(( كلمة الدكتور عبد الله الغذامي ))
|
ثم أعطيت الكلمة لسعادة الدكتور عبد الله الغذامي، فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم. |
- هناك لحظات في حياة الإنسان ربما يتمنى فيها أن يعبر بالصمت، يعبر بمجرد الجلوس، والنظر، ومساءلة الذاكرة، عن المكان وعن الناس وعن الصوت، عن نسمة الحياة التي يأخذها معه، يبتعد وتأتي إليه، يبتعد وتلحق به، ويعود؛ حينما أجلس معكم هذه الليلة أشعر - حقيقة - أن هناك أشياء أريد أن أقولها، وأشياء كثيرة لا أستطيع أن أقولها؛ أصدقكم أنني وأنا جالس هنا أن ذاكرة ما غزت جلستي واحتلت صمتي واحتلت سكوني، لا أستطيع أن أنسى ذلك الوجه، وجه كان يعمر هذا المكان، كان يتحدث أول المتحدثين، كان العطر يفيض من كلماته، الذكرى صعبة والحنين أصعب..، أعتذر - حقيقة - لأنني لا أستطيع أن أنسى ذلك الرجل.. ولا أظنكم تنسونه.. |
- يرحمه الله ذلك الصوت الجميل، ذلك الوجه الجميل، ذلك العطر البهي جعلني أحب الاثنينية، جعلني أنغرس فيها وأعيش فيها، ذلك البيت تذكرونه المكان الَّذي كله ذكرى وكله محبة، محمد حسين زيدان (رحمه الله) من قلب كبير قلب الكيان الكبير، تلك الكلمة التي ظل يرددها ويرددها.. ويرددها، حتى جعل كل واحد منا كياناً كبيراً، لو كان معنا الليلة أنا على يقين أن لغة الجلسة، وحديث الجلسة، وتغريد الجلسة..، كله يتغير؛ لم أستطع أن أنسى ذلك الوجه، خاصة أني غبت عن هذه الجلسة سبع سنوات وعدت ولم أجده.. عدت ولم أسمعه رحمه الله وغفر له؛ وفي جلسة مثل هذه لا بد أن نتذكر ذلك الوجه وذلك القلب، صعوبة كبيرة أن يفقد الإنسان في لحظة من اللحظات علاقته مع المكان، ثم فجأة يعود له المكان بكل شروط هذا المكان وبكل حس هذا المكان. |
- طبعاً لن أؤذي ولن أقلل أدبي مع ضيفنا المحتفى به د. نذير العظمة، وأنا على يقين أنه يقدّر هذه الكلمات التي قلتها، لأن نذير العظمة رجل الوفاء، رجل المحبة، رجل الإنسانية، رجل الصدق..، وياليتني أقول الشعر كي أخاطب هذا الشاعر، ليتني لا أقول النقد كي أواجه هذا الشاعر، فالليلة ليست ليلة النقد، إنها ليلة التكريم، ليلة المحبة.. |
- ولن أضيف إليكم جديداً إن قلت لكم من هو نذير العظمة، تعرفون كتبه، وتعرفون أشعاره، وتعرفون سيرته..، ولكن الَّذي لا تعرفونه هو زمالة هذا الرجل، السير معه كل ليلة خطوات، بضعة أمتار، مئات الأمتار، بضع كيلومترات..، أسير أنا وهو ليلياً وأعرف عنه الكثير..؛ هذا الأميركي الَّذي يفيض عروبة، أميركي الجنسية، عربي الوجه، واليد، والقلب، واللسان، والشعور، والوجدان، واللغة، والمحبة، والوفاء، والعلاقة، والصدق.. |
