((كلمة معالي الأستاذ الدكتور إبراهيم شبوح))
|
إن لساني ليعجز حقاً عن نقل ما تزاحم في نفسي وعقلي من مشاعر الامتنان والعرفان للسريّ المثقف الفاضل سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه حفظه الله الذي أفاض عليّ من فضله وكرم نفسه الكبيرة ما أنوء به كما ناء به قبلي من تقدمني إلى هذا المنبر على مدى يؤكّد سَنَدَ الفضل المتّصل والمترابط في نفس صاحبه الكبيرة. صانه الله راعياً لمحبّي المعرفة وخادمي ثقافة الأمة وأمتعه بالصحة والعافية وزاده من فضله. |
ولكن أيها الأخوة الأجلاء والأخوات الفضليات كل الشكر والتقدير على حضوركم هذا اللّقاء حسنَ ظنّ بأخيكم الذي لا أعتقد أن بضاعته المتواضعة هي دون ما تقصدون وتؤملون. ولأنّي نشأت في بيئة مغاربيّة تونسية مالكيّة تعرض عن الحديث عن الذّات وتراه تبجّحاً تستثنيه من باب التحدث بنعم الله لذلك فسأتحدث عن ضيفكم بضمير الغائب مماشياً بذلك طبيعة الرّجل الحاضر الذّي يحرجه ويتملكه الحياءُ من تجريد القول عن نفسه. |
لقد وُلد ونشأ في مدينة تاريخيّة عتيقة من مدن تونس، هي القيروان، والمدن العتيقة مستودعات أحلام لا تنقضي تتجدّد تهاويلُها كلّما كان إنسانُها متلقياً ومتفاعلاً معها بإحساس الحياة المتجدد بلا اتجاه. كان كل شيء حوله مشدوداً إلى ذكرياتٍ وثوابتَ من الماضي، تتردد من الذكريات أصداء باهتةٌ عن الشعر والشعراء والفقه والفقهاء واللغويين والقادة والحكّام: ابن شرف وابن رشيق والحصري وسحنون وأسد بن الفرات وعبيد الله بن أبي زيد والقزاز وعقبة بن نافع وأمراءِ بني الأغلب والمنصور والمعزِّ الفاطميين، وتبدو وتتجلّى ثوابت الماضي المتميزة والمنفردة في الجامع الكبير بعمارته وفنونه الصغرى وفي بركة الأغالبة، التي عرف الشاب فيما بعدُ أنها أهم وأبدع مؤسسة مائية في العصر الوسيط، وتنتصب أمامه في مقبرة قريش الممتدة-كلما زارها- تلك الشواهد الرخامية بخطوطها الكوفية المورّقة الجذابة والأنيقة، تنتقِلُ به تواريخُها بين القرنين الثاني والخامس الهجريين. |
وفي المدرسة كان معلّموه الجادّون-يرحمهم الله- يخلصون في أداء رسالة المعرفة والتكوين ويبذرون روح الوطنية مع بدء انبثاق الوعي المتفاعل مع إرهاصات الإعداد لمعركة التحرير والاستقلال، كانوا يغذون هذه الروح في ذلك الجيل بتجديد النّظر في التاريخ العربي الإسلامي، يذكر من الأناشيد التي يرددها أصحابه: |
عُقبة ليث الغُزاهُ |
صوتُه في مَسْمعي |
|
قائلاً: |
كن في الحياهُ |
مثل من كانوا معي |
|
ويحرص معلموه على تركيز العربية أدباً واستعمالاً، واستمداد الدعم المعنوي ممّا تتصادى به مجلة الرسالة وكتّابها وشعراؤها من القاهرة. وعرف الشاب أنّ في مدينته شعراءَ فحولاً مثل أولئك، يتميزون بنفاذهم إلى خفيّ المعاني يصوغونها في أسلوب جزلي موقّع، وكان يطرب لسماع شعرهم في المناسبات الوطنية ولجودة إلقائهم، للشاذلي عطاء الله والناصر الصدام ومحمد مزهود. فتعلق بهذا الفن من القول، وبدأ يحفظ مختارات من الشعر القديم والحديث وعوّد سمعه على دِقّة إيقاع البحور. وأخذ يحاول ويجاري ثم كتب الكثير وعُرف، وكان يمكن أن يصبح شاعراً مجيداً لو استمرّ في معاناته والخلوص للحالة الشعرية وإرهاصاتها بعد أن دَرِب على تركيب الإطار اللّغويّ لشعره وكتب على الأوزان الصعبة في أغراض شتّى، يقول من قصيدة في مناسبة وطنيّة سقط فيها أحد زملائه الطلبة برصاص المستعمر: |
ما لي أرى الآفاق محمومةً |
يكظُم غيظاً وجهُها الشاحبُ |
وشبحُ الموت على موعدٍ |
وفي يديه المنجلَ الغاصبُ |
وحُمّت الأقدارُ أقدارُهم |
وتاب عند الهرب الهاربُ |
واحتدمت فيه معاني السما |
يغلي بها إيمانُه الغالبُ |
من أنِف الموت على عزّه |
فلينتظره موتُه السّاغبُ |
|
