شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيديولوجيا الصحراء
تحديات التجديد ومأزق البحث عن هوية
دراسة: سعيد مصلح السريحي (1)
لم يكن أيٌّ من الرجلين اللذين نهضا بجمع مادة الكتاب ينتمي إلى الصحراء، كما أنه لم يكن أحد ممن شاركوا بكتابة النصوص التي احتوى عليها ممن ينتمي إلى الصحراء، وفي وسعنا كذلك أن نؤكد مطمئنين إلى أن النصوص الكثيرة التي تكدست بين دفتي ذلك الكتاب لم تعرض إلى الصحراء من قريب أو بعيد، ومع ذلك كله فقد جاء الكتاب وهو يحمل عنوان (وحي الصحراء) وتحت هذا العنوان أُضيفت جملة توضح محتواه والبيئة التي ينتمي إليها كاتبو النصوص التي جاءت فيه فهو (صفحة من الأدب العصري في الحجاز) (2) وليس لنا أن نتفهم علاقة عنوان الكتاب بالجملة الفرعية التي جاءت تفسيراً وإيضاحاً له إلاّ في ضوء إدراكنا للإزاحة التي تمت للحجاز من كونه بيئة متحضرة، ينتمي أدباؤها إلى مدن عريقة تتمثل في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف، وهي المدن التي جاء منها كل أولئك الذين شاركوا بكتابة نصوص الكتاب، إلى كونه بيئة بدوية تنتمي إلى الصحراء وتستمد منها وحيها..
أوضح جامعا الكتاب في الكلمة التي صدراه بها الغاية من وراء ما قاما به والمتمثلة في إعطاء صورة صادقة عن الحركة الأدبية في الحجاز تمكن المتتبع للنهضات الأدبية في الأقطار العربية من لمس بوادر هذه النهضة الفتية للحكم عليها (3) غير أن المعضلة التي لم تكن تغيب عن بال جامعي الكتاب والذين شاركوا بكتابة نصوصه هي ما كانوا يلمسونه من هيمنة المراكز الثقافية العربية في مصر والشام والعراق والمهجر وتماهي الصوت الحجازي في جلبة تلك الأصوات التي كانت تشارك في صياغة الأدب العربي الحديث وإرساء قواعده.
وقد كانت حاضرة في الأذهان تلك الدراسة التي ظهرت للدكتور طه حسين في دمشق سنة 1354 للهجرة، أي قبل صدور وحي الصحراء بسنة (4) والتي أشار فيها إلى حاجة الأدباء في الحجاز إلى تكوين شخصية أدبية لهم، تخرج بهم عن طور التلمذة على الأقطار العربية المجاورة وآدابها الوافدة إلى الحجاز، مؤكداً على أن أهل الحجاز يستمدون أدبهم التقليدي من مصر والشام بنوع خاص، وقد يتأثرون بغير المصريين والسوريين من الذين يفدون عليهم للحج، لكن كتبهم التي يدرسونها في مكة والمدينة من الكتب التي يدرسها المصريون في الأزهر، وشعرهم الذي يقرؤونه أو يحفظونه هو الشعر الذي يقرأ ويدرس في مصر والشام، فهم إن أرادوا أن يكتبوا في العلوم الدينية قلدوا المصريين والسوريين (5) ، (أما المجددون الذين ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد فهم -بحسب تعبير طه حسين- لم يوفقوا بعد إلى أن يكونوا للحجاز شخصية أدبية، إنما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين إلى أمريكا بنوع خاص، فمثلهم العليا في الأدب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما) (6) .
تحت وطأة الشعور بضرورة الوصول إلى شخصية مستقلة تولد الإحساس بالبحث عن مرجعية أخرى يتم من خلالها استلهام الإبداع، فجاءت الصحراء لكي تكون مصدر الوحي لهؤلاء الأدباء، وانزاح الحجاز من كونه هامشاً للحواضر العربية في الشام ومصر والعراق ومصباً للاتجاه الوافد من بلاد المهجر إلى كونه مهبطاً لوحي تمده به الصحراء.. إن الصحراء هنا تجيء بديلاً للشام والعراق ومصر والمهجر، وما اشتمل عليه الكتاب من موضوعات وقصائد إنما هو وحي هذه المرجعية التي أرادها أدباء الحجاز علامة مميزة لهم، يلتمسون من خلال الانتماء إليها ما يمكن أن يحقق لهم الشخصية الأدبية المستقلة التي أشار طه حسين إلى افتقارهم لها، ولربما كان طه حسين، في مقالته تلك، قد أوحى لأدباء الحجاز بما أفضى بهم إلى تبني الصحراء كمرجعية تحقق لهم الهوية وذلك حين أشار إلى أن المقابل للأدب التقليدي إنما هو أدب البادية أو الأدب الشعبي، الذي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن آبائهم ويورثونه لأبنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحياناً، وقارن بين هذا الأدب وأدب الحواضر فقال: أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادةً وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير، وإذا كان الأدب الشعبي مصوراً للحياة العربية البدوية تصويراً صادقاً ممتازاً فإن الأدب التقليدي بعيد كل البعد عن هذا التصوير لأنه متكلف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة، فهو لا يعكس ما يحسه الشعراء والكتّاب وإنما ما يريد الشعراء والكتّاب أن يضعوه فيه، حظ النفاق فيه أكثر من حظ الصدق، ثم هو تقليدي لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما يقلدون فيه أهل الحواضر من المصريين والسوريين والعراقيين (7) .
