شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به معالي الدكتور مصطفى البارودي ))
ثم تحدث المحتفى به الكاتب والأديب والشاعر والدكتور: مصطفى البارودي فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم..
- الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين..
 
- ومزيد الشكر لله (تعالى) ثم لصاحب هذا القصر.. أعطاه الله فأرضاه ووظف نسبة عالية من دخله ليكرم الناس، لأن أباه كريم وهو كريم، ماذا أقول في وصفه؟ أأقول: إن عبقرية الإنفاق في الخير الكريم بلا حدود هي عبقرية - أيضاً - لا تعرف عمراً؟ ألم يكرم الناس في دار أبيه وهو شاب فراح يعيد السنَّة وهو شاب - أيضاً -؟ لأنه لا يمكن إلاَّ أن يبقى شاباً هذا الكرم، لا يخرج إلاَّ عن نفس شابة تحيا شابة وتظل شابة؛ وأسأل الله (تعالى) له طول العمر، ليمن على هذا التاريخ بصفحات يكرم فيها من يستحق التكريم.
 
- اللهم إني أستحي مما قيل في حقي؛ أرجو من الله (تعالى) أن يقبل مني هذا الكلام، لا عن تواضع وإنما عن ثقتي بالله (تعالى) أنه سيغفر لي ذنوبي؛ فلكم أخطأت في حق الناس، وفيكم شاب أخطأت في حقه وحق أبيه، وفيكم زملاء أخطأت بحقهم، إليهم - جميعاً - أقدم معذرتي بأني كنت أجاوز حدي كما قال الأستاذ الزرقاء، لأني لا أعرف حداً حينما أتفجر، حينما قال الأخ الكريم محمود النفوري بأني بارودي؛ هذا الكرم الَّذي لا تحده حدود.. لا يمكن أن يوصف بأي وصف، إلاَّ بأنه إرث كريم لكن في أصل ومستنبت أكرم أيضاً؛ وإذا كان التلميذ يبز الأستاذ فإن الأب يسره أن يقال له خير منك ابنك، ولا يجد في ذلك ضيراً.
 
- ولقد متعني - أيضاً - ببيانه الرائع وهو أديب، فشكراً له ألف مرة وأزيد الشكر لأني طماع، بماذا أطمع لما شكرت الله (تعالى) أول مرة؛ إذ جئت هذا المكان وما سبق لي أن عرفته إلاَّ بالسمع كما تحدثت به الركبان، فقلت الشكر لله وانطبقت علي الآية: ولئن شكرتم لأزيدنكم وإذا أنا أعود فأحضر الحفل بعد الحفل، وإني لأراني محاطاً بكم أنتم الكرام الَّذين لبيتم الدعوة، لكم جميعاً. شكري وللخطباء الَّذين تكلموا، لأخي هذا محمود الَّذي أعطاني فوق حقي، ولكن ماذا أفعل بالَّذين كانوا طلابي فأصبحوا أساتذتي؟
- الأسبوع الماضي قلت لكم حسان المحاسني أستاذي، أحرقت سيارتي الخامس من شهر كانون الثاني يناير عام 1985 - أمام باب داري إحراقا عسكرياً، لأن بجانبها سيارة وبجانبها سيارة، ولو لم تكن الإطفائية موجودة والفوسفور محصوراً، لاحترق الحي بما في ذلك بيت رئيس الأركان وبيت نائب رئيس الجمهورية، كان كلاهما قريباً.. كانت الإطفائية موجودة، وكان الَّذي تولى الإحراق موجوداً، طرق بابي بعد خمس دقائق، قال: أستاذ احترقت سيارتك؛ قلت له: الأمر لله؟ قال لي: من أحرقها؟ قلت له: أنت، قال: أنا تلميذك أنا نشأت على يديك (وهو ضابط مخابرات) قلت له: ما بين حي القصَّاع وبيتي مشياً على الأقدام ساعة، وبالسيارة على الأكثر ربع ساعة، فكيف جئت في خمس دقائق والإطفائية كيف خُلقت خلقاً؟
- هكذا نجد تلميذاً ضابطاً في المخابرات غير وفي، ونجد بالمقابل أستاذاً يتلقاني في مكتبه عقب إحراق سيارتي، فإذا أنا في مكتبه وكأنه مكتبي.. يقول للأمريكان (عددهم كبير) وللعرب من كل جنسية: هذا أستاذي، حتى أخجلني؛ لا يمشي إلاَّ أن أمشي قبله ثم يكرمني منتهى الإكرام، ثم أقرأ ما كتب في الدعاوي التي يقول: إنه يستشيرني بها، فأقول له: بزَّ التلميذ أستاذه فقد حلَّقت.
- وهذا أخي محمود النفوري تواضع فعرض عليَّ ذات مرة قضية أو أكثر، يسألني هل وفقت في كتابة مرافعتها؟ كان جوابي: سيشهد الله أني منك تعلمت.. أنت - أيضاً - أستاذي.
- الآن ماذا أقول لهؤلاء الكرام الَّذين أعادوا إليّ شبابي حين جاء شبابهم وضاء؟ عمري في السبعين ويجعلون مني أستاذاً وهم أساتذتي، إنهم كرام كصاحب هذه الدار.
- الرجاء الَّذي وجهه إليَّ صديقي الأستاذ النفوري أن أعود إلى وطني، كيف أعود وقد قال العلامة الزرقاء إني ذلك المتفجر الَّذي يجاوز حده.. وقد صدق والله؟ إنه والله من أكرم الناس أيضاً.
- أعود وألقى ما ألقاه كم من المرات قبل أن تحرق السيارة، وبعد أن أحرقت تعرضت للأذى، هذا واحد؛ ثانياً: أتمثل قول الشاعر:
أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس (1)
 