وعلى هذه النشأة التحق بالزيتونة وهي في أوج انطلاقتها الإصلاحيّة بقيادة الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، وكانت برامجها قد تمدّدت إلى علوم العصر من جغرافيا وكيمياء وطبيعة وفيزياء وجبر إلى جانب علوم اللسان وعلوم الدين. وفي العاصمة تونس التي تحوّل إليها من القيروان تعرف على العلامة الموسوعي المؤرخ عثمان الكعاك مدير المكتبة الوطنية وقتها، فكان يحضر دروسهُ في الترجمة ويعجب من هذا الذي تخرّج في العشرينيات من مدرسة اللغات الشرقية في باريس ويتناول أدق المعاني ويجيد وصف الأشياء كأنك تراها بلغة ومصطلح سهل مُنساب ويكشف لك حديثُه عن منهج مبتكر في معالجة تراث الإسلام الثابت والمنقول، وكان الشاب أثيراً عنده وعليه اتّسع اطلاعه على مكوّنات دار الكتب من مخطوط ومطبوع وعرف علاقة المصادر الأهلية النادرة بالموضوعات التونسية المحددة في التاريخ والأدب، وظلت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه المريد إلى آخر أيامه في السبعينيات يرحمه الله. |
وفي تونس تعرّف الشاب أيضاً سنة 1953 على الشيخ المؤرخ حسن حسني باشا عبد الوهاب، فكان يلازم زيارته، وكان الباشا عبد الوهاب الذي عمل والياً على أقاليم من تونس أيام الحماية في الثلاثينيات قد جمع تراثاً مخطوطاً وفيراً وقرأ أكثره وأحسن الإفادة منه فيما يكتب ويتحدث به. وكان من أوائل الذين التحقوا بعضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة وأقدم من ذلك مشاركته في الكتاب التذكاري لميشال أماري بصقلية سنة 1905، وكان مجلسه المحدود العدد الّذي يحضره الشاب بانتظام ممتعاً ومفيداً بما يثار فيه من موضوعات تخص الوطن في عصوره الإسلامية الأولى وبما يكشف عنه من وثائق نادرة عمّا يقول، وكان الشاب يجيد الاستماع والتلقي. وفي هذا المجلس تعرف على مستشرقين معروفين أمثال ليفي بروفنسال وليون برشي وروبير برنشفيك، وكان الباشا لا يحجب أيّ وثيقة من مخطوطاته عن ابنه الروحي كما يسميّه. ثم عيّن الباشا مديراً عاماً للآثار في عهد الاستقلال بعد أن تجاوزت سنُّه السبعين، وتحول الشاب إلى القاهرة للدراسة، فكان يلازمه أثناء زياراته لجلسات مجمع اللغة العربيّة. |
والشخصية الثالثة التي تأثر بها في العاصمة تونس هو الرجل الذي كان يطلق عليه في مجالات الإعلام بالعلامة البحر الأستاذ الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله. لقد كان نمطاً فريداً، مثقفاً ثقافة العصر تفقّه وتخرج على والده الأستاذ الإمام وتتلمذ في السياسة على الزعيم العربي التونسي عبد العزيز الثعالبي، وكان آيةً في المحاضرة تخرج عليه جيل بالزيتونة والمدرسة الخلدونية والمدرسة الصادقية وأسس مركز البحوث الإسلامية لدراسة واقع العالم الإسلامي، كان يستغرق في كل محاضرة ساعتين على التمام يرتجلها بأسلوب جذّاب لا تختلط خطته ولا يرتبك ولا يلحن وتحس بالفكر النافذ المحلّق والمتعمق لأدقّ قضايا الدين والسياسة والتاريخ، وقد ذهب علمه الغزير مع ضياع الأصوات إلاّ بعض ما وُثِّق بالتسجيل في تونس وفي رحاب المملكة المغربية. كان الشيخ الفاضل يخص تلميذه بالرعاية ولا يبخل عليه بنوادر وكنوز مكتبة الأسرة، وتوطدت الرابطة به على وجهٍ أكثر تفتحاً عندما كان يبرق بحضوره إلى القاهرة فيلازمه إلى حين عودته. ثم أفسح لتلميذه بعد عودته للوطن ليدرّس في كلية الشريعة وأصول الدين، مناهجَ البحث في الفكر الإسلامي. |
وكانت تونس في الخمسينيات مجالاً تتحرك فيه الأفكارُ في اتجاهات وطنيّة وقومية فوجد الشاب في الحركة الأدبية ورجالها القصد المناسب إلى جانب التعلق بالتاريخ والتراث. فعرف شعراء عصره الكبار واقترب منهم خاصة أحمد خير الدين وجلال الدين النقاش، ووجد في معاصريه من الشبان تجاوباً في المشاعر، منهم الشاعر الموهوب عبد العزيز قاسم الذي أصبح الآن من أكبر شعراء اللغة الفرنسية في أوروبا، وزميل دراسته نور الدين صمّود وآخرين. |