كان لطه حسين أثره في توجيه أدباء الحجاز إلى ما يمكن أن يعتدوا به كمرجعية تتمثل في الأصالة التي تنتمي إليها البادية بعد أن أفسد الحواضر التقليد، وهي أصالة تتسم، كما كان يرى طه حسين، بالصدق والصراحة والتعبير عن النفس والبعد عن التكلف والصنعة والنفاق، وجميعها قيم كان أدباء الحجاز يحاولون تكريسها في الواقع الاجتماعي الذي كانوا يسعون إلى إصلاحه ودارت حولها جل المقالات والقصائد التي احتوى عليها كتابهم المشترك وحي الصحراء..
إن الصحراء هنا علامة نفي وإثبات، محو وكتابة، فهي إذ تسعى إلى نفي انتماء أدب الحجاز إلى الحواضر العربية المحيطة به فإنها تسعى إلى إثبات انتماء هذا الأدب لبعد آخر، يمتد في المكان على نحو ليس بعيداً عن حواضر الحجاز، كما يمتد في الزمان ليشكّل المهاد التي ترعرت فيه العربية وانبعثت آدابها.. وإذا كان الحديث ينصبّ على النهضة والبعث في الحجاز فإن وحي الصحراء يأتي في هذا المقام ليشكّل وفود هذه النهضة وسر بعثها بعد أن كان وحي السماء هو وقود النهضة الأولى وسر بعثها.
كانت الصحراء مثلها مثل الوحي بحثاً عن خصوصية تنبع من هوية تجعل لهذا الأدب شخصيته، وهي خصوصية لا تدفع عنه ما كان يراه الأدباء العرب من أنه مجرد صدى للصوت العربي في حواضر مصر والشام والعراق بل كذلك ما كان يلمسه الأدباء في الحجاز أنفسهم من إحساس بغلبة هذه الأصوات على ما يكتبون رغم محاولاتهم للانعتاق من أثر هذه الأصوات، لذلك ذهب أحمد العربي في محاضراته التي ألقاها في النادي الأدبي بسنغافورة سنة 1353 للهجرة، أي قبل عام من صدور الكتاب، إلى القول ((وقد كان أثر أدباء المهجر من السوريين أقوى وأظهر في أدبنا الحديث حتى عهد قريب، أما الآن فقد بدأ يتحرر قليلاً من قيود التقليد وأخذ يشتد ساعده وإن كنا نجد لنفثات أقلام الأدباء المصريين أثراً متميزاً فيه في السنوات الأخيرة)) (8) . وفي السنة التي صدر فيها وحي الصحراء نشبت أطراف معركة أدبية بين حسين سرحان وعبد القدوس الأنصاري حين انتقد الأول ما رآه في أسلوب الثاني من تأثر شديد بالأسلوب المصري فكتب يقول: ((وأسلوب عبد القدوس الأنصاري نفسه، كما يبدو لي، يتأثر إلى حد كبير بالأسلوب المصري -ولكنه يلتزم السجع في الغالب ويأنس برنين الألفاظ وتعجبه الفصاحة وقوة الأسر ومتانة التركيب، قبل أن تعجبه جودة المعاني وبلاغتها وسمو الأفكار وجمالها)) وقد رد عليه الأنصاري بأنه ((سيحاول في دراساته هذه أن يتخلص من الأسلوب المصري والمبثوث في جرائد مصر ومطبوعاتها ويستقل بأسلوب شخصي رفيع يجمع بين الجزالة العربية القديمة والذوق العصري الحديث)) وعلق حسين سرحان على ذلك قائلاً: (هذه محاولة طيبة نتمنى لها أن تنجح وإن كنت ضعيف الأمل في نجاحها لأن الأسلوب المصري أو على الأصح الأساليب المصرية ارتسمت في الأذهان وانطبعت في الأدمغة وصارت طبيعة لازمة لا نستطيع مقاومتها ولا التخلص منها مهما حاولنا) (9) .
ولعلّ محاولة الجمع بين الجزالة العربية القديمة والذوق العصري الحديث التي ذهب الأنصاري إلى أنه يحاول الأخذ بها كطريقة للانعتاق من أسر التقليد الذي تأسست عليه الحركة الأدبية في الحجاز. هذه العبارة هي الترجمة لتركيبة عنوان كتاب وحي الصحراء الذي حرص جامعا نصوصه على الجمع بين الصحراء والأدب العصري في الحجاز في عنوان واحد.
ولم تكن مسألة الشخصية المستقلة المرتكزة على هوية خاصة بأدب الحجاز تطلعاً من الأدباء لتحقيق تميز لهم يخرجهم من دائرة المحاكاة والتقليد فحسب، وإنما كانت كذلك محاولة منهم لكي يدفعوا عن أنفسهم تهمة الوقوع في أسر الآخرين والجري على عادات الغرب ومن يأخذ بسكتهم من العرب والخروج على القيم والتقاليد وهي التُّهم التي تفجرت قبل صدور وحي الصحراء بعشر سنوات حينما أصدر محمد حسن عواد كتاب (خواطر مصرحة) وانقسم إثرها المجتمع الثقافي إلى قسمين يناصب كل منهما العداء (الشباب يرى لثقافته الحديثة أن من الواجب اتباع النظم والتقاليد الغربية، لشكلها البديع، وقسامتها الرائعة، فهو يريد أن يحمل الشيوخ على هاته الحياة الجديدة التي لم تألفها أنظارهم، ولم تأنس بها قلوبهم فهم لا يؤمنون إلاّ بما كان عليه سلفهم، وإن كان معوجاً لا يتلاءم وروح العصر وحياته وطبيعة التطور، فتبقى الحياة على أشدها خصاماً ونضالاً وقطيعة وجفوة وتذهب جهود الفريقين أباديد يلعب بها سلطان الضغينة، وتتقاذفها أعاصير الحياة ولن يتورع أحدهم عن رمي أخيه بالزندقة والمروق من الدين) (10) .