- إني سأكون غريباً في وطني، إني لن أكون نسراً كما وصفوني في أرض بغاثها يستنسر، يا أخي العلامة الزرقاء، أفضت عليَّ من أخلاقك أنت إناء ينضح بما فيه، أنت إناء كريم.. إنه كله مزايا، إنه كله عطر، إنه كله روح من روح الله؛ أنت من الَّذين تنطبق عليهم الآية: وأيَّدكم بروح منه هذه في القرآن الكريم، أيدك الله بروح منه أيها الزرقاء.. أيها العلامة الكبير؛ وأنت أيها العميد التويجري لم تشأ أن تقول إنك كنت عميدي ورئيسي، أعتز بأنك كنت عميدي، أعتز بأنك كنت رئيسي، أعتز بما حبوتني به من احتمال لا يحتمل، كرمتني فوق حقوق التكريم، لئن غادرت كلية التربية وكان عمري 65 سنة ونجوت قبل أن يلحقني مقياس التقاعد، ومضت على هذه المرحلة 4 سنوات ونصف السنة؛ ولكني على يقين أنه لو كان بالمستطاع أن أبقى حتى عمر الشيخ سعيد الأفغاني عندما درس - أو غيره - لبقيت، إنما قدر من الله وكلمة سبقت من الله.
- لحظة من اللحظات يشتعل فيها الغضب، أقول: يا أخي لم أعد أطيق فلاناً لم أعد أطيق عمله، من أنت حتى تقول هذا؟ من أنت يا مصطفى البارودي؟.. تواضع.. من تواضع لله رفعه؛ لماذا هذه الكبرياء؟ خف من الله؛ يا رب إني أخطأت فسامحني، كان عليَّ أن أبقى لو شاء الله لي البقاء لكنه أخذني إلى نيس، وما فتئت أقول: لا أنيس ولا جليس، وأنا في نيس، ويقول أبو عزيز الَّذي كان هنا في الأسبوع الماضي - وسامحه الله لم يأت هذا الأسبوع - يقول: ولا لمياء ولا لميس، قلت: أغزل وأنا في السبعين.. سامحك الله.
- يا سادتي لم أتكلم بعد، هذا كله مقدمة.. أتمثل في المغرب ذهبنا إلى المغرب، إبان الوحدة كنت أنا، وأستغفر الله، طلبت من جامعة الدول العربية بكتاب لا يزال محفوظاً في محفوظاتها من مدريد، وقد انعقد مؤتمر دولي؛ يا جامعة الدول العربية: عار على العرب ألاَّ يكون لهم منظمة عربية للعلوم الإدارية، وقع معي أستاذان كريمان من دول عربية ذهب الكتاب فنام في الجامعة؛ لما عدت إلى دمشق كان فخر الرجال شكري القوتلي، فتلقى طلبي بكل سرور، وكان رئيس الجامعة الدكتور شوكت قنواتي - رفيق أخي الشهيد الدكتور مسلم البارودي - فقال لي ماذا تقترح يا مصطفى؟ قلت له: أن تتحمل الجامعة نفقات المؤتمر العربي الأول للعلوم الإدارية؛ قال كيف نعمل؟ قلت أنا أذهب إلى عبد الخالق باشا حسونة؛ وهناك؛ التقيت بالدكتور صلاح الدين المنجد، فدعاني إلى منزل الأستاذ طه حسين، وكرمني هذا الأديب الَّذي كان ينبغي أن يكون عضواً في المجمع العلمي العربي قبل عشرين عاماً، بل قبل ثلاثين عاماً، لكن البغاث بأرضنا يستنسر؛ كرمني بأن ذهبت بمعيته عام 1957م إلى منزل طه حسين، وهناك استطعت في جامعة الدول العربية أن أقنعهم فأعطوني ثمن البطاقة والإقامة في القاهرة، باعتبار أني صرت على حساب الجامعة العربية، فكتبت كتاباً - عندئذٍ - لرئيس الجامعة قلت له: إن هذا ليس مالي أعيده إليكم، إني لا أقبل أن تنفق عليَّ جامعة الدول العربية، بعد أن أنفقت عليَّ الجامعة السورية؛ والحمد لله اشتعل هذا المنبر الإعلامي الإداري تحت رعاية فخامة الرئيس القوتلي، ولكن ماذا صار لمنظمة العلوم الإدارية.