عمل بعد تخرجه من الزيتونة معلماً في مدارس الدولة لسنة واحدة والاستقلال الوطني لم تُستكمل أشراطه بعد، فاعتزم أن يبارح إلى القاهرة ليدرس في جامعتها علم الآثار الإسلامية. |
كان السّفر شاقًّا وقتها، ولكن روح الشباب مهّدته فاخترق صحراء ليبيا برًّا، وأدرك مصر مع رفاقه قبل حرب السويس بشهر واحد، فسجّله د. حسين مؤنس-الذي تعرّف به في تونس- بقسم التاريخ في جامعة عين شمس، فأصرّ على التحول إلى الجامعة الأم وفي التخصص الذي اختاره عن رويّة وقصد. وبدأ بدراسة حضارة الشرق القديم، فتمدّد ذهنه إلى مجاهل ليس من اليسير أن يرتادها بغير دليل، ثم تخصص في الحقبة الإسلامية، وكان أساتذته من الجيل المثالي الّذي جدّ وكد لبناء مداركه، كان أستاذه العلامة الكبير أحمد فخري من بين أكابر علماء العصور الفرعونية والشرق القديم ينعى على تلاميذه اللّحن في اللّغة ويذكر أنّه كان ينتظر الفجر وهو منكبّ على الدراسة ليتلقى نسخة من الطبعة الأولى من جريدة المؤيّد وفيها الشوقيّة المرتقبة، ولا تشرق الشمس إلاّ وقد حفظها، وكان أستاذه في العمارة الإسلامية د. فريد شافعي ينظر في الأبحاث التي تلقّاها منه عن عمارة الرباطات العسكرية على سواحل تونس فيسأله إن كانت الرسوم والمخططات من عمله ومتى يجلس لذلك، ويفاجأ بأستاذه ذات مساءٍ يطرق بابَه ويدخل غرفة مكتبه فيجد عدّة الرسم واللوح والمثلثات أمامه فيقول بلهجته الأبوية الصارمة: لقد فاجأتك بالزيارة لأتأكد أنك تعمل بنفسك. هكذا كانوا رحمهم الله. |
عرف في مصر أسرة العمل الأثري ووثق روابط الصحبة بهم الأستاذ الأثري حسن عبد الوهاب، المصري والأستاذ عبد الرحمن عبد التواب حفظه الله وباحثي المتحف الإسلامي الّذي يتردد عليه ويقف أمام روائعه الفنيّة يتأمل ويلتمس الفهم ويكشف عن جوانب الجمال والإبداع فيها وكان كما يقول الشاعر: |
يزيدك وجهها حسناً |
إذا ما زدته نظراً |
|
يذكر من علماء المتحف د. عبد الرحمن فهمي عالمَ النّميات، وعبد الرؤوف علي يوسف خبيرَ الخزف. |
وكانت إقامته في القاهرة كثيرة الغَناء وكانت تلك المدينة الكبيرة بتاريخها وثقافتها تعجّ في الخمسينيات والستينيات بما تجمّع فيها من علماء وأدباء ومفكرين من طبقة الروّاد وبما يردُ عليها من كبار الضيوف. |
توثقت علاقتُه منذ الشهر الأول لوصولهِ بالأديب الشاعر العلامة خير الدين الزركلي وكان التقاه قبلها بتونس فشجّعه على الزيارة في بيته القريب من مسكنه وقتها بالروضة وكان يجلس معه يهيئ تراجمَ المغاربة وكان وقتها لا يزال يباشر الإعداد للجزء الرابع من كتابه موسوعة الأعلام، وتعلّم وسمع في هذه الصحبة الكثير ممّا لم يدوّن في كتاب، كان الزركلي رحمه الله رقيقاً مرهفاً شاعراً تجمعت له من أدوات البيان والفهم ما لم يتح لغيره، وذكرياته التي لم تدوّن صفحات مفقودة من مذكرات تاريخ الأمة وآدابها. |
وتوقفت صلته بأخوين عزيزين هما صديقه العزيز فؤاد سيّد مدير مخطوطات دار الكتب والعالم المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم، وفي دار الكتب المصرية التي يكثر التردد عليها ملتقى رحباً للعلماء المصريين وللوافدين من عرب ومستشرقين وفيها عرفتَ العلاّمة عبد العزيز الميمني الراجكوتي وامتدت علاقته به والفقيه محمد بن أبي بكر التطواني من المغرب وغيرهما كثير. |