لقد ألقت أصداء الهجمة الشرسة التي واجهها محمد حسن عواد عند إصداره (خواطر مصرحة) بظلالها على الحركة الثقافية فاضطر عبد القدوس الأنصاري، وهو المتهم بالأخذ بالأسلوب المصري في الكتابة، أن يقدم لروايته (التوأمان) (11) التي صدرت سنة 1349-1039م بمقدمة يؤكد فيها سمو مقاصده ونبل أهدافه رغم استخدامه فن الرواية، وهي الفن الغربي الوافد، لأنه إنما يفعل ذلك من باب ((مقابلة الإبرة بسن أختها.. ومقاومة تيار الفساد من نفس طريقه، ومعنى هذا اتخاذ نفس الأساليب التي يروج به المفسدون صحفهم ودعايتهم في العالم)) (12) .
فإذا ما كانت التوأمان هي العمل الوحيد الذي صدر في الفترة ما بين صدور خواطر مصرحة ووحي الصحراء أدركنا عندئذٍ تلك المخاوف التي كانت تنتاب الكتاب والمثقفين والأدباء في ذلك الوقت خشية الاتهام بالزندقة والمروق من الدين واتباع الغرب، ولعلّ هذا هو السبب الخفي الذي جعل كتاب وحي الصحراء يخلو من أي عمل شعري أو نثري للعواد مع أنه كان من أكثر معاصريه عطاء وأبعدهم صوتاً وأشدهم أثراً.
إن الصحراء عندئذٍ هي الشهادة التي أراد من خلالها أولئك الأدباء أن يبرهنوا على صدق نواياهم وصحة مذهبهم وأصالة الفكر الذي يدعون إليه، وهي جديرة أن تدرأ عنهم كذلك تهمة أن يكونوا قد ابتدعوا ما ابتدعوه متأثرين بربوع العرب أو بأصقاع الغرب، والصحراء التي لم تكن جزءاً من البيئة الحجازية ولا نكاد نجد لها ذكراً فيما كتبه الأدباء من مقالات أو قصائد ضمّها كتاب وحي الصحراء، هي جزء أساسي من طبيعة قلب الجزيرة العربية، كما أنها مكوّن رئيسي من مكونات ثقافة الدولة الجديدة القادمة من عمق نجد، ومن هنا فإن الكتاب الذي حمل الحجاز عنواناً فرعياً له جعل من الصحراء إشارة إلى تبنّيه لأعراف الثقافة الطارئة ودخوله في سياقها، ومن ثم تلافي أي اصطدام مع ما تتوخاه من قيم وما تطالب به الأدباء من التزام. والصحراء بذلك تدخل في دائرة ما أسماه عبد الله عبد الجبار الرمزية الخاصة في أدب الجزيرة العربية مشيراً إلى أنه قد (نشأت في أدب الجزيرة العربية رمزية خاصة تشبه رمزية الأشعار الصوفية من حيث إن لها معنى خفياً ووجهاً باطناً يغاير وجهها الظاهر ومعناها القريب) وضرب على ذلك أمثالاً بما كان يتخذه الشعراء والكتّاب أنفسهم من ألقاب وما كانوا يلبسونه لمعانيهم من أقنعة وبما كانوا يقدمون به لأشعارهم من مقدمات، يحاولون من خلالها أن يسلكوا الدروب الملتوية.. والسراديب الخفية ليعبروا عما يريدون التعبير عنه (13) .
غير أن هذه الوشيجة التي رام أدباء الحجاز إقامتها بينهم وبين الصحراء من خلال العنوان الذي اختاروه للكتاب الذي ضم آثارهم لم تتحقق إلاّ باعتبارها مجرد رغبة في التمايز عن أدب الحواضر العربية، وكذلك باعتبارها مظهراً يكشف عن رغبة في الانتماء إلى مركزية جديدة جاءت من قلب الجزيرة العربية، وتؤكد في الوقت نفسه الحرص على سلامة النوايا ونبل الأهداف وسمو المقاصد. فإذا ما تجاوزنا العنوان وما يدل عليه نجد أشباح أدباء الشام ومصر والعراق تطاردهم وتعيدهم إلى الحقيقة التي حاولوا حجبها بالصحراء، فالأسلوب والصور وطرائق التفكير، كما أكد لهم محمد حسين هيكل في المقدمة التي استكتبوه إياها لكتابهم، تجري كلها مجرى ما تقرؤه في أدب مصر وسوريا والعراق وغيرها من البلاد العربية في العصر الأخير بل تجري مجرى الصور الأخيرة لهذا الأدب الحديث في تلك البلاد، ويقول هيكل (فأنت ترى شعراً منثوراً وترى أوزاناً في الشعر من أوزان المدرسة الحديثة وترى تفكير هؤلاء الأدباء مصوراً في قوالب تكاد تردها إلى مصادرها في تفكير العصر الحاضر وأدبه، ثم إنك ترى أساليب يحتذي فيها أصحابها بعض الكتّاب المعروفين اليوم في مصر وغير مصر) (14) .
