قراءات نقدية وتحليلية في الطبعة الثانية |
(وحي الصحراء)
(1)
|
تأليف: محمد سعيد عبد المقصود وعبد الله عمر بلخير، الطبعة الثانية 1403هـ، جدة، تهامة للنشر والمكتبات. |
عرض وتحليل: حسين عبد الله بانبيلة |
الحلقة الأولى
|
جميل جداً أن تهتم دار نشر كبرى، في المملكة العربية السعودية، بالبحث عن الإصدارات الأولى من الكتب: سواء كانت تاريخية أو اجتماعية أو أدبية، وتعيد نشرها ثانية؛ وذلك لأن هذه الكتب أصبحت لها أهمية تأريخية؛ يمكننا إجمالها فيما يلي:
|
1- هذه الكتب أصبحت من النوادر؛ بل هي أندر من النوادر. |
2- إن معظم -بل غالبية- شباب البلاد، اليوم، لم يطلع على هذه الكتب، ولا يعرف منها إلاّ اسمها فقط. |
3- تحتوي هذه الكتب على أفكار كانت تعد من الأفكار الشابة، التي كانوا ينادون بها. ولاقوا -في سبيلها- الكثير والكثير جداً، وأصبحت -اليوم- من الأشياء العادية، التي نعايشها ونعيشها. |
4- تحتوي هذه الكتب على ما يمكننا عده من بواكير إنتاجنا الأدبي -نثراً وشعراً- وبالاطلاع عليه ودراسته يمكننا معرفة تطور ونمو أدبنا الحديث، في هذه البلاد. |
5- تحتوي هذه الكتب على وثائق تأريخية، من صور لأشخاص انتقلوا إلى العالم الآخر، وكانوا قمة في الحياة الاجتماعية والأدبية، في تلك الأيام. |
إن ما تقوم به ((تهامة للنشر والمكتبات)) من نشر أمثال هذه الكتب يعد -في رأيي- أنموذجاً حياً لما يمكن أن تقوم به دار نشر، استطاعت أن يكون لها دور مميز بين دور النشر في المملكة فلها من الإصدارات عدة مجموعات: مثل: الكتاب العربي السعودي، ورسائل جامعية.. وغيرهما؛ وكلها تعنى بنشر الفكر في بلادنا؛ سواء ما هو حديث مؤلف، أو دراسات أكاديمية عليا، وأبحاث قام بها شباب وشابات من بلادي. |
واليوم -يعنيني من إصدارات (تهامة للنشر والمكتبات) إصدارها رقم (86) وهو كتاب (وحي الصحراء) لمؤلفيه: محمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير. |
وكان الكتاب قد صدر منذ أكثر من ثمانٍ وأربعين سنة. ولعلّي أستطيع أن أصل إلى أن بواكير إنتاجنا كانت أكثر شمولاً، وأصدق لهجة، وأعمق تعبيراً، وذات تأثير لا ينكر. |
إن أولئك الروّاد، الذين تحملوا -في سبيل أفكارهم- ما تحملوا، واستطاعوا أن يقنعوا مجتمعهم بفائدة وجدوى هذه الأفكار، يجب ألاّ ننساهم، في خضم هذه الحياة؛ بل يجب أن تعيهم ذاكرة الناشئة والشباب، اليوم؛ فدعاء بالصحة والعافية والسعادة للذين ما زالوا منهم على قيد الحياة، جزاء ما قدموا لأمتهم، ووطنهم، وتراب أرضهم. |
ليس بخاف أن الأستاذين: عبد الله عمر بلخير، ومحمد سعيد عبد المقصود يعدان من أركان الأدب في بلادي؛ فالأستاذ ((بلخير)) معروف مشهور في دوائر الأدب وملحقاته في كل الوطن العربي، وما زلت أذكر أننا كنا نردد نشيده، الذي مطلعه: |
بلادُ العرب أوطاني
(2)
|
من الشام لبغدان |