- جاء كتاب من مصر والأيام قد تبدَّلت:
فلا الأذان في منارته
إذا تعالى ولا الآذان آذان (2)
- جاء الكتاب يريد مصطفى البارودي مديراً للمنظمة العربية للعلوم الإدارية للرئاسة الثالثة، مضى قبلي رئيسان، فتولى الكتاب شخص يعرفه أخي، كان مستشاراً في مجلس الوزراء، وكان يعاديني حين كان أميناً عاماً لوزارة الشؤون البلدية والقروية، وله نزعة غير نزعتي.. كل إنسان حر في نزعته؛ فاستولى على الكتاب وأقنع رئيس الوزراء - عندئذٍ - بأن يكون هو رئيس المنظمة، وأخذ هذا المكان فتساءل المصريون أين ضاعت الرسالة؟ وعندئذٍ أدرك شهريار الصباح فسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
- والآن بعد أن شكرتكم - جميعاً - أتذكر كلمة في المغرب، حيث ذهبنا لحضور المؤتمر العربي الثاني ولم أكن مسمى في الوفد؛ وإنما تطاول لساني على المصريين إبان الوحدة علناً وصراحة، قبل أن يقال إني تكلمت من بعد انفصام الوحدة، الله شهيد على ما أقول؛ من جملة كلامي: أين أين الأمين العام للمؤتمر العربي للعلوم الإدارية الَّذي سيكون مديراً للمنظمة التي أحدثناها، والَّذي اقترح المؤتمر؟ لماذا لا أذهب إلى المؤتمر العربي للعلوم الإدارية؟ فجاءت برقية عاجلة لضمي إلى المؤتمر؛ ذهبنا إلى هنالك. الوفد الجزائري عام 1960، كان يتكون من شخص واحد هو عبد الرحمن الحارصالي صاحب اللسانيات في المغرب وأكثركم يعرفه؛ فلما عرفني قال: مصطفى هل يمكن أن تنضم إلى الوفد الجزائري؟ قلت نعم؛ قال نحن ما عندنا من يساعدنا وأنتم أربعة عشر شخصاً، الوفد المصري كان أربعة عشر؛ قلت نعم أنضم؛ فقال رئيس الوفد: كيف تنضم وما مقامي أنا هنا؟ فقلت: هل أنت أمير المؤمنين؟ من أنت؟ فجاء عمر حافظ شريف من أشرف الناس في مصر، مصر لم تخلُ من الأعلام، مصر لو كانت الوحدة قد جرت في نطاق أعلامها لما انفصلت، لو استمرت على أيدي مجاهدين كبار لو تركوهم يصدرون الجرائد، ويقولون كلمة الحق التي تعودوها، لما انفصمت الوحدة.
- هكذا يا إخوتي وجدت نفسي في المغرب محشوراً في الوفد، فأخذونا إلى فاس إلى مقر الموسيقى الأندلسية، فتغنوا في أمسية:
أهلاً بكم يا زائرين ومرحباً
قد بشرت بقدومكم ريح الصبا
- ثم وضعوا لحناً آخر فقالوا:
أحسنت يا ليل في تألقنا
بالله يا ليل طل وزد وزد
أسأت يا صبح في تفرقنا
بالله يا صبح تب ولا تعد
 
