نشأته وشخصيته |
حمداً لله على نعمائه وفضائله، نحمده ونشكره كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ونصلّي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد: |
فإن جامعة أم القرى المكية تحتفي بابن من أبناء مكة المكرمة البررة الأستاذ الأديب محمد سعيد عبد المقصود خوجه رحمه الله، عرفاناً بجميله وحسن صنيعه وأدبه، وتقدم صفحة ناصعة من تاريخه مع هذه النخبة المباركة ممن اجتمع في رحاب الجامعة هنا بحضور ابنه البار سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه وهذه الثلة المباركة من النقاد ومؤرخي الأدب في المملكة العربية السعودية: الأستاذ الدكتور منصور الحازمي (المكي) أستاذ الأدب والنقد في جامعة الملك سعود، وأ.د. محمد بن سعد آل حسين أستاذ الأدب والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وأستاذ من أساتذة جامعة أم القرى، أ.د. محمود حسن زيني. |
ولا أجد في هذه اللحظة التاريخية وصفاً دقيقاً لشخصية الأديب محمد سعيد خوجه أكثر صدقاً وأعمق وفاءً من الكلمات التي سطرت من نور وخرجت من قلب مفعم بالحب الخالص من أخ عزيز وصديق حميم من الأديب المكي الشهير عبد الله عريف رحمه الله فقد قال عنه: ((كان رحمه الله حياة في الحياة، وكان نسيج وحده في الشباب، وما أريد بهذا أن أذمّ الأحياء لحساب الأموات لكن محمد سعيد -كما يعرفه كلّ أحد- كان أمةً وَحْدَه في هذه البلاد: |
كالبَدْرِ مِنْ حَيث التفَتَ رأيتَهُ |
يَهدي إلى عَينيكَ نوراً ثاقبا |
|
وخُلَّة واحدة تلمسها واضحة في حياته، تفسِّر لك كل حقائق حياته وأخلاقه، تلك هي (منطق الحيوية في نفسه). فهي مصدر كل ما عرفه فيه الناس من: توفّز، وتوثّب وحبّ وكُره، وتوقد وإخلاص ووفاء، ووطنية وشهامة ونبل. وأستطيع أن أقول غير مبالغ إن في كلّ حركة من حركاته بل وفي نأمة من نأماته دليلاً على منطق الحيوية القوية في نفسه. |
فلقد كان يعيش -رحمه الله- من أمانيه وآماله في كون حافل بالحركة يُحبب إليه الكفاحُ والجهاد، ويجدد في نفسه النشاط الدائم، ومن أجل هذا كانت حياته -رحمه الله- مليئة بالمشاريع، حفيلة بالأعمال. لا أعرف ولا يعرف الناس معي مشروعاً قام في هذه البلاد لم يكن محمد سعيد -رحمه الله- عضواً عاملاً فيه، فهو في الحق كان عصب المشاريع التي قامت في هذه البلاد، وبه كان قوام أغلبها. لم يندّ به المرض الطويل العضال. فهو في هذا المرض الطويل كما كان في سلامته يسأل، ويبحث ويعرض الفكرة ويتبعها بالسؤال والتعقيب.. حتى آخر ساعة من يومه الأخير كان يسأل عن أعماله بالتلفون ويكتب عن بعضها على الورق، وما كان هذا إلاّ استجابة ضرورية لتطبيق قانون الحيوية القوية في نفسه. |
ولم يكن محمد سعيد -رحمه الله- استيعابياً يحتوي الأشياء ولا يحتوي شيئاً فهو يكتب في كل شيء ويجيب عن كل شيء ويفكر في دائرة عمله وخارجها. وهو إذا فكّر وقدر واندفع كالسيل لا يلوي على شيء، وليس في حسابه -بعد هذا- العقبات والصعوبات أو الغضب والرضا..)). |
