مواقف عن (فصل) الصحافي!؟ |
لعلّي لم أشبع (صورة) الصحافة التي تأكل أبناءها بما يستحقه الذين قاموا على إدارتها في يوم ما، ولم أعط للقارئ نموذجاً من ذلك الترحال الذي عانى منه بعض الصحافيين في تنقلاتهم من صحيفة إلى أخرى، ومن موقع الصحافة إلى.... الشارع والضياع، وتهديد حياة الصحافي بانقطاع لقمة عيشه التي نؤمن أن صنف بشر لا يقدر أن يتحكم فيها فيمنعها أو يثبتها!! |
وهذه الصورة تذكرني بعبارة قرأتها بهذا النص: (كارثة أن يكون المطلق مملاً)!! |
كنت أركض... فإذا أظلم الطريق الذي أمشيه نحو المستقبل: لم أجد فيه غيري يتخبط في ظلمته.. وإذا أضاء: تكاثر المتزاحمون!! |
فهل نعرف مقدار (المسافة) بين الزمن والعمر، أو بين الفكرة ومنطقها وقدرتها على التأثير والانتشار، أو بين الحق وقدرة الدفاع عنه، أو بين الخسارة والحصاد؟! |
في مشواري الصحافي على بلاط صاحبة الجلالة/الصحافة، وما زلت: لم أكن أحب نصف الحلول، ولا اللون الرمادي، ولا أحب حتى الجلوس (في الوسط) بين شخصين/شاطر ومشطور، لأكون أنا الطازج لأي شيء! |
إنني أردد دائماً، وقبل كوميديا/عادل إمام: يا أبيض.. يا أسود. |
كذلك.. نحن في عصر صار (يحمق) فيه الكثير، وينفعل، ويتوتر.. ومطلوب: أن نستبدل الصراخ بالغضب، لأن الغضب: موقف، وقرار، وتعبير.. وأن نستبدل الانفعال بالتفاعل، والتوتر بالتأمل!! |
* * * |
هذه الصورة.. (تجيش) أمامي تلك المواقف التي غضبت فيها، وتفاعلت، ثم... تأملت!! |
وهي المواقف التي تعرضت فيها (للفصل) من عملي الصحافي: أربع مرات غير متلاحقة، ولكنها بدت (ضميراً) لزمن واحد، وسلوكيات متشابهة: |
كان قرار الفصل الأول: ذلك الذي اتخذه الأخ/أحمد محمد محمود، في رئاسته لتحرير صحيفة (المدينة المنورة) يوم فصلني من موقع الإشراف على إصدار وتحرير ملحق (الأربعاء)، بعد أن أسست وبلورت كيانه.. وقد حكيت لكم هذه (الموقعة) في الحلقات التي سبقت. |
وكان قرار الفصل الثاني: ذلك الذي (فاجأني) به الصديق الحبيب إلى نفسي/علي حسين شبكشي، يوم كان في موقع: مدير عام مؤسسة عكاظ، وقد (رأسني) تحرير عكاظ مسئولاً في موقع: مدير التحرير... فبين ليلة ومنتصفها: أصدر قرار فصلي الذي فاجأني به (منشوراً) كخبر في الصحيفة، وأنا (يا غافل لك الله).. وما كنت أحسب أن اختلاف وجهات النظر يجعله الصديق: يفسد في الود قضية، وحتى الآن لا أعرف الأسباب التي بررت فصلي!! |
وهكذا... وجدت نفسي في الشارع، بلا عمل، بلا دخل، والأرزاق بيد الله يسعى إلى تحقيقها هذه المرة: (الأجواد) في نجد، وقد مثلهم أخي/خالد المالك، رئيس تحرير "الجزيرة" آنذاك، واليوم.. إذ فاجأني باتصال هاتفي يطلب مني نقل عمودي اليومي (ظلال) إلى صحيفته، ومن الغد، وقال: |
- سيتصل بك أحد المحررين لتملي عليه عمودك بالهاتف! |
لم نكن يومها نتمتع بخدمة "الفاكس"... وهكذا ظهر عمودي في الجزيرة (فوراً) بعد خبر فصلي من عكاظ!! |
وكان قرار الفصل الثالث: ذلك الذي وجدته ذات صباح على مكتبي في مبنى "الشركة السعودية للأبحاث والتسويق" بصفتي: نائب رئيس تحرير صحيفة (الشرق الأوسط) للثقافة... وسأروي لكم تفاصيل وخلفيات ذلك القرار في الفصل الخاص بعملي في مطبوعات هذه الشركة! |