وخارج هذه الدار توثقت صلته بأستاذه حقًّا محمود شاكر الّذي انجذب إليه ولازم زيارته وأفاد من علمه الواسع وروحه الكبيرة المندفعة، فقد كان مدرسةً، أذكى فيه جذوةَ ما ارتبط به في شبابه من علاقة بلغة العرب وآدابها وسجّلَ عنه في ذهنه مناهج للبحث في الأدب العربي لم تعرف بعد، وكان بيته ملتقى عربياً فكرياً ثقافياً وثّق فيه صلاته بالعديد من كبار رجال العصر: الشيخ أحمد حسن الباقوري، والكاتب المبدع يحيى حقي ود. عبد الرحمن بدوي الّذي كان يصحبه كل ثلاثاء لزيارة معالم القاهرة الإسلامية، والشاعر الصديق محمود حسن إسماعيل، وأ. د. ناصر الدين الأسد والشيخ حمد الجاسر الذي التحمت صداقته به كل الالتحام إلى آخر أيامه يرحمه الله والأستاذ أحمد بن المانع والأستاذ عبد الرحمن شاكر، والأستاذ إسماعيل مظهر والشاعر التركي إبراهيم صبري. وقد عبر الأستاذ شاكر عن مدى كل هذا عندما كتب له إهداءه على أحد أواخر أعماله تحقيقه لكتاب دلائل الإعجاز للجُرجاني سنة 1993، أخي إبراهيم شبوّح ذكرى أخوّة متطاولة العهد كثيرة الغَنَاء في حياتي وحياته، وكتب له على أسرار البلاغة: إلى فلان وأيامٌ مضت وتاريخٌ قلّما يتكرّر، ومودّة لا يصيبها انقطاع. |
وعند تخرجه سنة 1960 تعرف على المؤرخ العربي فيليب حتّي، وأهداه الشاب باكورة منجزاته فهرس مخطوطات الطب الّذي أخرجه له معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية سنة 1959 فعبّر له عن ارتياحه لما لمسه فيه من جدّ وتدقيق للمصطلح وعرض عليه أن يهيئ له القدوم إلى جامعة برنستون حيث يعمل أستاذ شرف، حتى يمكنه أن يدرس اللغة ويعدّ معه رسالة دكتوراه ويشتغل في فهرسة مخطوطات الجامعة الكثيرة، فأسعده ذلك، وعندما اتصل بأوراق الملف لإنجاز هذا الترشح اكتشف أن جواز سفره قد انتهى وليس بالإمكان تجديده لأسباب سياسية، فضاعت فرصته، ولكنه اعتاد بتأثير دراسته ألاّ يأسف على ما فات وأن يحسن طيّ السجل. فحوّل وجهته إلى دمشق حيث تعاقدت معه المديرية العامة للآثار والمتاحف بصفة خبير وكانت إقامته في بلاد الشام فرصة نادرة لتجاربه الميدانيّة فيما تعلّمه وتعرف على أصول الفنّ والعمارة الإسلامية المبكرة، وجال في بلاد الشام الغنيّة والكاتمة لأسرار الماضي من حلب إلى بصرى، ومكّنته ذاكرته القويّة وقتها أن يختزن مرئياته لتكون معيار المقارنات فيما وقف عليه بعد ذلك. وكان له في سورية أخوة أعزاء أحاطوه برعايتهم وساعدوه على المعرفة في أكثر من مجال ومن أقربهم إلى نفسه أخوه أحمد راتب النفاخ وأسرةُ مجمع اللغة العربية: الأمير جعفر الحسني وعزّ الدين التنوخي وعمر رضا كحّالة والكاتب الأديب أحمد عبيد الذي أوصاه به صديقه الأستاذ الزركلي والعالم الفاضل زهير الشاويش وعزت حسن ود. سليم عادل عبد الحق وأبو الفرج العش وعبد القادر الريحاوي وعدنان درويش. |
وكان يتردد أيام آخر الأسبوع على بيروت المزدهرة وقتها، فقد كانت سوق الثقافة الكبير، وفيها صديقاه الأثيران محمد يوسف نجم حفظه الله وأمدّ في أنفاسه وإحسان عباس يرحمه الله، وكان قويّ الصلة بكاتب وصحافيّ مشهور وعريق وتوطدت علاقته به وله مجلس حافل في بيته كل ثلاثاء برجال السياسة والتاريخ والأدب، وفيه من وثائق الماضي وأنماط تحليل الحاضر ما لا يشتمل عليه مكان آخر، هو الأستاذ محمد علي الطحان صاحب جريدة الشورى والّذي كان صديقاً لكل حركات التحرر العربي وصديقاً لزعماء المغرب العربي الكبير خاصّة الزعيم عبد العزيز الثعالبي والأمير شكيب أرسلان. |
ثمّ كانت الرحلة إلى باريس بعد تكريم وتوديع أقيم له في دمشق، وفي جامعة السوربون (بارس 4) اختار موضوعاً متصلاً بما درسه عن العمارة العسكرية في سواحل أفريقيا ودورها في الصراع بين العرب والروم بإشراف المستشرق المؤرخ الكبير Claude Cahen، ولم تمضِ أشهر على إقامته حتى شاركه في نشر بحث ونصّ عن وصيّة الملك الصالح نجم الدين أيوب لابنه توران شاه وهو تقرير عن الحالة السياسية والعسكرية في مصر أيام حملة لويس التاسع. |