ويقول عن صداقته: وما أطيق -والله- بعد هذا أن أتحدث عن محمد سعيد الصديق وإن القلم ليحبسه الدمعُ، فلقد كان رحمه الله مثالاً نادراً في الأصدقاء، شأن الصداقة عنده شأنُ أسمى معاني الحياة في نفسه، وفي قانون منطقه الحيوي المستوفز. |
ولقد طال بي وبه عهدُ الصّداقة، فما علمتُ منه قطُّ أنه أساء أو تجنّى، ولقد كان -رحمه الله- أول صديق راشَ سهميَ وتعهد حياتي بالعطف والحنُوّ اللذين تفرحُ بها أنبلُ العواطف الإنسانية، فلقد كان لي -بعد الله- ظلاً وارفاً أتقي به لفح هجير الحياة، ووقدتها، فما أعظم رُزْئي بوفاته. |
وما أعلمه من حياته الصّداقية، يعرفه كل من لامس حياته الصداقية.. ولا تزال في النفس صور شتّى عن محمد سعيد.. نأمل أن تأخذ نصيبها كما لا بد من أن يكون في تاريخ نوابغ الشباب في هذه البلاد. |
ويختم الأستاذ/عبد الله عريف -رحمه الله- كلماته المؤثّرة في صديقه الحميم المحتفى به الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجه بهذا الوصف الدقيق لتلك الشخصية الفذة النادرة فيقول: ((مات -رحمه الله- وفي نفسه أمان من المجد، وآمال من الحياة، لم يَنْدها المرضُ، ولا أذبلها الإعياء، فعاشت فتيةً في نفسه، حتى عصف بها وبه الموت في دقيقة كان يغالبُ فيها المرض حتى غلبه وعصف به، كما تعصف الرّيح القوية بالشجرة الوارفة الظِّلال فنسأل الله له الرحمة والرضوان، ولأطفاله العُمر الطويل العامر، ولأصدقائه العزاء الجميل))
()
(1)
. |
بتلك الكلمات الصادقة استطاع الأستاذ عبد الله عريف أن يعرفنا عن كثب على حقيقة شخصية الأديب ((أبي عبد المقصود)) رحمه الله على الرغم من رثاء الكثيرين غيره، لكن كلمة العريف التأبينية تلك ((قد حوت من مفاتيح أبواب البحث في سيرة هذا الرجل الشيء الكثير))، على حد تعبير الدكتور محمد بن سعد آل حسين
(2)
. |
ولعلّي هنا أضيف في هذا الاحتفال بالشيخ محمد سعيد أن ابنه الشيخ عبد المقصود خوجه حفظه الله قد ورث من أبيه جميع تلك الجوانب المشرقة المتميزة في حياة المحتفى به رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان. |
وقد أحسنَت ((تهامة)) صُنعاً حين ترجمت لأديبنا ((أبي سعيد)) رحمه الله على صفحة الغلاف لكتابه ((وحي الصحراء)) مع ((أخيه وصديقه ومستشاره)) معالي الأستاذ عبد الله بلخير، كما وصفه بذلك الأديب الراحل
(3)
بلخير رحمه الله. |
وجاء في هذه السيرة الذاتية للشيخ محمد سعيد أنه ((ولد في مكة المكرمة عام 1324هـ. تلقَّى تعليمه الابتدائي على يد والده وفي حلقات الدرس بالمسجد الحرام ثم بمدرسة الفلاح. لازم الشيخ إبراهيم حلواني، الخطاط المشهور، ودرس الخط والحساب وأجادهما)). عُيّن عام 1345هـ مديراً لجريدة أم القرى و ((مطبعتها)). كان أول من فكر في ثراء ((الحركة الأدبية)) وفي المشاركة بقسط متميز في تشجيع الأدباء ونشر إنتاجهم. وأوّل من فكر في طباعة ((المصحف الشريف)) بمكة المكرمة. عُرف بإقدامه وجرأته في الحق. قام بطباعة كتاب ((تاريخ مكة للأزرقي)) في ثلاثة أجزاء بتحقيق الأستاذ ((رشدي ملحس)). انتقل إلى رحمة الله في منتصف ربيع الآخر عام 1360هـ، رحمه الله رحمة واسعة. |
|