الذي كان قد ألمح -فيما ينقل البازعي- أننا ((نحتاج في السعودية على وجه الخصوص إلى ثقافة الصحراء لأنها هي تراثنا الخصوصي الذي يجعلنا في دائرة الثقافة العربية العالمية، ((ليقرر البازعي من فوره)) أن هذا التأكيد يدخل ضمن إطار نقدي بدأ يتشكّل في بلادنا منذ بواكير النهضة الأدبية الحديثة في منتصف الخمسينات الهجرية حين صدر كتاب وحي الصحراء. |
لا يعطي سعد البازعي كبير شأن للمهاد النظري الذي سيقيم عليه رؤيته لـ ((ثقافة الصحراء))، إلاّ ما كان من إلماحات عامة لعلائق نقدية ((تطبيقية)) للشفاهية والكتابية اللتين رأى لهما حضوراً طاغياً فيما يقرؤه من أدب الجزيرة العربية المعاصر، شعره ونثره، وإلاّ ما كان من لفته الأنظار لما تمليه البيئة من أثر في أبنائها وما ينتجونه من آداب، وهو، في هذا، وفيّ لرؤيته النقدية التي لم يقمها، فيما مهد له في كتابه، على حدود منهجية صارمة، تحيل قارئه إلى منهج اجتماعي -ثقافي في النقد الأدبي، وما تقوده إليه تجربته الجمالية في قراءة النصوص وتذوقها، وهو ما جار على مفهومه لـ ((ثقافة الصحراء)) الذي لم يوطئ له بأسسه الفلسفية ورؤيته الاجتماعية، هذا موقع العنوان من كتابه. |
وبينما يغيب المفهوم الفلسفي والاجتماعي لـ ((ثقافة الصحراء)) يحضر هذا المفهوم، وبقوة، فيما درسه البازعي من آثار شعرية وقصصية، في قراءة تجلي حضور الرموز الصحراوية وهيمنتها على جانب كبير من الآثار الأدبية التي تنتمي إلى تيار الحداثة في المملكة، وكأن الصحراء التي تحيط بنا من كل صوب تأبى إلاّ أن يذعن لمشيئتها أبناء هذه الأرض، بحيث لا تخطئ العين حضور معاني الوجل من الجفاف، واللهاث وراء أفياء السحاب والمطر في نماذج شعرية وقصصية عدة، لا تختلف، في أعماقها، عن فزع الشاعر الجاهلي من أسباب الموات والجفاف، ومناجاته لمفردات الخصب والنماء، حين ((تفاعل كثير من مبدعينا مع ذلك العالم السديمي الممتد بغموضه ورهبته وتقلباته، عالم الرمل الراحل أبداً، والصحراء الجرداء، والمطر الشحيح الذي لا يعرف جدولاً ثابتاً، المطر الذي يأتي ولا يأتي)). |
هنا تصبح ((الثقافة)) فيما يقرر ((البازعي)) نتاج ذلك التفاعل وتاريخه وإعلان الإنسان المتواصل عن بقائه في عالم الريح والرمل والمطر الشحيح، وعن حبه لذلك البقاء وقبوله لتحدياته، والثقافة أيضاً هي محصلة الرغبة الإنسانية الدفينة عن أنسنة الطبيعة، وملء فضاء اختلافها بألفة الوجود، وهي التفاصيل التي يرسمها الإنسان على جسد الأشياء الخارجية، وجماع أحلامه ورؤاه. إنها ذلك الزجل الذي ملأ به البدوي فضاء المهامه ورهبتها منذ الفجر الجاهلي الأول، وهي تلك الدعوات والتطلعات التي سقى بملامحها الإنسانية عطش الصحراء، واستسقى بإيقاعها المطر والخصوبة. |
ولما كانت الصحراء هي الحقيقة الأزلية في الجزيرة العربية فإن ذلك يعني عدم استكانتها للزمن واستدارته، وليس من حضور لما سوى ((الجغرافيا))، أما ((التاريخ)) فإنه ساكن لا يريم، أو كأنه ليس من تاريخ إلاّ ما تختزنه الذاكرة في طبقاتها السحيقة من فزع إنسان الجزيرة من صحرائه الغادرة، التي لا يقر لها قرار إلاّ بتراتيل لا تختلف فيما تحيل إليه، ويستوي لديها، وليس من حقيقة سوى الجغرافيا، قول النابغة الذبياني: |
ومهمة نازحٍ تعوي الذئاب به |
تأتي الحياة عن الوراد، مقفار |
جاوزته بعلنداة مناقلة |
وعر الطريق على الأحزان مضمار |
تجتاب أرضاً إلى أرض بذي زجل |
ماضٍ على الهول هاد غير محيار |
|
وقول عبد اللَّه الصيخان: |
إن جئت يا وطني هل فيك متسع |
كي نستريح ويهمي فوقنا مطر |
وهل لصدرك أن يحنو فيمنحني |
وسادة حالماً في قيظة شجر |
يا نازلاً في دمي اصعد وخذ بيدي |
صحوي، والتم في عيني يا سهري |
واجمع شتات فمي واغزل مواجعه |
قصيدة في يدي أسرى بها وتر |
وصب لي عطش الصحراء في بدني |
واسكب رمال الغضى جوعاً فانحدر |
|