وكان قرار الفصل الرابع: مجزءاً على مرحلتين... في الأولى: عينني الصحافي المعتق/جهاد الخازن: مديراً لتحرير صحيفة (الحياة) في المملكة، وافتتحت ذلك المكتب في جدة، وبدأنا نشاطه الذي استمر لعامين.. فأصدروا قرار (إجلائي) عن رئاسة المكتب وفصلي، مكتفياً/جهاد الخازن بأن أواصل كتابة عمودي اليومي: (نقطة حوار) بمكافأة أقل... حتى حدثت مؤامرة إجلائي عن الصحيفة بإيقاف عمودي للأبد... ولهذه الحكاية تفاصيل أخرى سأكتبها لكم ضمن الفصل الخاص بتجربتي الصحافية داخل (أسرة) تحرير صحيفة (الحياة). |
* * * |
وإذن... فليس هناك (سر) في التجربة.. ولكنها "قطرات" حبر جمعتها من مشوار الصحافة، وقد حرصت أن أكتب دائماً بالحبر الأخضر، فيكفينا حبر الصحافة الأسود... وربما حاول البعض أن يصور للآخرين: فشلي في البقاء داخل صحيفة واحدة، ويتجاوزون هذا البناء الذي شيدته على امتداد العمر في شكل: لحم، ودم، وأعصاب، وطموح، وحلم! |
و.... ربما يتحول المحررون في بعض الطائرات (أقصد المؤسسات الصحافية!) إلى: مضيفين، ومضيفات، مهمتهم: تقديم القهوة والأغطية والوسائد إلى القراء/ركاب هذه الطائرات! |
وإذن... نحن نحدق في أعماقنا ونترك غيرنا يحدق في وجوهنا، وربما في صدورنا.. إلى درجة (السيمياء) أو التنويم المغناطيسي! |
إن هذه المؤسسات الصحافية التي شبهتها بالطائرة: تمارس الآن ما كان يخضع له الكاتب الروسي "ماياكوفسكي" في كتابته عن إنتاج الأوكرانيين للقمح!! |
أحسب أن مؤسساتنا الصحفية -بمطبوعاتها- تحاول الوصول (خبا) إلى زمن الثورة المعلوماتية. |
إن هناك مشكلات أساسية، وربما بدت عويصة لدى بعض المؤسسات الصحافية: والمسئول عن حلها أو المساعدة في حلها: وزارة الثقافة والإعلام، التي لا نحسب أن مهمتها تنحصر فقط في أمرين: مراقبة ما يكتب فيها، وتعيين قياداتها! |
صحافتنا مطالبة بالتأثير في الوعي، وتحتاج من أعضائها إلى فعلية الانتماء إليها، بينما نعرف بعض الأعضاء ممن رمى فلوسه في مؤسسة ما من سنوات، وغالباً ما ينيب عضواً آخر بدلاً عنه في حضور الاجتماعات، ويطالب المؤسسة آخر العام بالأرباح!! |
* * * |
الفايدي.. والمدهش: |
وفي تاريخ مؤسساتنا الصحافية.. يبرز أشهر صحافيين عانا كل منهما من تعنت الفصل لهما من عمليهما... فصار كل واحد يمثل تجربة فريدة في احتمال ظلم وتعسف المؤسسات الصحافية: |
أولهما: علي محمد مدهش.. وقد عرفته زميلاً ودوداً اجتماعياً نشيطاً في المجال الصحافي، وصاحب أسلوب أدبي إذا عبر عن فكره وثقافته.. عمل معنا في "عكاظ" التي نجحت بثماني صفحات فقط تحت رئاسة الصحافي الكبير/عبدالله عمر خياط.. فكان محرراً كفئاً ومميزاً. |
وكانت (عكاظ) تمثل له: البيت الدافئ الذي يحتضن كلماته وتطلعاته، وعاصر داخلها عدة متغيرات أو حقب، وكان وفياً لهذه الحبيبة التي منحها كل ركضه وعرقه... حتى فوجئ -أيضاً- بقرار فصله من الصحيفة ومثله: محمد عبدالواحد/الكاتب المشاكس! |
وانطلق "علي مدهش" إلى الشارع هائماً يشكو قسوة الحبيبة عليه. |
ولتأمين لقمة العيش لأولاده وبيته... فقد بادر إلى تحويل سيارته (الخصوصي) إلى: تاكسي... وسرح بها نهاراً وشطراً من الليل.. يلتقط رزقه مخلوطاً بملامح نماذج من البشر... وكأنه ذلك الرسام البوهيمي الذي يمزج الملامح بالخطوط والألوان! |
وكان الآخر: محمد مسلم الفايدي... البدوي الأنيق في سلوكياته، الصريح حتى الصراخ، النقي حتى الفل، المخلص لمواقفه حتى الثبات... وقد طرد هو الآخر من "عكاظ"، ولهذا الطرد حكاية يرويها "الفايدي" بقلمه بعد أن طلبت منه أن يهامسني بهذه الحكاية... فكتب إلي: |