* * *
بعدما يقارب الستين عاماً من صدور كتاب وحي الصحراء أصدر الدكتور سعد البازعي كتابه ثقافة الصحراء (دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصرة) (15) وقد تضمن الكتاب عدداً من الدراسات المتفرقة التي أسهم بها الباحث في الحركة الثقافية (كإسهامات نقدية قدمت في أوقات متباعدة وفي أماكن متفرقة) (16) وجاءت في صور قراءات لبعض الأمسيات الشعرية أو القصصية كما جاءت قراءات لبعض الملاحق الأدبية من خلال ما تنشره من نصوص شعرية وقصصية، وإذا كانت الغلبة في تلك الدراسات للنصوص التي قدمها شعراء وقصاصون سعوديون فإن الإطار المحلّي لا يلبث أن يتسع لينفتح الكتاب على الإطار الخليجي متمثلاً في قراءة بعض النماذج الشعرية والقصصية من البحرين والإمارات، بالإضافة إلى ما فرضته مسألة قراءة بعض الملاحق الأدبية للصحافة من تطرقه لدراسة نماذج إبداعية لأدباء عرب من خارج دائرة الإبداع المحلي بخاصة والخليجي بعامة وذلك لاشتمال الملاحق التي تولّى قراءتها على نماذج من إبداع هؤلاء الأدباء.
من خلال هذا يكون بإمكاننا أن نرصد وجه شبه أول بين وحي الصحراء وثقافة الصحراء من حيث أن كلا الكتابين عبارة عن جملة من الموضوعات المتفرقة التي جاءت الصحراء لكي تشكّل الإطار الكلي لها مع التأكيد على الفارق الأساسي والمتمثل في أن موضوعات ثقافة الصحراء لكاتب واحد هو البازعي، كما أنها جميعها أخذت منحى الدراسة النقدية في الوقت الذي ضم وحي الصحراء عدداً من الكتّاب الذين شاركوا بكتابة المقالات والدراسات والقصائد التي اشتمل عليها ومع ذلك تظل مسألة العنوان الذي يضم داخل إطاره دراسات متفرقة (وليس) دراسة واحدة متماسكة (مؤشراً هاماً من حيث إن كلا العنوانين يعبّر عن محاولة الوصول إلى هويّة تجمع أجزاء العمل وتحاول أن ترسم خطاً يصل ما بين ما تفرق منه مع كل ما يمكن أن يفضي إليه ذلك من قلق وتوتر في العلاقة بين العنوان وما ينطوي تحته، ذلك أن العنوان عندئذٍ من شأنه أن يخضع لسياقات أخرى تتقاطع مع سياقات موضوعاته فتتوافق معها حيناً وتتعارض حيناً آخر، وإذا كان (وحي الصحراء) يكشف عن تناقض ظاهر بين عنوانه المنتمي إلى بيئة بدوية وموضوعاته التي تحاول التأسيس لبيئة متحضّرة فإن (ثقافة الصحراء) تكشف عن تناقض خفي بين ثقافة الصحراء والإطار النظري الذي يتحرك فيه الباحث وهو ما ألمح إليه الباحث في المقدمة حين قال: (قد لا يكون فهمي أو تطبيقي لثقافة الصحراء منسجماً تماماً مع أسس هذا الإطار النقدي، خاصة وأنها تمتزج لديّ مع نمطي الشفوية والكتابة أو تتضمنها على أقل تقدير) (17) وقد كان البازعي صريحاً وهو يتحدّث عن ضغط هذه السياقات التي تكمن خلف عنوان الكتاب حين قال: (أعلم أن بعض المفاهيم التي أطرحها تميل بي نحو منهج أو مدرسة اجتماعية -ثقافية في النقد الأدبي.. بل إنني في تلك الأحيان التي أحس فيها بضغط تلك المفاهيم أحاول الخروج من أسرها بإعطاء الأبعاد الجمالية شيئاً من حقها، وإن لم يكن حقها كاملاً) (18) ، وما عبر عنه البازعي بالضغط والإحساس بالأسر إنما هو ناشئ عن الوقوع تحت هيمنة الصحراء باعتبارها أيديولوجيا تتصل بسؤال البحث عن الهوية وهو السؤال الذي تفرضه السياقات التي تحكمت في اختيار العنوان الذي يجيء ليهيمن على ما يمكن أن ينطوي تحته وينتمي إليه وكذلك على ما قد يكون خارجاً عنه غير قابل للدخول فيه.
