إشكالية السؤال والجواب!؟ |
كنت أركض مع الأيام وحولها.. مرة تسبقني قبل أن أحقق حلماً أو فكرة، ومرة أسبقها وأفرح ثم ما ألبث أن أكتشف: أن الأيام تتخطى الإنسان غالباً.. وتفر اللحظات (الأجمل) ونحاول اللحاق بها، فمن هو هذا الذي يدَّعي أنه يسابق الأيام ويتقدمها في ظروف التحديات، والمفاجآت، والطموحات، والأمراض والآلام النفسية؟! |
لولا (الحب) ما كان للناس أن تعمر حتى الآن، وهو عمار يتحقق أحياناً "بالريموت"، ممكن أن يتوقف إذا فرغت بطارية العمر، أو.... إذا صدئت. |
أما "رزق العيال"، فقد كبروا ودبوا على الأرض، وانطلقوا إلى أرزاقهم من عرق جبينهم، وطموحاتهم، وهمومهم التي يواجهون بها المستقبل والتي تبدو مفصَّلة على جيلهم ومتغيراته... لكنه (هذا الشيء) الذي يكتظ به الصدر من الفقد والشجون، والصدمة والفجيعة في الآخرين ممن نثق فيهم ويرمونا برمادية العاطفة! |
نحن لا نعيش في جزيرة معزولة، بل وسط كثبان من السلوكيات البشرية المتناقضة، وأكوام من رمال النفوس الملونة، ورياح وأعاصير تسفي ترابها إلى حلوقنا وصدورنا.. ونحن بشر: نتأثر، ونكتسب، وتصيبنا العدوى، ونقاوم ونرفض.. لكننا نحرص على قفل النوافذ والأبواب، وربما الستائر التي يتسلل من خلالها التراب و (المتربين) الذين يندسون عبر الشقوق والخصاص! |
وأذكر أن رصيفي الكاتب (الشطه) -كما أسميته- محمد عبدالواحد قد وجه إليَّ سؤالاً بمقدمة قال فيها: (الزمن.. من يجلد الإنسان ويقتله ويشرده، ويقذف بقوته في أعماق البحار، ولم نفقد عقولنا بعد... ترى -في رأيك- ما هو الفارق بين عقل "نيتشه"، وعقل "نتنياهو"، وكلاهما يهودي)؟! |
- أجبته: نيتشه... فيلسوف ألماني نادى بالتطور، وقال: "إن الحياة في تنازع البقاء وبقاء الأصلح دون غيره... إن الإنسان الأعلى هو الهدف الذي يجب الوصول إليه، وأن الحق للقوة"!! |
أما من أطلقت عليه الـ "نتن.... ياهووووه" فهو الذي جاء مع قومه المحتلين لأراضي وأوطان الغير بدعوة: البقاء للأظلم وللمظلم، وللأشرس وللأجرم، وأن التنازع في مطامعه ينبغي أن يكون على مبدأ "يهوذا الأسخريوطي" الذي باع السيد المسيح/معلمه بثلاثين من الفضة!! |
* * * |
التجربة.. وإصغاء الكلام: |
وإذن... ما هي "السمة" التي بلورت جيلي بدفئها، فكان لهذا الجيل حضور ذاتي مفعم بالحب، متوقد الحنين واللهفة؟! |
- والإجابة: إنها سمة القراءة كمعرفة وثقافة ورؤية، وقراءة: المبادئ والقيم، وهي القراءة الأهم، وقراءة الوعد الذي أدمناه كفعل للغد، وقراءة (الإنسان) بكل أبعاده، وقراءة (العدل) الذي كان ينبعث كالفلاش لتعم بعده: ظلمة القهر والخوف.. وعلى حفافي هذه "السمة" كان الحلم حضوراً ذاتياً مفعماً بالحب، كما وصفت.. ولكنه حلم كالسديم، معزول عن السمة الاجتماعية العامة أو الإنسانية التي تتخلل مشاعر الناس بكل أبعاد همومهم وطموحاتهم، و.... ربما بساطة الكثير، وتفاهة الغير قليل! |