ومن باريس كانت العودة إلى تونس بعد غيبة طويلة فاستلم رئاسة قسم المخطوطات بدار الكتب مدة يسيرة ثم انتقل إلى المعهد القومي للآثار والفنون وهو مؤسسة جامعية ولها مكانة دولية مرموقة وفيها ناضل إلى جانب زملائه المختصين في العصور المختلفة، وكان بينهم أولَ من صدر لرؤيته قانون لقيام مركزٍ لدراسة الحضارة والفنون الإسلامية داخل المعهد يشرف عليه مدير عام وقد حقق هذا المركز الكثير مما يعتز به. وفي سنة 1974 أسس جمعية صيانة مدينة القيروان وتراثها التي لا يزال إلى اليوم رئيساً لها، وبها رمّم كل تراث المدينة المعماري وأكثر التراث المكتوب وهو أهم ما يتقرب به إلى الله، وقد وجد من الدولة والمواطنين كل دعم وتقدير ونال بمشروعه الكبير هذا جائزة آغا خان المعماري وسجّل المدينة في قائمة التراث العالمي باليونسكو، وأقام في القصر الرئاسي برقادة الذي وُضع في خدمة الأغراض الثقافية، أوَّل متحفٍ للحضارة الإسلامية تصوراً منه وتنفيذاً. |
وأقام بالتعاون مع جامعة جوتنجن في ألمانيا مختبراً لصيانة وترميم الرقوق خاصة ثم المخطوطات الورقية ويعد من أهم مراكز صيانة الرَّق الذي تزخر به مكتبة جامع القيروان العتيقة ممثلاً في المصاحف الكوفية وأصول المذهب المالكي الفقهية كالمدونة وغيرها ثم الوثائق المتنوعة التي تتصل بالمدينة وأوقافها وغير ذلك ما يمس الحياة الاجتماعية. |
وفي هذا التعلق والحب الذي خدم به تراث القيروان الإسلامي خاصة يخاطبه صديقه الشاعر محمد مزهود: |
علقت بها طفلاً وأخلصت يافعاً |
وهمتَ بها كهلاً لها اشتدَّ عِشقُهُ |
وهذا حِماها لم تزلْ حافظاً له |
وتوليه ما يرضِي وما يسْتحقّهُ |
وقد كنت بالإصرارِ ترتق فَتقَهُ |
وقد قيل إفْكاً ليس يُرتقُ فَتْقُهُ |
|
لقد أنجز الكثير في هذه المرحلة من حياته وعندما دقّت ساعة التقاعد استبقاه سيادة الرئيس فلم يقصّر في مضيّه فيما بدأ فيه، وفي السنة الثالثة من هذه المرحلة وهو يباشر مسؤولياته دعي ليكون أميناً عامًّا للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، مؤسسة آل البيت، فاستجاب بعد تردّد، وكانت هذه تجربةً جديدة مخصبة استمرت من 1996 إلى سنة 2000 التي عيّن، فيها مديراً للمؤسسة ومستشاراً لدى سموّ الرئيس الأعلى، ولاقى من مضيفيه حفظهم الله كل تقدير وتكريم. وقد حدث في هذه الحقبة تحقيق هيكلة المؤسسة وأصبحت تسمّى مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي، وأصبح مديرها على علاقة حميمة بأعضائها المائة من كبار علماء العالم الإسلامي ولا يزال اليوم يباشر مهامّه فيها على هذه الصيغة بكل جهده وإصلاحه وخبرته وحقق في عمله الكثير من الأهداف التي يحمد لها الفرصة التاريخية التي أتاحت له ذلك، فإلى جانب المؤتمرات التي تقيمها المؤسسة والمشاريع العلمية والدراسيّة والحواريّة فإن من بين ما يؤكد اعتزازه إشرافه وتقديمه لمشروع الفهرس الشامل للتراث الإسلامي المخطوط وإصداره لفهرس الفقه وأصوله في اثني عشر مجلداً وفي عشرة آلاف صفحة. |
لقد علمته الأيام وصحبة الرجال وتأملاته أن معنى التخصص هو معرفة الكثير لفهم القليل، وأن المعرفة متداخلة مترابطة، كلما نفذ الواحدُ من دائرة إلى أخرى ملاصقة لها اكتشف ترابط المجال الشبيه بالمجال المغناطيسي، واكتشف جهله وحدود معرفته، وإذا كان من أهل المتابعة فإنّ مأساته تستمر على هذا النّسق في ملاحقة دائمة إلى غير نهاية، ولعلّه الذي يعنيه أبو العتاهية فيما أذكر: |
وإن الّذي يسعى لغير نهاية |
لمنغمس في لجّة الفاقة الكبرى |
|
أخواني وأخواتي السادة والسيدات.. |
هذا إطار مجتزأ لحياة امتدت في عمل متّصل وليس لهذه الحياة وما تحقق فيها من إخفاق وإنجاز أن تستوعبها صحائف معدودة. فاسمحوا أن نُطِل من نافذة صغيرة على بعض ما اعتزّ به من أعمال منتقاة. |