وإذا ما أعدنا النظر في عنواني الكتابين ((وحي الصحراء، صفحة من الأدب العصري في الحجاز (و) ثقافة الصحراء، دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصرة)) فإن بإمكاننا أن نلمس مدى التشاكل بين العنوانين مما يمهّد لنا لاقتناص الاختلاف بينهما فالوحي الذي كان منسجماً مع الحجاز وعمقه الديني، تحتلّ مكانه الثقافة التي هي أكثر ملائمة مع المفهوم الإنساني والإرث التاريخي للجزيرة العربية. غير أن الأهم من ذلك هو الانزياح الذي تم للحجاز لتأخذ موقعه الجزيرة العربية وهذا يعني أن الحجاز الذي كان يسعى إلى تبني ثقافة الصحراء باعتبارها ثقافة المرحلة الجديدة التي كان يدخل فيها أخلى مكانه للجزيرة العربية بكل ما يدخل في نطاقها لكي تتبنى هذه الثقافة، في وحي الصحراء يتحرك الحجاز بحثاً عن مرجعية جديدة وفي ثقافة الصحراء تتحرك الصحراء لطرح مركزية جديدة للجزيرة العربية تنبع من القلب وتسعى إلى إعادة تشكيل الأطراف وإدخالها في سياقها، وبإمكاننا أن نرصد محاولات توسيع الإطار إذا ما وقفنا عند من أسند إليه الدكتور البازعي الفضل في وصول هذا المفهوم إليه وهو عبد الله نور الذي أكد على أننا نحتاج في السعودية على وجه الخصوص إلى ثقافة الصحراء لأنها هي تراثنا الخصوصي الذي يجعلنا في دائرة الثقافة العربية العالمية، ومن خلالها نلاحظ أن الانتقال تم من الحجاز إلى الجزيرة العربية عبر السعودية ومن هنا نجد أن توسيع الإطار يتم على مرحلتين الأولى في سعي أحد الأطراف إلى الانتماء إلى المركز والثانية في سعي المركز للتكرّس في الأطراف كافة. وتكشف لنا عبارة عبد الله نور التي ضمّنها الدكتور البازعي مقدمة كتابه ثقافة الصحراء عن تحوّل آخر كذلك وهي الانتقال من الحديث عن الحاجة إلى ثقافة الصحراء إلى الحديث عن أدب تتحقق فيه هذه الثقافة باعتبارها هوية تحدد معالم الشخصية الإبداعية، مع أن الفاصل الزمني بين مقولة عبد الله نور ومحاضرة البازعي، التي كرّس فيها هذه الأطروحة، تبلغ العام والنصف (19) .
إن هذه النقلة السريعة من الحديث عن الاحتياج إلى الحديث عن تحقيق هذا الاحتياج هي مظهر من مظاهر الوقوع تحت ضغط خطاب أيديولوجي يسعى إلى تكريس نفسه باعتباره حقيقة واقعة لم تترك لنا إلاّ أن نسعى إلى اكتشاف شواهدها وتقديم البراهين على تحقيقها، ومن هنا فإن ثقافة الصحراء لا يتم طرحها من خلال تحرير المفهوم الذي يتأسس على جدل علاقة الإنسان بالمكان وما يمكن أن يخضع له هذا الجدل من عوامل اجتماعية وتاريخية واقتصادية وإنما يتم طرحها انطلاقاً مما يمكن أن يحيل إليها من شواهد شعريّة أو ملامح سرديّة يمكن التقاطها من هذه القصيدة أو تلك القصة لكي تتم من خلالها البرهنة على قام هذه الثقافة وتحقيقها لا باعتبارها عالماً من عوالم الإبداع وإنما باعتبارها الهويّة التي ينتمي إليها هذا الإبداع ويمكن ردّ نسبه إليها.
وكما يظهر الخطاب الأيديولوجي في مراوغته الإيهامية المتمثلة في الانتقال من الرغبة والتطلع إلى التحقق فإنه يظهر كذلك في الانتقال من الجزئي إلى الكلي وذلك ما يمكن أن نلمسه من خلال ما أشرنا إليه من محاولة فرض هيمنة ثقافة الوسط على الأطراف أو قلب الجزيرة العربية على الجزيرة العربية كلها، وكذلك في التقاط بعض الشواهد عند بعض الأدباء والكتّاب ثم تعميمها بعد ذلك لتشكل الإطار العام أو أحد الأطر الرئيسية التي يمكننا من خلالها أن نقرأ الأدب في منطقة الجزيرة العربية (20) . ومع أن الاحتراز الذي أبداه الباحث في إشارته إلى أن ثقافة الصحراء تشكل أحد الأطر الرئيسية وذلك تخفيفاً من حدة الشمولية التي تبدو في اتخاذها الإطار العام، فإن هذا التحفظ لم يمنع من أن يتمّ تبنّي ثقافة الصحراء كهويّة للأدب تشكل خصوصيته وتمنحه مشروعيته وتصبح ثقافة الصحراء هي جماع ملامح الهوية المحلية وليس أحد هذه الملامح (21) . وهذا هو ما أهلها لكي تصبح عنواناً للكتاب بعد أن كانت عنواناً لإحدى الدراسات فيه. وإذا كان الباحث قد أشار إلى أن (مفهوم ثقافة الصحراء الذي يحمله الكتاب عنواناً أستعير من الدراسة الثانية بين محتوياته) (22) ، فإن بإمكاننا أن نتحقق من أن هذه الاستعارة قد خضعت لسلطة الخطاب الأيديولوجي في انتقالها من الجزئي إلى الكلي فثقافة الصحراء حين جاءت عنواناً للدراسة الثانية جاءت مرتبطة بالهويّة المحلية في بحث يندرج تحت إطار (المشروع النقدي المعاصر) الذي رأى الباحث أن هاجسه الأول هو (الكشف عن هوية أدبنا المحلي) ومن هنا عنت تلك الدراسة (بالأدب المحلي، أو السعودي الحديث، أو بدقة أكثر ما يسمّى أحياناً بأدب الشباب، أو أدب الحداثة) (23) ثقافة الصحراء هذه التي ترد هنا