|
أما المرحوم الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود، وقد انتقل إلى رحمة الله الواسعة: وهو في ريعان الشباب -وهو، كما يقول عنه عارفوه، والذين عايشوه، كان شعلة من الذكاء المتوقد الهادف البناء، أسهم في إثراء الحركة الأدبية في البلاد، وأسهم بقسط وافر في تشجيع الأدباء، ونشر نتاجهم، كما كان أول من فكر في طباعة المصحف الشريف بمكة المكرمة. وقد قام بطباعة كتاب (تاريخ مكة -للأزرقي) بتحقيق الأستاذ ((رشدي ملحس))
(3)
. |
يقول الأساتذة مؤلفو الكتاب (يجد المتتبع للنهضات الأدبية، في الأقطار العربية، صعوبة وشدة عناء؛ عندما يحاولون الكلام عن الحركة الأدبية في الحجاز، ويحوجه البحث والتنقيب إلى إضاعة الوقت؛ للحصول على مستند أو مرشد؛ يستطيع -بالنظر- لمس بوادر هذه النهضة الفنية؛ للحكم عليها، وإعطاء صورة صادقة عنها للناطقين بالضاد، وهواة الأدب العربي؛ فيحاول أن يجد لها أثراً في كتاب مؤلف، أو صحيفة سيارة، فلا يظفر بشيء، اللَّهم إلاّ نفثات مبددة في بعض الصحف، وكتيبات غير صالحة لأن يحكم بها على نهضة أدبية في شعب فتي
(4)
. |
إذن: فقد كان الغرض الأساسي، من هذا الكتاب، هو التعريف بالأدب العصري، في ذلك الوقت، في الحجاز، وبخاصة أن الحجاز له موقع خاص في نفوس الوافدين إليه، أو المتشوقين لزيارة الأماكن المقدسة فيه؛ فهو مهبط الوحي، ومنزل القرآن؛ فيه درج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وعايش الدعوة، ومنه خرجت جحافل الجيوش الإسلامية الأولى للفتوح، التي سارت بذكرها الركبان. |
كتب المقدمة أديب العربية الكبير الدكتور المرحوم، محمد حسين هيكل، في سبع صفحات؛ حاول فيها الدكتور هيكل أن يدرس هذه الآثار، التي تم جمعها في هذا الكتاب؛ ليبني -بعد ذلك- رأيه فيها؛ وملخصه فيما يلي: |
1- أثر الثقافة في مصر وسوريا والعراق -في تلك الفترة- واضح في هذه المجموعة، وإن كان الأثر المصري -بحسب رأيه- أكثر وضوحاً، وأبرز من غيره فيها. |
2- إن معظم من جمع لهم، في هذا الكتاب، شباب لا يتجاوز عمر الواحد منهم الأربعين؛ بل إن الغالبية منهم دون ذلك بكثير -طبعاً كان ذلك في عام 1355هـ عند صدور الطبعة الأولى من الكتاب. |
3- إن أثر البادية واضح في نثر وشعر بعض شعراء وكتّاب هذه المجموعة؛ فهو جزل الألفاظ، رقيق المعاني. |
تلك كانت آراء الدكتور هيكل في الكتاب، وفيمن جمع لهم فيه. |
ندلف -بعد ذلك- إلى التحية، التي كتبها المرحوم علي أحمد باكثير، شاعر العربية الكبير، لهذه المجموعة؛ فهي تصور تطلع الشاعر المرحوم إلى وحدة العرب؛ حتى يستطيعوا بناء حضارتهم من جديد، وقد كانت التحية راقصة رائعة؛ صورت شباب الأمة العربية، من المشرق إلى المغرب؛ وهم يبنون حضارتهم الجديدة بسواعدهم الفتية الشابة، وقد وصف المرحوم هذا السفر قائلاً: |
نجم، يعلمنا الفدا |
ء، بما يشع من الضياء |
يهدي إلى حق الحيا |
ة، ولا حياة بلا فداء |
|
عظيم أنت يا باكثير؛ فالحياة ليست أكلاً وشرباً ومتعة؛ إنما الحياة روح؛ لبها الفداء. |
وفي الموضوع، الذي كتبه المرحوم، ((ابن عبد المقصود)) عن الأدب الحجازي والتاريخ، استطاع الكاتب أن يدرس تطور الأدب، في الحجاز، منذ العصر الجاهلي، حتى العصر الحاضر، وقد كان استعراضه لهذا التطور رائعاً؛ فقد أجمل فيه أكثر من ثلاثة عشر قرناً في سطور ناصعة البيان، واضحة المعاني؛ تدل عبارات الكاتب على اطلاع ممتاز، وثقافة واسعة، بأسلوب مشرق وضّاء، وتناول عميق الفكرة، جريء اللسان. |
بعد ذلك -يبدأ الكتاب باستعراض آثار الأدباء الشباب، الذين اختارت اللجنة المكلفة بالاختيار، وأول من يصافح القارئ من هؤلاء الشباب -آنذاك- المرحوم الشاعر الكبير ((أحمد إبراهيم الغزاوي)) ولعلّ وضعه في المقدمة كان لسنه في ذلك الوقت؛ فهو من مواليد عام 1318هـ، ولعلّ صورة المرحوم ((الغزاوي))، ونظراته الصارمة، تشد القارئ إلى مطالعتها وتأملها ملياً -رحمه الله رحمة واسعة. |
إن نظم الأستاذ ((الغزاوي)) يذكرنا بالشعراء الأوائل؛ من أمثال امرئ القيس، وطرفة، والنابغة، وجرير، والفرزدق، والمتنبي، وغيرهم من شعراء العربية الفطاحل، في مختلف عصورهم الأدبية. |
وليس كل شعر ((الغزاوي)) مديحاً أو ثناءً؛ وإنما فيه بعض اللفتات الجميلة، والأبيات الغزلية الرائعة؛ منها هذه الأبيات بعنوان ((في وادي لية)): |
بأبي من رأيتها فاسترابت |
نظرتي نحوها؛ فقالت (علامك) |
قلت صب أصيب بالعين قالت: |
روع اللَّه من على الحب لامك |
أنت من (لية) بدارة (عوف) |
حيث فرط العفاف يذكي غرامك |
إن فيها من الظباء لحوراً |
يتناجين في المروج مرامك |
فاغضض الطرف إن علقت وخالس |
نظرة الحب واستذم آثامك |
لا تغرنك بسمة من كعاب |
فتؤاتي على اغترار حمامك |
|
من هذه الأبيات الستة. نستطيع أن نخلص إلى ما يلي: |
1- استطاع الغزاوي -رحمه الله- أن يضمن بيته الأول منها كلمة (علامك) وهي كلمة بدوية جزلة، رقيقة في ذات الوقت؛ تعني: ماذا تريد؟ بلهجة سكان تلك المنطقة؛ وهذا لعمري ما أضفى على الأبيات مسحة بدوية لطيفة، عبقة الشذى؛ تشعرك بتمكن الغزاوي -رحمه الله- من النظم، منذ بدايته. |
2- تأثر ((الغزاوي)) بالألفاظ الشاعرية القديمة، بمثل (اغضض الطرف) فهي استعارة لطيفة من بيت جرير، المشهور المعروف. |
وفي قصيدته، التي عنوانها (هذا هو الشرق) نجد الغزاوي -رحمه الله- يستنهض شباب الشرق؛ لكي يشمروا عن سواعد الجد، ولينهضوا ببلادهم؛ فالنهضة عنده قوامها وقواعدها (التعليم) فهو يقول: |
يا ((شرق)) حسبك ما لاقيت من عنت |
أفق فإنك بعد اليوم مقتحم |
شمر ذيولك و (انهض) لا تكن خولا |
ولا يصدك عن درك العلا حمم |
وواصل السعي في (التعليم) مقتبساً |
خير الفنون وإلاّ مضّك الألم |
واختر لأهليك ما ترجى منافعه |
فأنت (بالدين) و (التمدين) تحترم |
|
وفي قصيدته، التي عنوانها (شجو الحمام) نجده متأثراً بالشاعر الأندلسي (ابن زيدون) كثيراً، غير أنه لا يألو جهداً في حث شباب الأمة نحو الوحدة، التي ترومها كل نفس؛ فهو يناجي حمائمه قائلاً: |
فما بنفسي مما تشتكي حرق |
ولا تعشقت أراما وغزلانا |
لكن سكبت دمي دمعاً على وطني |
قد كان في المجد والتاريخ ما كانا |
أرسى قواعده الأبطال من مضر |
فراح ينشد فوق النجم أكفانا |
وساد بالدين والدنيا وسائله |
وطيف الأرض إيماناً وعرفانا |
فكان في (الشرق) يكسو الشمس حلتها |
وكان في (الغرب) يزجي النور فرقانا |
ثم استباحت يد التفريق بيضته |
واستبدل الذل بعد العز خذلانا |
لولا الذي اتخذ المختار قدوته |
وخول العرب بالتوحيد سلطانا |
فإن أرقت وإن غنيت من شجن |
فللذي أنا أبغى رجعه الآنا |
مجداً، وعلماً وآمالاً مشيعة |
و (وحدة) وأفانينا وعمرانا |
فهل علمت ولا تألين موعظة |
من ذا الذي هو بالترجيع أشجانا |
وإن جهلت فحسبي كل ذي طرب |
أصفى فردد ما أمليت جذلانا |
وأنت إن شئت أن لا تنصفي فدعي |
عنك النواح فإن الشجو أعيانا |
|
وليت ((تهامة)) للنشر والمكتبات، تحاول نشر تراث ((الغزاوي)) شعراً ونثراً؟! فتلك أمنية.. |
ثم تطالعنا -بعد ذلك- صورة شيخ الصحافة الأستاذ الكبير ((أحمد السباعي)) مد الله في عمره، وأسبل عليه سرابيل الصحة والعافية؛ وهو معتم بتلك العمامة الحجازية، وتعطي نظراته، الصدق، والإخلاص، والذكاء. |
وأول ما يطالعنا لما اختير لشيخنا الكبير -حفظه الله- كان عن تعليم الفتاة، وقد كان الأستاذ ((السباعي)) من أوائل الذين نادوا بتعليم الفتاة، وفتح المدارس لهن؛ فهو يدافع عن فكرته، بأسلوب سهل رصين، ذي إقناع وحجة وبيان؛ يوضح للقارئ مضار جهل الأم؛ إذ إن جهلها يورث المجتمع جيلاً يشقى بهم؛ بدل أن يسعد بهم، ويسعدوه. |
ويمضي اختيار اللجنة قوياً لما اختارته من مقالات للأستاذ ((السباعي))؛ فالأستاذ ((أحمد السباعي)) جريء فيما يكتبه يصدع بما يراه حقاً وصواباً، ولا يخاف في الله لومة لائم، عايشته أكثر من أربع سنوات حين كنت أُشارك معه في تحرير مجلته (قريش) فعرفت فيه رجلاً ولا كل الرجال، وعرفت فيه إنساناً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ؛ فهو حين يريد توجيهك أو إرشادك لا يجابهك بما يريد؛ وإنما يحاول أن يوصله لك، عن طريق آخر؛ فهو كالطبيب يغلف الدواء المر بالسكر؛ حتى تستسيغه وتتجرعه. |
وكذا كان أستاذنا السباعي: |
فما يكون منك إلاّ الإكبار لهذا العملاق، وهو في كتاباته منطقي: يسوق لك البراهين والأدلة على صحة ما يقول، ويؤمن به، وما زال أستاذي الجليل ((أحمد السباعي)) على نفس منواله، الذي عاشه في أول حياته، صريحاً قوياً، مخلصاً في كتاباته، ولعلّ هذه الصفات جعلت المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- يطلق عليه لقب ((شيخ الصحافة)) كما عرف له جلالة مولاي الملك فهد بن عبد العزيز -حفظه الله- حقه وجهاده؛ فسأل عنه في احتفال أهالي مكة المكرمة عام 1403هـ. |
ثم تطل علينا صورة شيخنا الأستاذ الكبير ((أحمد العربي)) بنظراته الوادعة الهادئة، المتمكنة، وتحتها أبيات كلها حكم؛ تسيل بشفافية رائعة. |
الأستاذ ((أحمد العربي)) شاعر شديد الحساسية، شفاف الأسلوب، مشرق الديباجة، خفيف الروح، في شعره ونثره، قوي في تناوله للموضوعات، التي يطرقها -متعنا الله بحياته. |
وأول ما اختارت له اللجنة قصيدته (أيها العيد) قصيدة قوية المطلع، خفيفة الوزن، قوية السبك، سريعة الحفظ؛ تصور منظراً من المناظر، التي تنفطر لها القلوب، وتذرف العيون دموعها حسرة وأسى؛ إنه منظر الطفل اليتيم في العيد، وقد لبس أترابه الجديد من الثياب والرياش؛ وهم يمرحون، ويسرحون؛ ضحكين؛ فرحين؛ بين آبائهم وإخوانهم. |
أما هذا اليتيم فتلفه أخلاقه البالية من الثياب، يختلس النظرات إليهم بطرف كليل؛ يعود إليه خاسئاً وهو حسير، يذرف الدمع من مقلتيه، ويتلفت المسكين؛ فلا يجد له ملجأ إلاّ صدر أمه الحنون؛ فيسرع إليها مرتمياً في أحضانها؛ يتساءل عن أبيه؟ ولكن ماذا تملك المسكينة؟ فليس لديها شيء إلاّ دموعاً تذرفها من عيون مقرحات الجفون؛ صور رائعة؛ تصور الانفعالات النفسية، التي تمر بها هذه المسكينة، وابنها اليتيم؛ إنها الأم الرؤوم؛ التي لا تملك إلاّ دموعها؛ استطاع أستاذنا الكبير ((أحمد العربي)) أن يصورها في قالب شعري جميل رائع؛ فهو يقول: |
أيها العيد رب طفل يعاني |
فيك من بؤسه عذاب الهون |
هاجه تربه بملبسه الزا |
هي، وكم فيه للغبا من فتون |
فرنا نحوه بطرف كليل |
ليس يقوى على احتمال الشجون |
ثم ولى والحزن يفري حشاه |
مستغيثاً بعطف أم حنون |
وجثا ضارعاً إليها يناجيـ |
ها، بدمع من مقلتيه هتون |
ويحها ما عسى تنال يداها |
وهي خلو الشمال صفر اليمين |
كل ما تستطيعه عبرات |
من عيون مقرحات الجفون |
|
ثم، ترى شاعرنا الكبير يغتنم فرصة تفاعل قارئه معه بهذه الصور المتحركة؛ فيدعو المقتدرين من أصحاب الثراء أن يعطفوا على أمثال هؤلاء اليتامى والمساكين بشيء مما أعطاهم الله؛ فهو يقول لهم: |
أيها الموسرون رفقاً وعطفاً |
وحناناً بالبائس المحزون |
ربما بات جاركم طاوياً جو |
عاً، وبتم تشكون بشم، البطون |
ربما ظل طيلة العيد يستخـ |
ـفي، من الصحب قابعاً كالسجين |
يتوارى من سوء منظره المز |
ري، ومن حاله الكريه المهين |
أي فضل للعيد يستأثر المثرون |
فيه بالطالع الميمون؟ |
والفقير الكئيب يرجع منه |
بنصيب المرزأ المغبون؟ |
كل دهر المثرين عيد فما أغنى |
ثراهم عن عهده المضنون؟ |
|
ثم تطالعنا التحية، التي نظمها أستاذنا الكبير للطيارين الأوائل من شباب بلادي -قائلاً: |
أهلاً بقادمة النسو |
ر، طليعة العهد النضير |
الرافعين لواء مجـ |
ـد، بلادهم فوق الأثير |
المنتضين عزائما |
أمضى من السيف الطرير |
أهلاً بمفخرة الحجا |
ز ورمز سؤدده الخطير |
|
* * * |
وطن أقلت أرضه |
خير الخلائق والعصور |
ومشى على جنباته |
جبريل والروح الكبير |
وتمخضت أعطافه |
عن ذلك الماضي النضير |
أفلا يحن إلى النهو |
ض ويستجيب إلى البشير؟ |
|
* * * |
ثم نتابع مطالعة هذا السفر؛ فتطل علينا صورة وترجمة الأستاذ ((أمين بن عقيل)) -رحمه الله- وهو أحد أدباء الرعيل الأول، غير أننا لا نجد له ترجمة في موسوعة الأستاذ ((عبد السلام الساسي)) رحمه الله، في الجزء الأول، المخصص لحرف الألف، ولا أعرف لذلك سبباً. |
وأول ما يطالعنا للأستاذ ((ابن عقيل)) موضوعه عن التعليم، ومناهجه التي كانت تدرس في ذلك الوقت في الحجاز؛ وهو يتساءل: هل هذه المناهج تعين على تخريج جيل واعٍ متفهم..؟ هذا، ونرى الأستاذ ((ابن عقيل)) يقترح عدة مقترحات بناءة؛ لرفع مستوى التعليم في البلاد؛ نذكر منها: |
1- تغيير المناهج بما يتلاءم وبيئتنا وروح العصر، الذي نعيشه. |
2- إقامة رياض للأطفال: (ولعلّه أول من نادى بذلك بين الأدباء والمشتغلين بالإصلاح الاجتماعي، في بلادنا، في تلك الفترة). |
3- أن يكون التعليم إجبارياً. |
4- توحيد المناهج. |
5- إدخال مواد التربية الفنية والرياضية والفنون والصناعة. |
6- افتتاح دار المعلمين. |
7- إيفاد بعثات للخارج للتخصصات المختلفة. |
8- إنشاء الجامعة. |
9- إنشاء مبانٍ صحية ملائمة للمدارس. |
10- تعميم المدارس الليلية. |
11- افتتاح النوادي الأدبية والرياضية. |
ولقد منّ الله على البلاد فأصبح ما يدعو له أدباء الرعيل الأول حقائق قائمة؛ يعيشها شباب هذه البلاد؛ وذلك على أيدي ساسة هذه البلاد -حفظهم الله. |
ثم نتابع مطالعتنا لهذا السفر؛ فتطالعنا (على الصفحة 163 منه) صورة وترجمة الشاعر الكبير الأستاذ ((أحمد قنديل)) رحمه الله؛ فالقنديل شاعرنا الشعبي، الذي عاش لفنه، يعطيه من قلبه الكثير، والكثير جداً، وأثرى مكتبتنا بشعبياته ومحدقاته
(5)
من مركازه
(6)
. |
ولم يقتصر شعر شاعرنا الكبير على الشعبيات أو ((الحلمنتيشيات))؛ فله من الشعر العربي الفصيح دواوين كثيرة نشرها في حياته، وله في هذه المجموعة قصائد؛ نذكر منها قصيدته بعنوان (إلى الشعب) حيث يقول: |
لسنا من المجد في أعلى منارته |
أو في الطريق قطعنا منه ما عظما |
لكنما نحن شعب يرتجي أملاً |
ضخماً، وأرقى أماني الشعب ما ضخما |
ومن رجى وسعى بالجد متشحاً |
بالصبر مدرعاً -نال المنى نعما |
|
* * * |
يا قومنا الآن حلقنا بناظرنا |
وقد مددنا ضعيفاً ذلك القدما |
فجردوا الجد من أغماد أنفسكم |
ولتنفروا كتلاً، واستنفروا الهمما |
قوموا نجدد من المجد التليد لنا |
مجداً طريفاً، يباري عزه الأمما |
أحيوا الجدود مفاداة وتضحية |
روحاً كبيراً وعقلاً ناضجاً حكما |
وأبنوا على النسق الأسمى حضارتنا |
واستلهموا الشرق حياً خير ما رسما |
واستلهموا النسق العصري ما نطقت |
فيه البراعة والإعجاز فانسجما |
خذوا من ((الغرب)) مارف الجديد به |
روحاً جديداً تسامى اليوم محترما |
خذوا العلوم على الطرز الحديث خذوا |
منه الفنون خذوا الأفكار والنظما |
خذوا الصناعات والأعلاق منه دعوا |
ما لم يكن وجلال العرب ملتئما |
ولتنفروا عن سموم منه -افتكها |
ما خالف الدين- ما قد خالف الشمما |
|
أبيات من الشعر -في رأيي- يجب أن تكون أمامنا، دائماً، تحثنا على النهوض، وتشمير السواعد؛ للقيام بواجباتنا نحو هذه البلاد، وهذا الثرى الطاهر. |
ثم -بعد ذلك- تطالعنا ترجمة وصورة الأستاذ ((حسين خزندار)) على صفحة 181 من الكتاب. وقد اختارت اللجنة أنموذجين فقط للأستاذ ((خزندار)) وهذان النموذجان لا يعطيان الدارس صورة واضحة عن أسلوب وأدب الأستاذ ((خزندار)) لكنها لا شك تعطيه بصيصاً من النور نحو هذا الأديب، الذي يتسم أسلوبه بالإشراقة والسهولة. ولنقرأ له هذا النص، الذي يصف فيه ذلك الجندي الفرنسي، الذي مزقت قنابل الألمان جسده؛ وهو محتضن رسالة قائده، التي أمر بإبلاغها: |
وهنا في هذه التربة المعتبرة |
بدماء الشهداء الخالدين |
يقيم ذلك الرجل المجهول |
الذي ضحى بحياته |
واستهدف للفناء |
ولكنه لم ينس الوطن |
حتى في اللحظة الأخيرة |
فرفع يده كذراع شمشون |
واستشهد قائلاً: |
في سبيل الوطن أحيا |
وفي سبيله أموت |
|
ثم نواصل تقليب صفحات هذا السفر؛ لنصل إلى الشاعر الكبير الأستاذ ((حسين سرحان)) ذلك البدوي القادم من هوازن -تجد في شعره ريح الخزامى، وعبق الأذخر؛ استمع إليه في قصيدته، التي عنوانها ((ثغر رفاف)) على صفحة 197: |
أتتقي اللَّه خوفاً ثم تقتلني |
من يقتل النفس لا يخشى من اللَّه |
ما كان أحلاك من ثغر يخف له |
روحي وأرواح أمثالي وأشباهي |
قد كان عزي وجاهي في سموهما |
واليوم أصبحت لا عزي ولا جاهي |
|
و ((السرحان)) شاعر كبير من شعراء الرعيل الأول في بلدي؛ له وزنه وثقله في ميزان الأدب العربي الحديث؛ فصولاته وجولاته فيه معروفة مشهورة. |
ورعيلنا الأول عاش حياة؛ ملؤها الحرمان؛ فهذا شاعرنا ((السرحان)) يقول في قصيدته، التي عنوانها (ليته كان مثلي): |
صاح من دهره وبث شكاة |
وتمنى لو كان في العيش مثلي |
موقناً أني سعيد وأني |
أقضي العمر في نعيم وفضل |
لست أدري ماذا أقول؟ ولكن |
ليته كان مثلما شاء مثلي |
لسقته الحياة كأساً مريراً |
فائضاً من شقائها ملآنا |
ولذاق العناء والبؤس ألوا |
نا ولاقى من دهره حرمانا |
مثلما ذقته وكابدت منه |
ألم النفس، ليته كان مثلي |
|
* * * |
ليته عاش مثلما عشت حتى |
لا يغرنه خداع المظاهر |
أظهر الصبر للأنام وفي أعماق |
قلبي بركان (فيزوف) ثائر |
ليتني كنت مثله فارغ القلب |
خلياً، وليته كان مثلي |
|
وله بيتان جميلان بعنوان (خطوة) على صفحة 201: |
طلبت ندى الزمان فما تمنى |
وحاولت الثراء فما أتيحا |
كذلك رضت بالحرمان قلباً |
غدى من بعد جدواه شحيحا |
|
ثم -بعد ذلك- يطل علينا الشاعر ((حسين سراج)) أحد كبار شعراء المملكة اليوم، ومن الذين ساهموا بقسط وافر في إثراء المكتبة العربية بمسرحيات شعرية رائعة جميلة؛ فله -في هذا المجال- باع طويل، ومساهمات تذكر فتشكر؛ منها (غرام ولادة) و (الشوق إليك) وقد اختارت له اللجنة قصائد ومقطعات شعرية جميلة؛ منها على سبيل المثال مقطوعة بعنوان (الحب) على صفحة 207: |
قالوا براك الهوى من لوعة الهجر |
وكثرة النوح آن الليل والفجر |
واهتاجك الشوق لا دمع يكف ولا |
وجد يخف، ولا عون من الصبر |
ونام غيرك مرتاحاً ونمت على |
نار من السقم أذكى من لظى الجمر |
ما بين آه وأواه وليت وهل |
لا تستقر على حال من الفكر |
لم يبق فيك سوى آمال محتضر |
يرجو الحياة ولو في ظلمة القبر |
فليت من تبتغي تحنو عليك ولو |
بنظرة تبعث الآمال في الصبر |
لكن ليلاك لا تهواك فامض فما |
بكاك مجد، ولا يغني عن الهجر |
فقلت خلوا سبيلي لست مستمعاً |
لنصحكم فدعوني والهوى العذري |
الحب لولا الشقا ما ساغ مشربه |
ولا ترنم قيس الشعر بالشعر |
الحب سهل التردي في مسالكه |
أما التخلص فهو الموت إن تدر |
وأنت يا عاذلي هون عليك فلو |
عرفت حبي لما أنقصت من عذري |
|
ثم يتابع السير فتطل علينا ترجمة وصورة الأستاذ الكبير ((عبد الوهاب آشي))، فهو من أساتذة الرعيل الأول، من أدباء المملكة؛ فهو من أولئك الروّاد، الذين ساهموا في بناء صرح الأدب، منذُ أكثر من نصف قرن؛ له أسلوب ممتاز، يذكرنا بأولئك الأوائل، من شعراء العربية؛ لنقرأ له هذه الأبيات، التي يقول فيها: |
بلاد سمت بالأولى عرفوا |
طريق المعالي ومضمارها |
كبار النفوس قصيو المرا |
م، تهدوا الحياة وأسرارها |
سعى المجد طوعاً إلى بابهم |
وأولتهم الأرض أمصارها |
إذا جد جد الوغى يمموا |
ميادينها وجلوا عارها |
|
* * * |
بلاد بها نبتت أعظمي |
أكلت جناها وأثمارها |
أحن إليها وأصبوا إلى |
رباها وأعشق أحجارها |
|
ثم هو ذا ينادي محبوبته أن تذكره في مقطوعته بعنوان (أذكريني): |
إذا لمع البرق بين الغمام |
وشق الصباح قباب الظلام |
وقامت ذكاء تحيي الأنام |
ألا فاذكريني وردي السلام |
|
* * * |
إذا أنعش الروض هب النسيم |
وغنى الهزار بصوت رخيم |
وماست غصون وجد النعيم |
ألا فاذكريني وردي السلام |
|
* * * |
إذا ما الندى كلل الجلنار |
وهب الأناس لكسب اليسار |
وحل الرحيل وسار القطار |
ألا فاذكريني وردي السلام |
|
* * * |
أسلماي هل تعطفين على |
عليل يقاسي عذاب القلا |
ألا فاذكريني وردي إلى |
فتاك الحياة، برد السلام |
|
* * * |
وللأستاذ، الآشي، نثر يسمو، حتى يكاد يصل إلى مرتبة الشعر. |
|