- أول سنة له بالقاهرة عهد إليه مدير معهد المخطوطات العربية الدكتور صلاح الدين المنجّد بتقديم نصّ فريد يعتبر إلى اليوم مرجعاً في دراسة تاريخ الفهرسة الوصفية كتب في القرن الخامس الهجري لضبط مكتبة جامع القيروان فأجاد عمله ومنها استمرت مشاركاته بانتظام في إعداد المجلة المرموقة، ثم عهد إليه بوضع فهرس مخطوطات الطب للأفلام المصورة بالمعهد فعجب ممّا لقيه من تشجعه ووضع اسمه بين الكبار الذين تصدر بأسمائهم المجلة من عرب وغير عرب ذكر له بعد السؤال أن أستاذه محمد كرد علي كان يعامله بالتشجيع والمساندة وعنه تلقى هذا الخُلُق. شفى الله الدكتور المنجِّد ورعاه. |
- عندما بارح الأستاذ خير الدين الزركلي القاهرة سفيراً بالمملكة المغربية كتب إليه أن الفقيه محمد أبا بكر التطواني- هو كتبي وعالم بالمخطوطات باعه مجموعة من نفائس التراث الأندلسي، واشترط عليه أن البيعَ لا يتمّ شرعاً إلاّ إذا أطلع عليها فلان-وكان وعده بالاطلاع عليها قبل التفريط فيها- وعندما عاد الزركلي في زيارة قدّمها له ودعاه إلى إخراج برنامج شيوخ الرعيني الإشبيلي خاصة لأنّ قراءة خطه الأندلسي الدقيق لا يتاح لكل المعْنيين، فكتب عنه فصلاً في مجلة المعهد ثم نُشِر كاملاً في سلسلة وزارة الثقافة بدمشق سنة 1962. |
اهتم من زمن بعيد بفن صناعة الكتاب المخطوط لكثرة ما أتيح له ممّا رأى منه، فتعرف على مدارس التجليد في العالم الإسلامي وفي عصوره المختلفة، ثم درس بتعمق الحامل الّذي يحمل العلم المودع في الكتاب، فتابع صناعةَ البرديّ المصري والإفريقي ثم الرَّق والورق وعرفَ صناعةَ الأحبار وتكوّنها وتقاليدَ صناعتها، ونشر في ذلك أبحاثاً وموادّ وثائقيّة مبكرةً ونادرة، وكان يَرى أن هذا العلم-علم صناعة المخطوط- لا يُمكن أن يقوم ويُحقِقَ هذا الحضور والبذخَ الفنيَّ من غير أن يكون له مُصْطلح ثابتٌ ودقيقٌ، فأخرج للمرة الأولى بحثاً بعنوان: حول معجم تاريخي لفن صناعة المخطوط نَوّه به صديقه د.أحمد شوقي بنبين في صدر معجمه. |
وقد انتعَش عنده هذا الاتجاه بفضل وجوده بين علماء متميّزين في مجلس خبراء مؤسسة الفرقان التي يوليها مؤسسها وراعيها المنفذ معالي الشيخ أحمد زكي يماني حرسه الله. |
- وفي إطار مكتب السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية أعدّ مع زميل له وبمساعدة المهندس معالي رائف نجم ملفَّ تراث القدس التي سُجِّلت بها في قاعة التراث العالمي وملفًّا آخر سُجِّلت بها مدينة مهددة بالخطر، وفي مؤتمر وزراء الإسكان العرب المنعقد في الجزائر تقدم بمشروع إنشاء مركز تسجيل وتوثيق وترميم مدينة القدس، فووفق عليه، وتكوّن مجلس المركز من المرحوم روحي الخطيب ومعالي حمد الله النابلسي ومنه ومن زميلين آخرين، واعتمد معالي المهندس نجم خيراً فيه. وتلخص هدف هذا المركز في أن معالم القدس التاريخية الموزعة على رقعة المدينة والممثلة لعصورها المختلفة هي شواهد الحضور العربي الإسلامي فيها، لذلك ينبغي تثبيت هذه الشواهد وتحسين وضع المقيمين فيها حتى يوالوا مرابطتهم.. وابتدأ العمل تحت مظلّة الأوقاف الأردنية وكان صاحبنا يراجع مخططات الفريق العامل وأهل المدينة، ويوجه خطّة الصيانة والتنفيذ، وبلغ عدد المعالم التي تمّ إنقاذها بعد أن كانت مهدّدة بالسّقوط سبْعةَ عشر مَعْلماً، وتوقف العمل أثناء الانتفاضة. |
- واهتمّ بالعصور المبكرة للإسلام في إفريقية (تونس) وتدرج اهتمامه إلى العصر العبيدي أو الفاطمي، وأهميّة هذا العصر بالنسبة له أنّه جزء من تاريخ وطنه وتاريخ الأُمّة لا يمكن تجاهله، وفيه حدثت هَزّات في الحياة الفكرية في المنطقة قبل أن تتحول الدّولة إلى مصر، وأن هذا العصر استأثر بحيّز زماني شغل القرن الرابع الهجري تقريباً وترك مخلفات ذات شأن، فقام بدراسة عاصمتهم الأولى المهدية، وخرج بنتائج جديدة ومهمة ورمّم بعض معالمها، وتولَى الحفريات الثرية في عاصمتهم الثانية صبرة المنصورة الملاصقة للقيروان، بالاشتراك مع جامعة باريس، ونشر بعض نصوصهم الفكرية والحضارية ومن أهمها كتاب المجالس والمسايرات للقاضي النعمان الذي تحدث فيه عن القلم المدّاد، وأقام ملتقى دولياً ودورياً لدراسة هذه الحقبة تحت مظلة وزارة الثقافة، هو ملتقى القاضي النعمان للدراسات الفاطمية. |