على هذا النحو من التحديد لا تلبث حين تتم استعارتها عنواناً للكتاب أن تطوي تحتها أدب الجزيرة العربية المعاصر خارجة من الإطار الخاص إلى الإطار العام ومن دائرة أدب الشباب أو الحداثة إلى دائرة الأدب المعاصر الذي يمكّن قلق المصطلح من إمكانية احتوائه على أدب الشباب وغير الشباب فتنطوي تحته الاتجاهات المختلفة والمذاهب المتعددة. إن الانتقال من (الشخصية المحلية) التي جاءت في عنوان الدراسة الثانية إلى (الجزيرة العربية التي جاءت في عنوان الكتاب يعبّر عن رغبة كامنة في فرض هيمنة هذه الشخصية وتحويلها لتصبح هي الشخصية الممثلة للجزيرة العربية والمختصرة لها وهي المسألة التي ألمح إليها الدكتور سعيد علوش في إشارته إلى ظاهرة إسقاط الجزئي على الكلي عدا تعرضه لكتاب ثقافة الصحراء في دراسته التي تناول فيها أطروحة الثقافة الخليجية) (24) ، كما أن الانتقال من دائرة أدب الشباب أو الحداثة إلى دائرة الأدب المعاصر ينطوي على نفس المجازفة المرتكزة على إسقاط الجزئي على الكلي والرغبة في تعميمه كنموذج مهيمن. إن الخطاب الأيديولوجي عندئذٍ يطرح ثقافة الصحراء كإطار طارد وحاجب لغيره من الأطر، إنه على هذا النحو يتحوّل إلى خطاب إقصاء لسياقات أخرى يمكن لها أن تولد أطرها كثقافة البحر أو ثقافة المدينة وهي الثقافات التي يمكن لوهم الشمولية أن يوقع في حبائلها من يؤمن بها ثم لا يجد كبير عناء أن يقيم عليها الشواهد من هذه النصوص أو تلك، كما أنه لن يجد كبير عناء إن أراد أن يمنح هذا الخطاب خصوصيته القادرة على بلورة هويّة محدّدة أن يجد في بحار الجزيرة أو مدنها ما يميزها عن بقية بحار الأرض ومدن العالم، ولعلّ التراث العربي على امتداد ما يقارب الألف والخمسمائة عام لن يكون بخيلاً في مده بما يمكن أن يستند إليه من بُعد تاريخي للهوية المتوخّاة.
ومع ذلك كله فإن علينا أن نعترف أن أي هويّة أخرى قد يغري بها أي باحث لا يمكن لها أن تنهض بالدور الذي تنهض به الصحراء حين يتمّ اتخاذها هويّة لا للشعر فحسب وإنما للذات نفسها، ذلك أن الصحراء من شأنها أن تكون علامة على التراجع إلى الداخل، أو على نحو أدق الانغلاق في الداخل، فالصحراء ليست كالبحر الذي من شأنه لأن يخلق آصرة تربط بين الموانيء الساكنة عليه مهما تناثرت بينها الأبعاد، كما أن الصحراء ليست كالمدينة حيث يتوافد الغرباء وينفتح الإطار على تعدّد الهويّات وتكاثر الانتماءات، الهويّة النابعة من الصحراء هويّة مستغرقة في بداوتها، مستغرقة في نقائها وأصالتها، إنها هويّة لا تشتبه بغيرها، إنها ليست هويّة اختلاط أو أخلاط، هويّة تتلاءم مع إرادة تأكيد النقاء العرقي والنقاء الثقافي، إن ثقافة الصحراء عندئذٍ تطرح باعتبارها المعادل الموضوعي للثقافة المعاصرة بكل ما تتسم به المعاصرة من انفتاح على الآخر واستفادة من إنجازاته على نحو رأى فيه الكثيرون تهديداً للهويّة أو خروجاً عليها وإعلاناً للتمرد والعصيان على ثوابتها ولذلك تجيء الصحراء لكي تضمّد جراح هذه الهويّة، لكي تكون هي البرهان على التمسك بها والاعتزاز بالانتماء إليها والحفاظ على قيمها.
إن مشكلة الأدب العصري في وحي الصحراء والأدب المعاصر في ثقافة الصحراء هي ما يتضمناه من انفتاح على الآخر وتأثر به وخضوع للشروط التي خضع لها وهي أمور تشكّل تهديداً للخصوصية التي يراد الحفاظ عليها بل وإعلان براءتها، لذلك حاولت هذه الخصوصية أن تتمترس خلف الصحراء، أن تقيمها حاجزاً بينها وبين الآخر الذي لا يعرفها ولا يألفها، تصبح الصحراء درعاً واقياً، متاهة لا ينجو من يحاول عبورها إلينا ولا يسلم منا من يحاول عبورهم، الصحراء إعلان للعودة إلى الماضي تاريخياً وجغرافياً فيما المعاصرة ذهاباً إلى المستقبل جغرافياً وتاريخياً، الصحراء إعلان عن ثبات التاريخ واستقرار الهوية والمعاصرة إعلان للحركة خارج المكان والدخول في صيرورة التاريخ، إن الصحراء تنهض كجواب لسؤال تطرحه تحديات التجديد، ومن هنا جاء حديث البازعي عن أن التحدّي الذي يواجه الشعر في بلادنا يتمثل على مستويين أولهما إشكالية العلاقة القائمة بين ذلك الشعر وحركة الشعر العربي المعاصر، وثانيهما البحث الحثيث والحتمي لذلك الشعر عن خصوصيته الإبداعية والثقافية النابعة من طبيعة التكوين البيئي والحضاري لهذه المنطقة. ومن هنا جاءت ثقافة الصحراء لتكون هي الهويّة المقابلة للانتماء القومي وهي هويّة تُوخّي منها أن تكون قادرة على الحفاظ على الشخصية المستقلة في مواجهة (حرق المراحل التاريخية التي مرّ بها الشعر العربي في نهضة المعاصرة وذلك لاختصار الطريق وتحقيق القصيدة الحديثة التي نمت واشتد عودها على أراضٍ عربية أخرى) (25) .