- من النادر جداً أن تكسب صديقاً مثل هذا ثم تفرط بصداقته، عرفنا فيه في قسم اللغة العربية صدقه معنا، وصدقه مع الموضوعية، وشجاعته في قول الحق مهما كان الحق مرّاً أو قاسياً أو شديداً، وغير مجامل، وهو رجل.. أعتقد أن بلدنا كسبت هذا الرجل من خلال احتكاكه بأجيالنا الشابة، ومن خلال وقوفه كنموذج العربي الَّذي غرّد وشرّق وغرّب في كل مكان، ليحطّ أخيراً في جزيرة العرب، يعيش مع العرب، ويتكلم بلغة العرب، وبوجدان العرب؛ وحينما أتحدث هذه الليلة فإنني أشعر أنني أنا المكرم، إذ شاركت رجلاً كريماً بتكريم رجل كريم. |
- الشيخ عبد المقصود خوجه منذ أن تعرفت عليه قبل سنين، عرفت من خلاله أن تكريم الآخرين ممن هم يستحقون التكريم هو في الواقع تكريم للنفس؛ كان الشيخ عبد المقصود خوجه وما زال يكرم نفسه كل أسبوع كل اثنينية، لأنه يكرم رجالاً يستحقون هذا التكريم، وكان الشيخ عبد المقصود خوجه يكرمنا نحن إذ يجعلنا نشارك في حفلة الكرم هذه، وفي لغة الكرم. |
- مرةً أخرى حينما أتكلم عن رجل عزيز مثل نذير العظمة، مجرد الحديث عن نذير العظمة هو في الواقع انتعاشة في النفس؛ ونحن قادمون على الطيارة هذه الظهرية قال لي الصديق د. معجب الزهراني: إنه كتب قصيدة عن نذير العظمة؛ فقلت معلقاً مازحاً وجاداً في الوقت ذاته، قلت: إنك يا معجب لكي تتكلم عن نذير لا تملك إلاَّ أن تقول شعراً، لأنَّ نذير شعر، د. نذير العظمة شعر، بحسه، بحياته، بكيانه..، وعندما يتحدث بعد قليل سترون ما أقول، جسده قصيدة، حركته قصيدة، إحساسه قصيدة..، نقده قصيدة أيضاً، والَّذين قرؤوا نقده يشعرون أنهم يقرؤون شعراً. |
- ومن هنا فإنك أمام نذير العظمة تصبح بالضرورة شاعراً، لأن هذه العلاقة المشعة بينك وبين المتكلم عنه تجعلك شاعراً؛ الإنسان يصطبغ بالموضوع الَّذي يكتب عنه، مثلما أنك إذا نزلت في بركة سباحة يختلط الماء برائحته وبمذاقه بك، فأنت تسبح في عالم شاعر فتكون بالضرورة شاعراً. |
|
- تكريم د. نذير العظمة هو تكريم للغتنا ولوجداننا ولأحاسيسنا، تكريم للرمز الَّذي يحمله إخواننا العرب، الَّذين يفيضون عروبة ويتكلمون بهذه العروبة؛ والمملكة العربية السعودية لها علاقة شديدة مع الإخوة السوريين على وجه التحديد، منذ بدء تكوين المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز (رحمه الله) المستشارون الَّذين كانوا يحيطون بالملك، المستشارون الَّذين جاؤوا إلى هذه الدولة التي وحدها الملك عبد العزيز، جاؤوا ليقولوا إننا عرب ننتمي إلى هذه الوحدة، ننتمي إلى هذا التاريخ الَّذي جلس يكتب نفسه على أرض الواقع؛ نذير العظمة - أيضاً - هو من هذا الجيل الَّذي ينتمي إلى الأمة، ينتمي إلى وحدتها، ينتمي إلى تاريخها الَّذي ينكتب ويشارك هو في كتابته. |
|
- الحقيقة: أنا أعرف أن عدد المتحدثين كبير جداً، وسيكون عدد السائلين - أيضاً - كبيراً جداً، لأننا أمام رمز لا بد أن نخضه لنستخرج منه كنوزه وكوامنه؛ لهذا فإنني لا أود أن أطيل، ولكنني أختم كلامي بمثل ما ابتدأت به وهو: إن هذه المدينة الحبيبة تحمل بالنسبة لي ذكرى تتحرك وأقول لجدة: |
فلا تحسبي أن الغريب الَّذي نأى |
ولكن من تنأين عنه غريب |
|
- وشكراً. |
|