- يعد كتاباً فخماً عن جامع القيروان صرف في إعداده نحو العقدين، ويُعدّ حصيلة جهد الترميم والدراسة والتسجيل التي لم ينقطع عنها وعمل فيها فريق يشرف عليه، وجامع القيروان هو تاريخ المدينة، عاصر نشأتها وحفظ فنونها، ويمتاز عن كل مساجد الإسلام في الشرق والغرب أنّه الوحيد الّذي احتفظ بأثاثه القديم وزخارفه وسُقوفه الخشبية الملونة ومنبره ومَقصورته وأبوابه وجلها من تراث القرن الثالث إلى السابع الهجريين، واستطاع أن يفسر النعليات التي رُفعت به تسويَّة المكان، بعد أسبار أجراها في مواقع مختلفة من الجامع، يسعده أن يعمل في أكثر من موضوع في وقت واحد ويعرف بحكم علاقته الحميمة بالمكتبة العربية خاصَة أين يجد الإفادات الضرورية لإقامة بحثه ويعرف مراتب تلك المصادر ويكثر الشك في دقة نقولها إن تأخر زمنها عند الحدث ويحاول أن يعرف سند خبرها ويستفيد من تأليف الوثائق المتباعدة مادة ونوعاً في صياغة النتائج، يقول عنه أصدقاؤه وزملاؤه الذين عرفوه عن قرب إنّه يستخدم ما لديه من الأشكال المعرفية غير المتجانسة من فقه وشعرٍ وتاريخ وهندسة للخروج بنتائج جديدة ظلت غامضة لأحقاب، فقد كان أول من فسّر أسباب زحفة بني هلال على إفريقيا، وفسّر موضوعات فسيفساء الجامع الأموي بدمشق، وكشف عن الضوابط الإسلامية في عمارة الأربطة العسكرية، وكشف عن الخواص المعمارية في بناء مساجد الخلافة الفاطمية إلى غير ذلك، والله أعلم. |
- يعيش هذه المدة مغامرةً حادّة مع صديقه القديم عبد الرحمن بن خلدون، فقد أحبّه ورقّ لما أدركه من العنتَ والتيه والضرب في الآفاق بحثاً عن مستقر، وما لاقاه من شرور السفر وعَيْث البشر، وقد جعله هذا القرب يدخل في خصوصياته ومآل أمره، وأن البحوث التي فجرها هذا الرجل أصبحت مستعصية على الإحصاء، وأنّه ظل خامل الذكر قروناً حتى اكتشف الأتراك قيمته، ثم عرفت به أوروبا بأبحاث أقامتها عن نماذج من فكره، ثم نُشرت المقدّمة نشرةً استندت إلى أربع مخطوطات بعضها عليها أثره وخطه، وكان ذلك سنة 1858هـ وعِلْمُ الاجتماع في أول ولادته، وذهبَتْ وقتَها مقولة أن ابن خَلْدون هو مؤسس علم الاجتماع، وفي الوقت نفسه طبع كتابه العبر كاملاً في مصر في مجلدات سبع، وعندما نشرت المقدمة مَرّات عدّة في بيروت والقاهرة وظلّ التّاريخ منعزلاً عن الاستعمال في الدراسات الكثيرة لنُدْرته في طبعته الأولى وشيوع التحريف والخطابية، خاصّة في تواريخَ العجم. ثم قامت إحدى دور النشر في بيروت بإعادة طبعه على طبعة بولاق الّتي ارتكزت على مخطوطات متأخرة وشديدة التّحريف فتواتَر الفساد فيها وفي كل ما جدّ بعدَها من نشرات، وأمام هذا الغَبْن الذي عومل به الرّجل، لاحظَ كما لاحظ غَيرُه أن أول مسالك الإنصاف له ولباحثيه أن تتوفر لعمله نشرة علمية نقدية تقوم على المعرفة الدقيقة بمصطلحه وأسماء دُوَله، وتعتمد على أصول مخطوطة صحيحة فَبدأ من نحو رُبْع قرن يَسألُ كل مكتبةٍ يدخلها عما لديهم من كتاب العبر فيتصفّح عشراتِ النّسخ ويستبعدها حتى توفّق إلى الكشف عن أجزاء متفرقة من الكتاب عليها أمره وخطّه في الحواشي وزياراته وألغازُه وتَصحيحه، ثم تعرّف على نسخة تامة كان أعدّها ليقدّمها إلى الظاهر برقوق السلطان المملوكي الذي رعاه في مصر، ثم اضطر إلى موقف اعتُبر إساءة منه، فأعدّ له هذه النسخة الجميلة، وغيّر