لقد كانت الكتابة وفق ما انتهت إليه القصيدة على (أرض عربية أخرى) هو ما حققته القصيدة الحديثة من إنجاز لها ولكن في الوقت نفسه ظلّ هو مصدر التشكيك في انتمائها وعلى الهجمة الشرسة التي بدأت تحيط بها و (التحفظات والهجمات التي واجهتها ولا تزال تواجهها على الساحة المحلية) (26) ومن هنا كان مشروع البازعي في تكريس ثقافة الصحراء كمعلم للهويّة المحلية، على مستوى المملكة ثم على مستوى الجزيرة العربية، هو مشروع البحث عن مشروعية لأدب الشباب أو أدب الحداثة، يقول البازعي: (أدب الشباب أو أدب الحداثة وهو أدب تبين لي من معايشته زمناً أنه يحمل سمات عامة تجمع بعض نتاجه في الشعر والقصة القصيرة، سمات تمنح ذلك النتاج تميّزاً هو في ظني جزء من خصوصيّة أدبنا المحلي عموماً ورافد من روافد المشروعية التي نستند إليها حين نقول إننا نملك أدباً عربياً محلياً متميزاً بانتمائه إلى ظروف بيئته الخاصة وهي بيئة الجزيرة العربية) (27) .
(إن الحديث عن مشروعية يستند إليها التجديد، أو أدب الشباب أو على نحو أدق أدب الحداثة، إنما تستدعيه تلك المحاولات العنيفة التي استهدفت نزع المشروعية عن هذا الأدب وذلك باتهامه أنه أدب قد قطع صلته بقيم البيئة التي نشأ فيها فجاء امتداداً لأدب الغرب ومن تبعهم من العرب، ولذلك جاء الحديث هنا عن المشروعية انطلاقاً من إقامة الأدلة والبراهين على تميز هذا الأدب عن إطاره العام المتمثل في الأدب العربي بتأكيد انتمائه إلى ظروف بيئته الخاصة أي بيئة الجزيرة العربية) (28) .
وقد سعى البازعي في مقدمة كتابه إلى الربط بين دراستين تضمنهما الكتاب إحداهما حول ثقافة الصحراء كإطار عام للهوية المحلية والأخرى حول الثقافة الشفهية أو الشفوية التي لا تزال تسم ثقافة المنطقة، مستنتجاً أن ظاهرة الحداثة الشعرية في شعر منطقة الخليج والجزيرة العربية تتداخل تداخلاً عضوياً مع هذه الطبيعة الشفوية بشكل عام، وأن الوعي بشفوية الثقافة أساسٌ لإدراك الكثير من التشكلات الأدبية على اختلافها، وبنى على ذلك نتيجة مفادها أن (ثقافة الصحراء مثلما أنها نتيجة التفاعل مع الظروف الجغرافية هي أيضاً ناتج التلاقح بين نمطي الشفوية الكتابية ومنطقة التجلي الرئيسية لذلك الناتج هو الأدب الحديث أو أدب الحداثة) (29) . (ومن شأن وضع ثقافة الصحراء في هذا الإطار أن يمنح هذه الثقافة قدرتها على الحضور فيما يمكن أن يشكل نقيضاً لها فإذا كان شرطها الجغرافي والتاريخي يجعل منها ثقافة شفوية فإن تجليها في أدب الحداثة وهو ظاهرة كتابية -وهذا ما أكده البازعي) (30) - يجعلها قادرة على إعادة تشكيل مفهومها من ناحية وتشكيل هوية الذين ينتمون إلى المنطقة التي اتخذت محوراً لها، ويمكنها من إعادة إنتاج نفسها ثانية حين يتم تكريس مفهومها كناتج لهذا التداخل العضوي بين الشفوي والمكتوب وفق آلية لا تزال تعتمد إسقاط الجزء على الكل ذلك أن هذه الشفوية لا تنتمي إلى الصحراء فحسب وإنما هي شفوية تتعدد بتعدد البينات المختلفة التي تكون الجزيرة العربية والتي لا يمكن اختصارها في الصحراء. غير أن الأهم من ذلك هو ما نلاحظه من تحول في مفهوم الخصوصي الذي نحتاج إليه وما بلوره البازعي من مفهوم لها حين جعلها ناتج التلاقح بين الشفوي والمكتوب، وهو تلاقح ينجم عن (انعكاس تلك البيئة الحتمي في شكل الأدب ومضمونه) (31) . وإذا كان هذا التلاقح بين الشفوي والمكتوب والمشكل لثقافة الصحراء يبدو لنا في الدراسة التي اتخذت عنوان (ثقافة الصحراء ملامح الهويّة المحلية) هو المانح لهذا الأدب تميزه وخصوصيته ويشكل رافداً من روافد شرعيته فإن هذا التلاقح نفسه يتبدّى لنا على غير هذا الوجه في الدراسة التي عقدها البازعي لمفهوم الحداثة في الشعر الخليجي المعاصر حيث تظهر لنا الشفوية الثقافية من أسباب بعد المنطقة (عن أن تمارس دوراً فاعلاً في تسيير حركة الإبداع العربي الحديث) (32) فالمنطقة التي كانت في قبضة ثقافة شفوية لا تكاد تنفلت إلاّ عن أفراد قلائل نسبياً يتواصلون مع العالم الخارجي تثقيفاً وإبداعاً (تشكل لها هذه الثقافة الشفوية بما تفرضه من طبيعة حفظية تلقينية عاملاً من عوامل العجز عن مواكبة المنجز العربي المعاصر وما يعتمده من ثقافة كتابية حيث لا تزال بيئتنا الثقافية تحتدم بالجدل حول مشروعية قصيدة التفعيلة عكس للمتواتر والمألوف والقابل للحفظ في الوقت الذي استطاعت فيه بيئات ثقافية عربية أخرى أن تتجاوز ذلك الجدل بمراحل) (33) . ولما كان المبدع رهين ظروفه الحضارية كما يقول البازعي، والشاعر الخليجي ملزم بتلمس مساراته الإبداعية من خلال التحديات القائمة حوله وأهمها مقدرته على التوصيل وجد الشاعر نفسه مرغماً على تقديم التنازلات أو التكيّف بتعبير آخر لكي يتمكّن من التواصل مع جمهور ويقع تحت سيطرة الثقافة الشفوية التي تعتمد الحفظ والتلقين ويفتقر إلى الثقافة الكتابية التي هي الأساس في التجربة الحداثية (34) وبهذا تظهر لنا الشفوية كعامل إعاقة إذ تنتهي آليات الثقافة فيها من تكرار وإلفه إلى ضدّ ما تتوخاه التجربة الحداثية من جدّة واختلاف.
