قراءة في كتاب
|
عبد الله بلخير شاعر الأصالة.. والملاحم العربية والإسلامية
(1)
|
تأليف: محمود رداوي
|
عرض: كامل عبد الفتاح
|
الوقوف أمام الشاعر الكبير عبد الله بلخير في حدِّ ذاته وقوف أمام شخصية متفرّدة في عالم الشعر والحياة والمجتمع وقوف أمام أحد قلائل من الشعراء الأفذاذ بالمملكة العربية السعودية وعالمنا العربي. |
ولا أقل من القول في بداية التعرض لعبد الله بلخير الشاعر والمثقّف العربي الأصيل أننا في مواجهة صوت عربي يحافظ على الروح العربية الأصيلة ويمثل نبرة جيل مطلع على تراث العرب الشعري والفكري. |
ولقد استطاع بلخير خلال عمره العريض أن يصدح بالأصالة وأسرار البلاغة والموسيقى ويعيد للأذهان عصر الشعر العربي في جذالته وقوته عندما كان ذات يوم في تاريخنا العربي ثروة العرب الأولى والمعبر عن أخلاقهم ونظرتهم للعالم الفسيح. |
ولقد تراءت كل هذه الصور لي عند تقليب صفحات الدراسة الثمينة التي يضمها كتاب الأستاذ محمود رداوي ((عبد الله بلخير شاعر الأصالة والملاحم العربية والإسلامية)). |
وليس من المبالغة في شيء لو قلنا أنها مهمة غير يسيره لأي ناقد أو باحث أن يحاول الإلمام بأطراف الحياة الأدبية والاجتماعية لشخصية غنية وغزيرة ومتنوعة كالأستاذ عبد الله بلخير. |
ولكن الذي يجب تسجيله في البداية أن الباحث الأستاذ محمود رداوي قد وفق إلى حدٍّ بعيد في مهمته التي أثمرت هذا البحث والذي يعد مرجعاً هاماً لكل الذين تعنيهم دراسة حياتنا الشعرية خلال هذا القرن. |
مدخل إلى عالم بلخير |
الشاعر بلخير من القلائل الذين ارتفع حظهم الشعري، كما يقول الباحث، في سن مبكرة إلى النقطة القصوى ثم تلاشى الخط في بدايته ونهايته ولكنه عاد بعد نصف قرن ليصعد إلى ذات المستوى الأول ويتجاوزه وكأنها كانت غفوة وسنة عابرة اكتنز فيها الشاعر تجربة الحياة وثراءها وتنوّع مشاربها لتنطلق شاعريته بعد ذلك نهراً يفيض من جانبيه شعراً وبلاغة وخيالاً خصباً ثريا. |
ومن يتأمل المسيرة الشعرية للأستاذ بلخير لا بدّ أن يعتبرها ظاهرة فريدة أن تتصاعد شاعرية شاعر ـ ثم تتوقف ـ ثم تعود متفجّرة بكل مكنونات النفس الممتلئة بالشعر والتراث والأصالة ـ ويقول شاعرنا الأستاذ بلخير عن هذه الظاهرة ((لا يمكن ذلك ـ ويقصد التوقف ـ فهذا أمر مرتبط بحياة الإنسان ويصل ارتباطي بالشعر في بعض الأحيان وأثناء رحلاتي أن أكتب شعراً في كل مدينة أزورها أو معظمها خصوصاً إذا حركت فيَّ نوازع الشعر وأثارتها ولا يمكن للإنسان أن يتخلّى عن نفسه)). |
الموضوعات الشعرية عند بلخير |
لقد غطّى شعر بلخير معظم أغراض أو موضوعات الشعر العربي إلا أن أهم ما توقّف أمامه بلخير كثيراً وطويلاً كان ((المديح والفخر)) كما أنه جدد في الوقت نفسه ـ في الموضوعات التي يمكن لنا أن نطلق عليها ((الأناشيد العربية)) و((الملاحم العربية)) والتي يعيد فيها شاعرنا سيرة الحضارة والأمجاد العربية والإسلامية. |
المديح |