اسم الكتاب ليصبح كتاب الظاهري في العبر وتفنّن في إعْدادها، وبها أصبحت لديه نسخة تامة من الكتاب كانت بين يدي مؤلفها ثم قام بتجديد تاريخها، ومجموعةُ أجزاءٍ متفرّقة من المستوى نفسه تتكرّر أحياناً وتقل في بَعْض الأجزاء، وتجمع لديّ من المقدمة نسخ خمس كانت بين يدي المؤلف إحداها مسودته حيث أقحم على النص الأصلي ما طرأ عليها من تعديل وزيادة تشرح طريقة الرجل في تأليف الكتاب وفي بعض النسخ سجل شجيرات أنساب الأسر الحاكمة بخطه، وقد كتبَ عن هذا كله في مقدمته للكتاب المحقق، وعندما جاءت مناسبة مرور ستّة قرون على وفاته بدأ إصدار هذه النشرة التي تعطي للكتاب بعداً مغايراً لأنها أول تحقيق علمي نقدي لكل نصَ العبر يمكن أن تقام عليه الدراسات الخلدونيّة وهي واثقة من ثبات المرتكز وصحة النص، وقد استأثر صاحبنا بنشر المقدمة وهو الكتاب الأول بجزأيْه وفاتحة الكتاب الثالث وهو الجزء الحادي عشر في أنساب البربر والعرب والجزء السابع عن دول المغرب والأندلس وترك معه كبار المؤرخين المحققين، كلّ في الدولة التي تخصص فيها، وتولّى هو التحرير الشامل للتعاليق حتى تندرج ضمن الخطة الموصّية التي صمّمها. أعانه الله. |
وقد أسس لذلك داراً للنشر حتى يخرج الكتاب كما يراه شكلاً ونوعاً وحجماً تكريماً للرجل الذي أحبّه. |
آخر ما يمكن أن نفضي به في هذه المناسبة هو أن صديقه الشاعر محمد مزهود كتب إليه على البعد قصيداً على وزن البسيط قافيته القاف فلم يجد بدًّا من كدّ ما خَمُل من نفسه على إجابته، فكتب إليه صدًى خافتاً للحَنْه الموقّع، تردّدَ بإعياء رحلة الزمن، وبُرودِ الشّوق، والهجران المرير لفنّ التّعبير عن باطِن الذّات، وخُمول مُراوضة البَيان وأشكال الإيقاع أن تتلاحم وتكونَ كما يريد، فقال من أبيات: |
هذي معانيكَ أفياءٌ معطرةٌ |
يضوعُ من كلّ حرفٍ هامسٍ عَبَقُ |
سردتَها كدروع المَجْد صامدةً |
ثباتَ قلبكِ لا واهٍ ولا لَثِقُ |
ورضْتَ صَوغ أداءٍ ليس مُحتجباً |
عن الجَلاءِ إذا ما غُمَّت الحَدَقُ |
صهرتَ روحَك فناً ملهَماً غَرِداً |
يَشعُّ من جانِبيه الحُسنُ والألقُ |
أضفَى الزّمان عليه فَيضَ حكمته |
ووشَّحته رؤاك الغُرُّ تأتلِقُ |
تلك الينابيعُ لا تصفو مشاربُها |
إلاّ لكلِّ الأولى في عِشْقها غَرقوا |
* * * |
أرى رفيفَ المعاني لا يعاودني |
كأنّما انطفأتْ في روحيَ الحُرَقُ |
ولم أجد غيرَ أصداءٍ ممزَّقةٍ |
تحكي بقايا حياةٍ ما لَها رتَقُ |
يمضي الزمانُ غريباً عن مشاعرنا |
ونحنُ نحسبُ أن الوصلَ مُتسِقُ |
يُظلُّنا وهو ينحو غيرَ وجهتنا |
إلى مدىً لا أرى أيّان يُخترقُ |
نَبِيتُ ترقُبُنا الأيام كاسرةً |
كأنّنا غرَضٌ للرّمي مَستبقُ |
* * * |
كدّ المسافرَ طولُ الدرب يقطعهُ |
ولم يُسَدَّ لهُ في مَدِّهِ أُفُقُ |
تَقاذفتني سُهوبُ الأرض أذْرعُها |
لتُصهرَ الذاتُ من ذاتي فانْعَتقُ |
خَبرتُ ذا الدهرَ، عَدّاءً ومرتقَباً |
وَهدّني عادياهُ الشكُ والأرَقُ |
ولم يَعد بهرجُ الآمال يجذبُني |
إنّ الذين مَضوا في تيهها احترقوا |
|
هذا ويَدعو الله تعالى أن يحسن ختامنا جميعاً ويهبنا الصحة والعافية، ويدعو الله دعاءَ الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو يردد: |
يا رب لا تبقني إلى زمن |
أكون فيه عبئاً على أحدِ |
خذ بيدي قبل أن أقول لمن |
ألقاه عند اللقاء خذ بيدي |
|
ولواهب العقل الحمد بلا انتهاء. |
عريف الحفل: الأستاذة والسيدات، على غير العادة تعلمون أن الاثنينية انتهجت قبل فترة حجب كلمات المتحدثين نظراً لإتاحة أكبر قدر من الوقت وتستمتعون بتبادل الحوار مع معالي ضيفنا الكريم، لكن الحقيقة أن لدى سعادة الأستاذ الدكتور حسن الوراكلي كلمة بهذه المناسبة، وهو الأكاديمي المعروف والأستاذ بجامعة أم القرى سابقاً. |
|