ومنذ صدور كتاب ((وحي الصحراء)) عام 1355هـ، ما بعد صدور كتاب ((ثقافة الصحراء)) عام 1412هـ، لم تغب مفردة ((الصحراء)) عنواناً لمجموعة من المؤلفات النثرية والشعرية، فثمة ديوان ((أغاريد الصحراء)) لطاهر زمخشري (1378هـ/1958م)؛ وكتاب ((قصائد من الصحراء)) لمحمد المنصور الشقحاء (1409هـ-1989م)؛ وكتاب ((مقاتل من الصحراء)) لخالد بن سلطان (1996م)، ولم تغب الصحراء اسماً مستعاراً لمن سمت نفسها ((غادة الصحراء)) في ديوانها ((شميم العرار)) (1964م). |
فما الذي يعنيه هذا الإلحاح على مفردة ((الصحراء)) عنواناً لمجموعة من المؤلفات والمجموعات الشعرية؟ |
يسوغ سعد البازعي مفهومه عن ((ثقافة الصحراء)) بأن البدايات الأولى للنهضة الأدبية في المملكة كانت على وعي بهذا المفهوم، ودلل على حضور هذا المفهوم بإصدار كتاب ((وحي الصحراء)) في منتصف الخمسينات من القرن الهجري الرابع عشر، ما يعطي إيحاء أن هناك إحساساً لدى النخب الثقافية والأدبية بهذه ((الهوية الصحراوية)) التي تسكن في وعيهم الأدبي والثقافي، وهو ما يدعونا إلى محاولة الكشف عن موقع ((الصحراء)) في كتاب ((وحي الصحراء)) وأدب تلك المدة وما تلتها. |
حين أصدر محمد سعيد عبد المقصود وعبد الله عمر بلخير كتابهما ((وحي الصحراء))، كتب من رمز لاسمه بـ ((سهران)) مقالة في صحيفة، ((صوت الحجاز)) 17 محرم 1356هـ/30 مارس 1937م. عن المقدمة التي وطأ بها محمد حسين هيكل للكتاب، وكان مما استرعى نظر ((سهران)) ما عده هيكل من أثر البيئة في شعر الحجازيين ونثرهم، ومن تأثير البادية بخاصة، ويخرج بنتيجة لمست عمق ما في الكتاب، وهو أن ((وحي الصحراء)) بلا صحراء. يقول: |
((ونحن نرى أن الأدب الحضاري لم يتأثر بعد لا بالبيئة ولا بالبادية التي تكتنف المدن من كل الجهات، بل إنك قد يعيك أن تقع خلال منظوم الكتاب ومنثوره على شأن من شؤون البادية أو المدينة على كثرة شؤونها موصوفاً وصفاً شافياً تخرج منه بصورة واضحة أو رأي جلي، بل نستطيع أن نؤكد أن ما في الكتاب -إلاّ النزر القليل منه- ليس إلاّ آثاراً ذاتية لا تتصل بحياة الجماعات الحجازية من قريب أو من بعيد، وإن الروح المسيطر على أفكار الكتاب في وحي الصحراء في أساليبهم وطرائق تفكيرهم، هو إن أردنا الحق، روح الكتاب والآثار الأدبية مما أنتج الأدباء المعاصرون في مصر والشام والمهجر، ومن كان في ريب مما أقول فأقرب شيء إليه أن يستعرض في ذهنه البادية وأهلها والمدن وسكانها وما يتقلب فيه أولاء وأولئك من أحوال العيش ومرافق الحياة، وأن يجول بعد ذلك جولة طويلة في كتاب ((وحي الصحراء)) ليستخرج لنا قطعة يعتد بها تشير إلى أن أدبنا صورة واضحة لبيئتنا وحياتنا. |
ما الذي يعنيه ذلك؟ |
إن ذلك يعني أن حضور ((الصحراء)) لا يعدو أن يكون إلاّ ارتهاناً إلى الجغرافيا التي تعد الصحراء سمتها وعلامتها في الجزيرة العربية، وكأنها -إذ ما استعملت مفردات المسرح- الخلفية التي تجري فيها الأحداث، فحضور ((الصحراء))، هنا، حضور للمكان الطبيعي، ولا يعني ذلك حضوراً لمفرداتها، أو لـ ((ثقافتها))، كما يبدو من استناد البازعي إليها، بل إنه يمكن الإلماح إلى أن حضور الصحراء في ذلك الكتاب مدعاة لغيابها، فليس ثمة من أجواء تجوز فضاء عالم المدينة الحديثة التي خف المثقفون الحجازيون، في تلك الأثناء لتحقيقها والتعلّق بها، وليس من حضور لما سوى المعجم الرومانسي، في نسخته المهجرية، التي نجد طرفاً منه فيما خطه أحمد السباعي وعزيز ضياء. فها هو ذا أحمد السباعي يستعير من جبران ((رفشه)) ناعياً على الحجاز تأخره وموته: |
((يا صاحبي هات رفشك واتبعني! |
هاته وقم في أثري ولا تسألني حتى أحدث لك منه أمراً! |
ألست من غراري أنت تعتلج في صدرك الآمال؟ |
ألست شاباً مثلي تتمتع بدم قوي يجري في عروقك؟ |
ألست نشيطاً تستطيع أن تترك في الحياة أثراً؟ |
|
قل إي.. وإذن أي أثر تركته في حياتك؟ وأي أمل مما يعتلج في صدرك، أو فكرة مما يختمر في رأسك حققت؟ أو أي خدمة أداها دمك القوي لبلادك؟ |
أما عزيز ضياء فيكفيك من مفرداته التي تناثرت فيما كتبه من شعر منثور دورانها حول ((الحقل المانح)). و ((السنابل)) و ((الرياحين))، و ((الزهور))، و ((الجبال اللازوردية)) و ((البساط المطرز بالزبرجد والذهب والياقوت))، لتدرك أي أثر تركه جبران فيه، وأي فجوة بينه وبين الصحراء. |
|