يفيض شعر المديح عند بلخير كترجمة للأعمال العظيمة والرجال العظام الذين أثّروا تاريخنا العربي والإسلامي.. وسجّل خالد لمآثر الأفذاذ وآثارهم الباقية عبر الزمن والأجيال والتاريخ. |
الفخر.. |
ويعبر فن الفخر عند بلخير عن موقفين له: موقف يرى فيه أمته تزحف شامخة متقدّمة من نصر إلى نصر ومن علياء إلى علياء فيجيء الفخر فيه تجسيداً لأحاسيس الزهو والعظمة. |
والموقف الثاني يجيء الفخر فيه تعبيراً عن مشاعر الألم والهم القومي تلك المشاعر التي تداهم الشاعر وتهاجمه في صومعته الشعرية والنفسية وهو يرى أمته العربية والإسلامية تتراجع عن فخرها ومجدها فلا يجد ملاذاً له إلا أن يركن إلى مفاخر وأمجاد وانتصارات هذه الأمّة وقت فتوتها وعنفوانها. |
الرسالة العظيمة للمغفور له جلالة الملك عبد العزيز آل سعود |
ويصور الشاعر بلخير الرسالة العظيمة للمغفور له الملك عبد العزيز في توحيد المملكة التي كانت تتجاذب أطرافها المترامية الخلافات القبلية والتفكك والفوضى ويصور برصانة لغتة وقوتها المعجزة التي حققها المغفور له المللك عبد العزيز في توحيد الجزيرة وأعدادها للانطلاق. |
علاقة الشاعر بالملك عبد العزيز |
ومن الجوانب الهامة في بحث الأستاذ ((الرداوي)) الذي بين أيدينا الجزء الذي يفرده للعلاقة التي ربطت الأستاذ عبد الله بلخير بالمغفور له الملك عبد العزيز فقد كان الشاعر في بدء حياته العملية قارئ أخبار الملك عبد العزيز ثم منشده الشعر فناظم قصائد فيه، فاستحب الملك شاعريته وحضوره فاتخذه من سمَّاره وأصفيائه فأسعد الشاعر بتلك الخطوة فكانت له فيها ذكريات ظلّت محفورة في قلبه ونبعاً غزيراً لشاعريته حينما يطلق لها العنان محلّقة في آفاق ذكريات غالية على نفسه. |
ويقول في قصيدة نظمها في موسم الحج عام 1396هـ وعنوانها ((ذكريات يفوح بها أريج مكّة وعبير الرياض)). |
ربيع عمري بنجد كله عبق |
بذكريات تغنى والهوى سارى |
إذا الربيع أتانا في مطارفه |
وفاحت الأرض من أنفاس أزهار |
مشى إليه ((طويل العمر)) في صخب |
وحوله كل رمّاح وبتّار |
|
وحدة الجزيرة |
يستهل بلخير إحدى قصائده عن وحدة الجزيرة العربية ويحمل عنوانها المضمون نفسه فيقول: ((متى يجمع الله الجزيرة كلها على راية كبرى ترف وتخفق جزيرتنا الكبرى منارة مجدنا وعالم دنيانا التي نتعشّق لها)). |
وتصل بالشاعر أحاسيس الاعتزاز والفخر إلى ذروتها فيقول: |
أولئك أبناء الجزيرة سل بهم |
إذا رابك الشك الذين تحققوا |
تعالوا على فجر الزمان وشيدوا |
الممالك واختالوا بها وتفوّقوا |
بهم عرف الناس الحضارات في الورى |
وطافوا المحيطات الكبار وسابقوا |
|
العروبة والإسلام |
وفي خطاب بلخير للشباب ((بمناسبة سفر البعثة الثانية للطيران إلى أوروبا)) تبرز لنا مشاعر الوطنية المتدفقة والصادقة عند شاعرنا فهو يستمد من نفوس الشباب وعزائهم أصالة العرب والإسلام عبر الأرض والشعب والدين ويقول في قصيدته ((
وحي الصحراء