وهكذا... "نهلنا" من: براءة الوجدان الداخلية، لكننا كنا نعاود الصعود إلى سطح النفس، حيث كنا -كجموع- نعلم الآخرين الكثير مما نجهله، ويعلمنا الآخرون الكثير مما يجهلونه!! |
ويبرق سؤال بصوت أخي الكاتب/عبدالله سلمان الذي يطول غيابه عن الكلمة، فيقول لي: |
- فيما هذا الجيل: يمضي جاهزاً، ويأكل جاهزاً، ويلبس جاهزاً، ويتحدث جاهزاً، فهل لك أن تحدثنا عن "جفوة" أو "فجوة" بين هذا الجيل وجيلكم... وعلى من تقع مسئولية "تواصل الأجيال" عادة؟! |
- أجبته يومها: أخبرك أنني أيضاً "جاهز" الآن للضحك "المجهز"... وكان آباؤنا يقولون لنا في القدر: "الإنسان مسير غير مخير"، وإيماننا يزداد إن شاء الله ولا يبهت.. لكن ترديد الكلمة كقاعدة جعل الكثير من الجيل يفرط في "اختياراته"، وارتفعت نسبة التفريط حتى صارت عند الجيل الجديد (الجاهزية) فهو يريد كل شيء جاهزاً أمامه، وهذا التجهيز وسع رقعة الاعتماد على الغير، وأوغل بعزيمة الجيل وقدراته في غابة كثيفة من الترف الانبطاحي أو المضطجع حتى تمنى ابنك لو قمت وأحضرت له كوب ماء.. فهو مسترخ الآن.. فكيف نطالبه أن يخيط ثوبه مثلاً؟!.. لذلك (انعدمت) المهنية أو المهنة لدى الجيل الجديد.. ليس من شعوره بأنه أكبر من أن يعمل خياطاً، أو نجاراً، أو صنائعياً في أية مهنة، بل يضاف إلى ذلك الأهم وهو: أنه قد (تعود) على: كل شيء جاهز له وأمامه! |
بل الأدهى من ذلك.. إلى هذه الدرجة: أنه لو وقفت سيارة شاب به في وسط الشارع فإنه لن يكلف نفسه معرفة أسباب عطلها.. فهو لا يعرف أولاً حتى ألف باء هذه المركبة التي (تقوده).. وهو لا يطيق أن يقف في الشارع ليصلح العطل حتى لو كان يعرف فيترك السيارة ويستقل التاكسي ويرسل غيره ربما (أبوه)!! |
لا أدري كيف أعلل لك.. بالجفوة أو بالفجوة؟! |
ربما الجفوة: صنعت الفجوة.. ربما الاستغراق في (الجاهزية) أحدث الفجوة، فكبرت الجفوة، والمسئولية تقع -أولاً- على غياب (التربية) من مدارسنا التي اكتفت (بالتعليم) بدون تربية، وعلى غياب (تأثير) الأب كقدوة، وأحياناً يفقد الأب ميزة القدوة عندما يصبح (مسخرة) أمام أبنائه! |
* * * |
صحافتنا تسمع، ولا تسمع: |
تدفق إلى أنهر صحفنا -فجأة- رتل من الكتاب (الأكاديميين) الذين أضافوا إلى أستاذيتهم في تخصصاتهم بالجامعة: انتزاع أستاذية الإبداع في الكتابة ولو تنظيراً.. وذلك بحثاً عن (الجماهيرية)! |
فأية "جماهيرية" هذه التي نتوقع انحيازها إلى إنتاجنا الكتابي أو الأدبي، أو... حتى الفكري؟! |
- أولاً: لا بد أن يكون الكاتب/الفنان، المبدع، المفكر: منحازاً تماماً لهذه الجماهير... فمن كتب عن الجماهير، أقصد عن (الزبائن) الذين يروجون هذه الكتب؟! |
المنتجون من كتابنا ينقسمون إلى ثلاث شرائح: |