في فترة طردي من (عكاظ) في المرة الأولى: اضطررت لشراء تاكسي أكدح عليه، وكانت تجربة جميلة جداً.. أولاً قربتني جداً من الكادحين، وعرفتني بتفاصيل التفاصيل لحياة هؤلاء وشقائهم ومعاناتهم، وكيف يرمون أجسادهم آخر الليل بعد شقاء يوم طويل على الفراش، وينامون نوماً هنيئاً، وقد جمعوا محصولهم اليومي بعرق جبينهم دون أن تتخلله شبهة الحرام، أو النصب والاحتيال، وكان مشوار التاكسي لا يزيد عن ريالين وثلاثة... ومن المواقف الطريفة: أنني سائق التاكسي الوحيد الذي يحمل داخل سيارته صحف الصباح ليقرأها الزبائن خلال مشوارهم، وكنت سعيداً بنقل المشاهير من الأدباء والصحافيين والفنانين، أمثال: عبدالقدوس الأنصاري، وطاهر زمخشري/الذي اكتشفت في إحدى مشاويره أنه لم يكن معه قيمة المشوار، فأسعدني بأن أهدى لي أحد كتبه!! |
والفنان الكبير: طلال مداح، عندما اختطفته بسيارة التاكسي من مطار جدة القديم، وكنت سعيداً بذلك وأنا أدردش معه في الطريق إلى منزله الكائن بطريق مكة عن حفل أقامه في القاهرة، وكان عائداً من هناك.. لكن الذي أفسد علي متعة المشوار هو: طلال قستي الذي رآه بالصدفة فاستغرب عند الإشارة بأن هذا الفنان الكبير: يركب سيارة تاكسي، وطلب أن أتوقف على جنب، وقد ظننته يريد شيئاً غير أن ينتزع مني هذا الفنان الكبير ونقله إلى سيارته، ومن يومها أخذت من طلال قستي موقفاً، ولكنه موقف المحب، ويكفي أنني من خلال تجربة التاكسي تعرفت على فئات كثيرة في المجتمع/كباراً وصغاراً من الذين ركبوا معي، حتى أن بعض الأوقات لا يخلو الأمر من عكننة عندما تجد راكباً يقول: لكن انتظر لأرجع معك، ثم يشرد بقيمة المشوار، وكذلك بعض ركاب منتصف الليل الذين يهذرفون بكلام غير مفهوم ويتوهون عن معرفة منازلهم. |
أما تجربتي الأخرى: فهي (البقالة)، عندما فضلت أن أكون بائعاً في بقالة لأقطع علاقتي بالصحافة ككل، بعد تجربة غير سعيدة في جريدة (الندوة) في عهد المرحوم/يوسف دمنهوري، التي أفقدتني حتى حلاوة العمل مع ذلك الطويل الشامخ/عبدالله مناع في مجلة (إقرأ) التي تركتها بعد أن تركها، ثم جاء/أسامة السباعي، وخلفه/يحيى باجنيد، وهذه هي (إقرأ) الآن تحتضر!! |
ولا بد أن أعترف أن العمل في (البقالة) كان جميلاً، رغم أنه على قد الحال، لكن المشكلة فيه: أن مراقبي البلدية وضعوني تحت ضروسهم عندما علموا أنني كنت أمتهن الصحافة لدرجة أنهم كل يوم "يبصون" عليّ ويقرفوني في عيشتي ويتمحكون من أجل كتابة ورقة المخالفة.. وأذكر في إحدى المرات: أنهم لم يجدوا ما يمكن أن يغرموني بسببه سوى كيس بصل كان موضوعاً على الأرض، اعتبره المراقب أن في ذلك مخالفة، ولا بد من تطبيقها.. ومن كثرة مضايقاتهم: اضطررت أن أقفل البقالة بالضبة والمفتاح، وقد توسط لي صديق عزيز للالتحاق موظفاً لاجئاً في "الشركة الوطنية للتوزيع"، ومن يومها أقفلت الأبواب على أن أكون صحافياً متفرغاً لعدة أسباب، منها: أن رؤساء التحرير يريدون صحافياً مطيعاً يقول لكل شيء: (حاضر)، وأنا يصعب علي أن أقول: حاضر، أو أن أكون إمَّعة، ورضيت أن أكون "كاتباً" من منازلهم، وإن كانت تجربة التحرير الصحافية، رغم مرارتها، لذيذة، لكنها تنفخ القولون وتخرب المعدة وتزيد الكولسترول!! |
* * * |
وبعد... تلك تجارب مؤلمة في أكثرها وأبعادها، وربما كانت "ظريفة" في بعض تفاصيلها.. عشناها ومشيناها لآخر المشوار: (ومن كتبت عليه خطى مشاها)!! |
لكنها تجارب.. من المهم أن تسجل في مسيرة الصحافة المحلية، وجنودها الذين استنزفت عرقهم، وأذبلت زهرة شبابهم... ولم يحصدوا في النهاية ولا كلمة عرفان!! |
|