)). |
أبناء يعرب والنفوس فداؤكم |
ما للشباب على الهوان مقام |
الشعب يحيى بالشباب فإنه |
الروح التي تنمو بها الأجسام |
يا من يعزّ على البلاد فراقهم |
وهم البزاة الصِيد أين أقاموا |
الله في حسن السلوك فإنكم |
عرب ودينكم هو الإسلام |
|
ومن الجوانب التي تستحق التوقف أمامها بالإعجاب أو التقدير على حدٍّ سواء أن شاعرنا الكبير عبد الله بلخير كان فيلسوفاً ومفكِّراً بين الشعراء حين تعرض لقضايا وهموم الأمة العربية والإسلامية ونجده في إحدى قصائده يرثي حال وسائل الإعلام في البلاد العربية والإسلامية ويحزن لدورها في هدم أواصر الحب والتضامن ومعاني القربى فيقول: |
فوسائل الإعلام أكثرها |
مما أساء ودمر العربا |
نسفت عقائدنا ووحدتنا |
فغدت أخوَّتنا بها حوبا |
كانت وما زالت تشب لظى |
أحقاد تشعل نارها حطبا |
|
الأناشيد العربية |
ومن أجمل ما كتب الشاعر الكبير عبد الله بلخير الأناشيد العربية التي تميّزت بجرسها الموسيقى وعذوبتها وكأنها تغني نفسها وتلهب حماس جيل جديد انتظر منه الشاعر أن ينطلق نحو عصر جديد. |
ومن الجدير بالتسجيل هنا أن بلخير رفع هذه الأناشيد لجلالة المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز أيام كان نائباً للملك في الحجاز وكان بلخير على صلة طيبة بالملك فيصل ـ وشرح لجلالته ضرورة بعث همم الأجيال وسد حاجتهم في المدارس إلى هذا اللون من الدعوة إلى العزّة والمجد فرحب الملك بذلك. |
وتعتبر أناشيد بلخير فتحاً جديداً بمقارنتها بما هو موجود بالشام ومصر ولبنان. |
يقول الشاعر بلخير في نشيده ((شباب العرب)).. |
يا شباب العرب مهلا |
زمن القول تولّى |
وهلال الجد هلاّ.. |
وأتى دور العمل |
نحن في عصر جديد |
نحن في عصر الحديد |
فلنعد ماضي الجدود.. |
بجهاد وأمل |
نهض الغرب ونمنا |
ومضوا هم وقعدنا |
فلهذا قد خسرنا.. |
حقنا بين الدول |
|
وعلى هذا المنوال من الروح المفعمة بالوطنية والحماس والالتزام والاندفاع لقضايا أمته العربية كان الشاعر بلخير في كل أناشيده الوطنية منها والعربية والدينية. |
أم القرى |
عاش الشاعر عبد الله بلخير عدة مراحل من حياته في مكّة المكرمة.. فقد شهدت أم القرى مجرى طفولته وصباه وفتوته وشبابه كما يقول الباحث محمود الرداوي.. فلا غرابة إذن أن نرى الشاعر عبد الله بلخير يصدح بشعره في مكة ومقدساتها من حين لآخر. فقد ظلّت معالم مكّة هاجس الشاعر الذي لا يفارقه فغناها أصدق شعره وأرق أحاسيسه يقول في ((لبيك يا أم القرى)): |
أم العواصم والمداين والقرى |
لبيك يالبيك يا أم القرى |
لباك من صلى وحج ومن دعا |
وسعى وكبر خاشعاً واستغفرا |
|
الملاحم والأندلسيات في شعر بلخير |
يتغلغل الشاعر عبد الله بلخير في أعماق التاريخ مطلعاً قارئاً باحثاً شغوفاً بكنوزه ودرره وإشراقه يتنفّس فيه ويعوم في بحوره ويخرج من شواطئه وقد تشبع بروحه. |
ومن ظلال هذا البعد التاريخي عند بلخير ظهرت ملاحمه الشعرية ((محمد رسول الله، وحلم ليلة ربيع في ضيافة الأعشى بالدهنا بنجد، وملحمة مؤته))، وثلاث أندلسيات هي ((قرطبة، غرناطة وقصور الحمراء وملحمة طارق بن زياد)). |
وفي قرطبة يسكب الشاعر دموعه أبياتاً من أسى وألم عال حال المساجد والأماكن المقدّسة في قرطبة المسلمين أو التي كانت يوماً للمسلمين فيقول: |
إلى مسجد لم ألق فيه مؤذناً |
يؤذن أو ساعٍ يلبى مؤدبا |
أفقت فألفيت السواري يلفها |
من الحزن ما قد لفها منه مرهبا |
حبيسات ماضٍ مرَّ يخشاه حاضر |
إذا ذكروا ما كان فيه تهربا |
تماسكن في ذعر من الصمت مرجف |
كأن خيالا مدّ ناباً ومخلبا |
|
ويقول: |
ترامى بي الشوق مغربا |
لعاصمة الإسلام في الغرب قرطبا |
|
السينيات الثلاث للبحتري وشوقي وبلخير |
في ملحمة غرناطة نسجها الشاعر بلخير بالسينيات التي حملتها من قبل قصيدتا البحتري وشوقي في التأسيّ على الماضي الذي احترق ويقول بلخير في ذلك. |
ناح شوقي على مشارفها قبلي |
تشاجى بـ البحتري في تأسيّ |
وتشاجيت منهما حينما سا |
لت دموعي على يراعي وطرسي |
|
وقد قال شوقي حين نفى بعيداً عن مصر: |
وسلو مصر هل سلا القلب عنها |
أو آسى جرحه الزمان المؤسّي |
|
وعلى نفس النغم الموسيقى، الرائع نفسه يقول بلخير في ((غرناطة)): |
تتعالى به حياته وتكبو |
بين كرب من الزمان وأنسِ |
خاض أمواجها شراعي يطوي |
البحر طيّاً به يسير ويرسي |
|
ولقد وقف بلخير عند مأساة العرب في الأندلس كثيراً ناعياً ومتشكياً وحاملاً جرح أجيال متعاقبة سقط تاريخ مشرق لأجدادهم على غير انتظار في الأندلس فيقول: |
فتداعت صروح ملكهم تهوي |
فضاع المجد المفدى بطمس |
ومضى عصر عزهم في دبورٍ |
ورجال لا كالرجال وبؤس |
ضاع ما ضاع في ندامة من شبَّـ |
ك كفيه بين فرك وفحس |
|
الباحث بين شوقي وبلخير |
وقد تعرّض الباحث محمود الرداوي بالمقارنة بين السينية الشوقية والبلخيرية وقد تكون هذه الجزئية أقرب بعض الشيء للدارسين والمتخصّصين أن يطلعوا عليها في كتاب الرداوي. |
إلى شاعرنا |
وإذا كانت مهمة الباحث المتخصّص محمود الرداوي قد وصفناها في البداية بأنها صعبة وغير يسيره لما في حياة الأستاذ عبد الله بلخير الشاعر والرجل العام من أبعاد أعماق وجذور تحتاج لجهد باحثين فإن مهمة من يقدم عرضا لكتاب عن ((بلخير)) تبدو أكثر صعوبة لأنها محاولة لضغط سنوات من الإبداع والترحال الأدبي والشعري في سطور قليلة. |
إلاّ أن الضرورة تجعلنا نسجل من قبيل الالتزام هنا أن الشاعر عبد الله بلخير سيظلّ مجالاً أدبياً ممتداً لأجيال قادمة يغري الباحثين في بحور الأدب والساعين بين دروبه أن يتعرّفوا عن قرب بشاعر يملك ناصية الشعر مثل بلخير وينسج أبياته كأنه يمسك بقيثارة يعزف عليها لحناً لزمن مسترسل. |
ولا يفوتنا أن نشكر الناشر الأستاذ عبد المقصود خوجه اختياره لهذا الكتاب الرائع والجميل وهو يعكس باختياره هذا حجم الوفاء الذي يكنّه لذلك الشاعر الكبير. |
|