أكاديميون: دخلوا ساحة الأدب بالمحاضرة، وبالتنظير، وبالأطر من (وصفات) أدبية لا تميل إلى القاع، أو إلى الجذور. |
وكتاب يكتبون ألوان الإبداع من شعر، ومن نثر مشعور، ومن قصة ورواية. |
و.... وفي المقدر جديد: سيول الشعر الشعبي، وأكثر هؤلاء: مستغرقون في (الذات) لا يقيمون أي اعتبار (للمتلقي) الذي تكاد صلتهم به تنقطع، كما قال الناقد المصري د. عبدالقادر القط. |
والأثفة الرابعة -جمع أثافي- هم: النقاد.. وبعض هؤلاء تقدموا إلى ساحة الأدب كما فرقة كوماندوز، أو كجماعة إرهاب ضد من لا ينتمون إلى (حداثتهم) ولا إلى أسلوبهم في الكتابة!! |
وفي الواقع.. نحن لا نريد من كتابنا أن (يشوا) بشيء من: إراقة وعينا على الأرصفة، بل أن (يبشر) بإضاءات على درب الفكر والوعي، ونمتلك مثل هذه الذخيرة الأدبية الفكرية، لو وجد (كتابنا): دور نشر قادرة -بغير انحصارها في أطماعها المادية- على توزيعه عربياً بعد نجاحها في الإعلان عنه محلياً!! |
ويأتي من يتساءل مباشرة: لماذا تأكل صحافتنا أبناءها، فيضطر الصحافي والكاتب إلى الترحال الدائم من صحيفة إلى أخرى.. حتى لم يجد أحداً في النهاية؟! |
- وأقول: لعلني وصلت في (الكلام) الذي أفرغته عن عقوق الصحافة المحلية معي إلى (موت الكلام)!! |
لا أريد أن أخوض بعد الآن في مشواري الطويل، وأجمل العمر الذي (سفحته) على عتبات العمل الصحافي، وظلال لياليه.. فماذا بعد (موت الكلام)؟! |
لكني "أمزمز" هذه الأيام بكتابة: (مشواري على البلاط)، أي بلاط صاحبة الجلالة/الصحافة.. ولا أحسبني سأقرأه مطبوعاً، فهو لجيل سيأتي من ظهر ذلك الغيب!! |
إنها ليست (الصحافة) فقط، بل... حتى (الكتابة) في عالمنا: تأكل أبناءها! |
ولنقرأ هذه (الصورة) التي رسمها الشاعر اللبناني (محمد علي شمس الدين).. بلا تعليق، قال: |
(صودف أنه كان في المنزل كلب صغير مدلل بقي طوال السهرة ساكناً ومهتماً بشئونه -تحت الطاولة- حتى إذا بدأ الروائي قراءة قصيدته: بدأ الكلب "الطيب" يتململ، ثم ارتفع صوته قليلاً بعواء حزين)! |
فهل هي نرجسية في "الكلب"، أم... في الطاولة؟! |
أتذكر أصحاب العقول (العضلية)، والعقول (التجسسية).. إنهم يتناسبون مع الكلمة، كما الحالة النفسية، فلا رسالة، ولا إيمان بقيمة.. بل تعصب لموقف ينضج مصلحة ذاتية!! |
- أحسبهم (أقلية).. فالتجهيل لا يؤمن بالحرية، والحياة اليوم تقوم على احترام الحرية.. إنهم (معلفون) فقط ليؤدوا دور: (المكلفون)!! |
نحتاج إلى "الذروة": تفجير لهذا التضافر المطلوب بين الشغف بالحرية، والخروج من شظف العزلة النفسية التي تكبر أحياناً فتتحول إلى: عزلة فكرية! |
لنتعرف الآن على هذا "الشيء" الذي لم يعد يسطع في حياتنا، حتى لو قفزنا به إلى الذروة.. لو من خلال ديوان شعر، أو أحداث رواية، فلم تعد (الإفاقة) هي المطلوبة في هذا الحال، بل هذه الجحافل من "التنظير" الأعمى، أو على الأقل.. الأعور!! |
|