ولما كان من شأن هذه النتيجة المؤسسة على اقتناص علاقة التوتر بين الشفاهية والكتابية أن تربك قاعدة التأسيس لثقافة الصحراء قام البازعي (35) في مقدمة كتابه بتحوير العلاقة وتحويلها من علاقة تنازل أو تكيف كما ظهرت آنفاً إلى محاولة (الأدب الحديث -كتكوين كتابي في المقام الأول- أن يؤصل نفسه فيها) (36) أي في الشفوية الثقافية.. وبهذا تتحول الشفوية الثقافية من عامل إعاقة أو عامل ضغط يوجب تقديم التنازلات إلى كونها عامل تأصيل تسعى التجربة الإبداعية إلى تجذير نفسها فيها في سعيها للبحث عن هويّة أو خصوصية ويتم بذلك إعادة تركيب الذات من ذات ممزّقة بين مستقبل قائم على الثقافة الكتابية وماضٍ واقع تحت سلطة ثقافة شفوية إلى ذات تبني مستقبلها المكتوب على ماضيها الشفوي، وإذا كان مستقبلها المكتوب يمثل تواصلها مع العالم من حولها فإن ماضيها الشفوي هو أصالتها التي ينبغي لها أن تكسب من خلالها هويتها وخصوصيتها والتي يتم اختصارها في ثقافة الصحراء.
* * *
وأخيراً..
فإنه ليس في وسع هذه الورقة أن تنكر أن للصحراء ثقافتها غير إنها تسعى إلى كشف الخطاب الكامن وراء ثقافة الصحراء حين تطرح باعتبارها محدّداً للهويّة سواء توقفت هذه الهوية عند حدود الظاهرة الإبداعية أم امتدت لتشمل الذات المبدعة وذلك لما يصدر عنه هذا الخطاب من نزعة لفرض هيمنة المركز على الأطراف وكذلك من رغبة في إقصاء ثقافات أخرى لا تندرج تحت قائمة ثقافة الصحراء، وأخيراً لما يولده هذا الخطاب من نظرة نستالجية استعلامية تختصر العلاقة بالصحراء في نشيد للفخر يتم التنويع على مقاماته وهو ما يفضي إلى وأد ثقافة الصحراء نفسها باعتبارها جدلاً ممتداً في التاريخ بين الإنسان وما يعرض له من أحوال، والمكان وما يطرأ عليه من ظروف.
وليس في وسع الورقة كذلك، أن تنكر حضور الصحراء في النص الإبداعي بعامة غير أنها تنظر إلى هذا الحضور للصحراء باعتبارها عنصر الكون الشعري المحتدم في جنبات النص، دون أن تحاول تكريسها باعتبارها دالاً على هوية كائنة أو هويّة ينبغي لها أن تكون وإذا كانت هذه الورقة تؤمن أن القصيدة في الخليج مسكونة بهاجس العطش والهجير متلهفة لقطرة ماء ومتشوقة لنسمة ريح، فإنها تؤمن في الوقت نفسه أن نصيب القصيدة في الخليج من ذلك هو نصيب القصيدة العربية منذ أن بكى امرؤ القيس على أطلال عنيزة حتى بكى أمل دنقل بين يدي زرقاء اليمامة وشكا كلاهما الوجد والحزن والضياع، والصحراء التي أعلن جار الله الحميد انتماءه لقيظها (37) وغرس محمد الثبيتي هاجس أغنيته فيها (38) وجاء رجل سيف الرحبي من ربعها الخالي (39) هي الصحراء التي هتف لواحتها أمين نخلة (40) ، وبلغ عواء ذئابها أذني عبد الحي (41) وصار دم محمد الأشعري المتراقص خارج جسده نخيلاً وواحة فيها (42) وتعلّق بآدابها إيليا أبو ماضي وهو يخطر بين مدن المهجر فأنشد (43) :
خذوا الخلق الرفيع من الصحاري فإن النفس يفسدها الزحام
وكم فقدت جلالتها قصورٌ ولم تفقد مروءتها الخيام
سعيد مصلح السريحي- جدة
14/1/1421هـ-19/4/2000
 
طباعة

تعليق

 القراءات :659  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 153
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج