1- أحمد السباعي |
كتب الأستاذ (السباعي) عن صديقه الأستاذ (محمد سعيد عبد المقصود) في مؤلفه (أيامي)
(1)
وجاء فيه: |
ولمعت في هذه الأثناء في جدة والمدينة أسماء تضاف إلى الرعيل الأول منها في جدة الأساتذة محمد حسن عواد -حمزة شحاته -محمود عارف وفي المدينة الأساتذة عبد القدوس الأنصاري -محمد حسين زيدان -علي حافظ -عثمان حافظ -عبد الحق النقشبندي -إلى غيرهم مما لا أستطيع استقصاءه في المدينة أو في جدّة لقلة اختلاطي بهم يومها ولا بد أنها كانت لهم مجتمعات وندوات يستطيع غيري من المدينتين أن يتحدث عنها بإسهاب لا أعرف تفاصيله. |
وأستأنف عودتي إلى مكة مرة أخرى لأن من بين الملحقين بالرعيل الأول شاباً يتعين عليّ أن أقف عنده بعض الوقت، هذا الشاب هو المرحوم محمد سعيد عبد المقصود تعشق الأدب وأقحم نفسه في زمرة المتأدبين فأبرز نشاطاً قليل المنال كان يعمل في حسابات جريدة أم القرى وكان يديرها ويحررها يومئذٍ الأستاذ رشدي ملحس وعندما نقل الأستاذ رشدي إلى الرياض للعمل في قصر الملك عبد العزيز رحمه الله أناب عنه في الإدارة والتحرير أخانا عبد المقصود.. نسي عبد المقصود أنه يحرر جريدة رسمية ليس لها أن تتخطى حدود البلاغات والنشرات والأوامر الرسمية وراح يفتح لقلمه فيها مجالاً بتوقيع الغربال غربل فيه أوضاع البلاد وتقاليدها كما غربل نفسه في مقالات مطولة متسلسلة كانت تتميز بجرأة غريبة لم تألفها مجتمعاتنا بعد. |
بهذه الجرأة استطاع أن يقفز من ذيل القائمة إلى صدرها ليقود إخوانه إلى ندوات واجتماعات كان لها صداها المدوي. |
كان يجمعنا إلى بيته لنناقش شؤون الشباب وعندما أقترح البعض أن يقيم الشباب احتفالاً عاماً سنوياً في منى يدعو إليه علماء الحجاج وأعيانهم وأدباءهم ورجال الفكر منهم ليستعرضوا الشباب الجديد في هذا البلد ويعرفوا مدى ما أنجب اضطلع رحمه الله بأهم الأعمال في الموضوع ووجد -والحق يقال للتاريخ- من وكيل وزارة الخارجية السيد فؤاد حمزة والشيخ محمد سرور تشجيعاً أدبياً غريب المثال كما وجد في المرحوم الشيخ عبد الله السليمان تشجيعاً مادياً له قيمته الفعالة. |
واستمر الشباب يقيم حفله السنوي في منى وبعد أن يقدم خطباءه يترك المنبر للحجاج ليتباروا بما عندهم من ألوان ولكن ما عتمنا بعد سنوات أن رأينا منبر الحفل وقد بات مثاراً للجدل المذهبي ومجالاً لدعاوى السياسة المختلفة في العالم، وأن أغراضه الأدبية ضاعت بين ما يثار فاستغنينا عن الحفل وألغيناه. |
كان الشباب في هذا الرعيل متوثباً دائم الحركة موفور النشاط، أذكر أنه عندما وافت الأخبار بعودة بعثة الطيران التي سافرت إلى إيطاليا لتتعلم قيادة الطائرات وميكانيكيتها قرر الشباب في أحد اجتماعاته أن يستقبلهم بحفاوة صارخة فخفوا عن بكرة أبيهم إلى جدة واستقبلوهم باسم الشباب على الرصيف هاتفين بحياتهم وحياة الشباب ثم خرجوا بهم إلى مدينة جدة محمولين على الأعناق وأعلنوا في جريدتهم صوت الحجاز أنه سيحتفل بهم عند مدخل جرول وأن الدعوة عامة فهرعت زرافات المواطنين في مكة إلى مكان الاحتفال. |
ليست هناك مقاعد ولا مخيمات إنما هي قطعة أرض واسعة اختاروها في ظل أحد الجبال أقاموا في وسطها منبراً لا أكثر وقف أمامها الطيارون وازدحم الناس حولهم وقوفاً حتى ألقيت كلمة الترحيب وقصيدة من الشعر النابض ثم انتهى الاحتفال ومشى الموكب في سياراته يقطع شوارع البلدة من أبعد طريق يحف بهم الشباب هاتفين بحياتهم وحياة الأمة في أصوات رهيبة رددت صداها جميع الشوارع فتنبه الناس إلى أن في البيداء طلعاً ناهضاً من الشباب. |
وأذكر من قرارات الشباب أنه اجتمع مرة وكان الوقت في رمضان وقرر أن تستغني البلاد عن استقدام الحلوى في أيام العيد لأنها صنع أجنبي وأن يكتفوا بتقديم نوع من التمر واللوز البجلى أعلنوا هذا في صحيفته صوت الحجاز ونفذوه جميعاً في بيوتهم على أمل أن يتأسى بهم ولكن العادة التقليدية أبت أن ترضخ لما قرروا إلاّ في بيوت المتحمسين. |
كما أذكر قصة مشروع القرش فقد قرر الشباب في بعض اجتماعاته تخصيص يوم للقرش فأعلنوا في جريدة صوت الحجاز يستنفرون من يتطوع لخدمة المشروع وأعدوا لاستحصال القرش من الجماهير أوراقاً في حجم طوابع البريد جعلوا قيمة الورقة منها قرشاً ودفعوا بها إلى المتطوعين لاستحصال ما يستطيعون استحصاله من بيعها على الجماهير وكانوا يرجون أن يعيدوا الكرة سنوياً حتى تتجمد في صندوق القرش مبالغ تبني لهم مصنعاً أو معملاً يفيد البلاد ولكن بعض المتطوعين تباطأ في استئناف العمل عند خطوته الثانية فتخاذل المشروع وبقيت حصيلة القروش في عامه الأول محفوظة كوديعة في البنك فليت شبابنا الجديد يستأنف ما فات على الشباب القديم فيسعى لتأسيس جماعة يتطوعون للعمل من جديد ويستطيع الشباب الجديد إذا أثبت جدارته عاماً بعد آخر أن يستحصل الحصيلة القديمة ليضيفها إلى تحصيله الجديد. |
ودعا المرحوم الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود إلى إبراز الأدب الحجازي في مؤلف يسجل آثارهم فاستجاب الشباب لدعوته في مكة والمدينة وجدة وانهالت الرسائل تحمل إنتاج الأدباء والشعراء فشكلت للقراءة والفحص لجنة كانت تجتمع يومياً حتى تمت لها المجموعة التي صدرت باسم (وحي الصحراء) في طباعة أنيقة التزم إخراجها وأنفق عليها محمد سعيد عبد المقصود وعاونه على إعدادها صديق له كان من الطلاب يومها هو الأستاذ عبد الله بلخير المدير العام للإذاعة والصحافة فيما بعد. |
وزخرت مكة يومها بعديد من الفتيان كانوا دون سن الشباب أو حولها كنا نسميهم الناشئة استفزهم عمل الشباب في (وحي الصحراء) فقرروا أن تكون لهم مثل مجموعة وحي الصحراء (ليش هما مو أحسن منا) وكان محور الحركة كهلاً معروفاً إلى اليوم بنشاطه رغم سنه الذي أوفى على الستين أو كاد، ذلك هو الأستاذ عبد السلام الساسي. |
استطاع أن يجمع إليه فريقاً من الطلبة النابهين الذين أطلقنا عليهم يومها ناشئة لنحتفظ بمراكزنا في طليعتهم كما كان يتراءى لنا، كان منهم الأساتذة اليوم عبد الله عريف -حسين عرب -هاشم زواوي -السيد علي فدعق -حمد الجاسر -عبد المجيد شبكشي -حسين خازندار -محمد علي قطب عبد الحميد مشخص وغيرهم وغيرهم. |
استطاع الساسي أن يجمع إليه رصفاءه الذين ذكرت وأن يصدر بمساعدتهم مجموعة أسموها (نفثات -بأقلام الشباب الحجازي) وكأنما أرادوا بهذا أن يضعوا في عيون الشباب إنتاجهم ليثبتوا أنهم شباب لا يجوز أن يطلق عليهم معنى الناشئة، هؤلاء الناشئة كما كنا نصر على تسميتهم أو الشباب كما كانوا يؤكدون لأنفسهم رغم أنوفنا أصبحوا اليوم كهولاً أو شيوخاً واستطاع أكثرهم أن يتخطوا الحدود الفارقة بينهم وبين من سبقوهم إلى مجال الأدب وربما أنكروا حتى فارق السن وأبوا إلاّ أن يلحقوا أسماءهم بقائمة الرعيل الأول. |
كأنه بين عيني الآن يوم كان الساسي والعريف والعطار والزمخشري والزواوي والخازندار والفدعق والعرب وكثير من أمثالهم الناشئين ينظرون إلينا أصحاب الرعيل الأول نظرة فيها كثير من الدهش.. كنا في رأيهم موهوبين بشكل ممتاز كان هذا قبل أن يبرزوا وقبل أن تلمع أسماؤهم كانوا يقرأون ما نكتب بنهم ولا أذيع سراً إذا قلت إنهم كانوا يلاحقوننا صباح مساء في المطبعة وفي مكتب الجريدة متطوعين بخدماتهم للجريدة على أمل أن يصبحوا أنداداً لنا ولم يدر في خلد بعضهم يومها أنه سيحقق في مجال الأدب ما حققه اليوم من نجاح. |
- وفي كتابه القيم ((تاريخ مكة))
(2)
بدأ الأستاذ أحمد السباعي مقدمته بهذه السطور التي تشهد لمحمد سعيد عبد المقصود بالحيوية، وحب المشاركة النافعة. يقول الأستاذ السباعي: |
- (راودتني فكرة الكتابة عن تاريخ مكة في سن مبكرة من حياتي وشاركني الرأي في هذا زميل كان -يرحمه الله- من أنشط من عرفت من شبابنا هو المرحوم محمد سعيد عبد المقصود وحاولنا معاً أن نشرع في الكتابة ولكننا وجدنا الموضوع أوسع من أن يستقصيه شخص أو اثنان فأخذنا نتصل ببعض من عرفنا من الزملاء وكنا نأمل أن نتضافر على دراسة الفكرة وكتابتها فاستجاب لنا بادئ الأمر أكثر من واحد ثم تراجعوا وتراجعنا مهزومين أمام ما يتطلبه موضوع البحث من جهد. |
وعاودتني الفكرة فانطلقت أناقشها، ما يمنعني أن أعالج الكتابة والبحث في حدود إمكانياتي وإذا كان تاريخ مكة لم يدرس إلى اليوم دراسة عصرية مستوفاة فما يمنعني أن أخطو الخطوة الأولى لتكون تمهيداً لغيري؟ |
قلت لنفسي إن الأعمال لا تبدأ كبيرة أبداً، وإذا ظللنا ننتظر ألا نخطو إلاّ مستوفين شروط الكمال فليس لهذا غير معنى واحد هو أننا لا نخطو). |
|