- أستغفر الله أن أقول للفجر عند القرآن المشهود تب ولا تعد.. أستغفرك ربي، إن أطلت سامحوني.
- لن أتكلم في السيرة الذاتية وقد تفضل مقدم الحفل، وقد كرمني - أيضاً - صاحب هذا القصر بما يكفي وزيادة أيضاً؛ فأتحدث عن منعطفات السيرة الذاتية.. فيها منعطفات؛ الحياة تبدأ بالأمل وتنتهي بالأجل، ومع اقتراب الأجل يتذكر الإنسان المنعطفات، فإذا تحدث عنها فللعبرة ليس إلاَّ؛ وإذا كان فيها جفاف أو غرور.. فأستغفر الله إنْ غرني بالله الغرور، والغرور وإن كان فيها منفعة فإن هذا - إن شاء الله - يكون ثواباً.
 
- المنعطف الأول عام 1943م، دمشق تشعر أن الروح ردت إليها إعلان انتخابات نيابية منزهة عن التدخل الأجنبي؛ الصيف قائظ ودمشق حرها شديد، شكري القوتلي اختار بوصفه - هو صاحب الحملة الوطنية - البيوت الدمشقية القديمة، ما منفعة البيوت الدمشقية القديمة؟ أعتقد أنه في جدة يوجد الشمشير، الشمشير ورق صغير يتكاثر فيصبح شجرة وهي قصيرة، بحيث أنا القصير أستطيع أن أعلوها فيرش عليه الماء - على الشمشير - فيظل ينضح الماء نسيماً كأنه مكيف صحراوي في الرياض أو في جدة، في هذا الجو كل يوم عقب صلاة العصر تجري الحفلات، كتب الله لي أن أكون مقدماً للخطباء في الحفلات، والمقدمون للخطباء ليسوا مثل هذا الرجل المتواضع تكلم قليلاً، يتكلمون أكثر من الخطباء؛ فعنَّ لي أن أتكلم فأسوق حديثاً عن حفل سابق؛ بالحفل السابق كل واحد يتصدى للكلام وكل واحد له خاتمة، بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وهو يتحدث عن الانتداب، وآخر يقول:
وإن تكن الأيام فينا تبدلت
ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل
فما بدلت فينا قناة صليبة
ولا ذللتنا للتي ليس تجمل
 
- وثالث يقول: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة، حفظنا الاكليشيهات - الرواسم يعني - لكن شخصاً واحداً راح يتشدق بما لا يحسن به الكلام، فتوليته أثناء تقديمي العرفاء، فامتعض وأوشك ينسحب؛ عندئذٍ وجدت شكري القوتلي وكان بجانبه يضع يده على فخذيه، ثم يتولى شكري القوتلي الكلام، فيقول: إن ما قلته حق؛ يومئذٍ شعرت بأني أذوب خجلاً.
 
- إنها صفعة، شاب في التاسعة عشرة من عمره يتطاول فيأتي رجل كبير، فيقول إنه على حق، لكن على طريقته، على طريقة الأستاذ الزرقاء قال يتجاوز حدوده؛ كرام الناس يحسنون الكلام.
 
- هذه اللمحة، هذا المنعطف علمني أن أتقي الله ما استطعت، فهل استطعت؟ يا رب مغفرتك.. مشينا في هذا الركب الوطني نصفه، فابتعثنا إلى الغرب، هنالك وقع - ونحن في الغرب - انقلاب حسني الزعيم.
- هذا منعطف ثانٍ خطير جداً، كتبت إلى من كتبت إليه بدمشق لن أعود إلى سورية، وكتبت في اللحظة التي وقع فيها الانقلاب، كنت قد قدمت الأطروحة إلى الجامعة للمناقشة فأتسلى بالقراءة إلى أن يحين موعد المناقشة؛ ماذا قرأت؟ تاريخ الانقلابات في العالم، مصادفة؛ فقلت: إن الَّذي رأيته من تاريخ الانقلابات، إن هذا سرطان إذا دخل جسماً لا يمكن أن يخرج منه إطلاقاً، ستحترق الخلايا خلية بعد خلية؛ وذهبت إلى شخص يمثل دولة عربية كريمة، فعرضت عليه - وأنا تقريباً دكتور في الحقوق - أن أشتغل كاتباً محلياً، فرفضني وولى غيري السبب لا أحب أن أذكره.
- منعطف ثالث، تجري الأيام، وأدخل مدرِّساً في كلية الحقوق، ثم أستحق الترفيع إلى مرتبة أخرى أيام الشيشكلي، فيحول الشيشكلي دون أن أظفر بالمرحلة الثانية، فيأتي منير العجلاني وزيراً - وهذا ما قلتُه في الأسبوع الماضي - فيقول: أين الأوراق التي حفظت ولم تتابع؟ قالوا له: هناك أربعة أساتذة في كلية الحقوق، نهاد السباعي، جورج عشي، محمد الفاضل، ومصطفى البارودي؛ جاء موعدهم للترفيع، قدموا الإنتاج العلمي.. جرى الفحص؛ فأرسل إلى الجريدة الرسمية قراره بأن نأخذ المنصب الثاني، المنصب الَّذي بعده صرت أستاذاً ذا كرسي، بعد جهود من التأليف، وتكريماً من الأساتذة الَّذين إذا درسوا ما ألفته قالوا حسن.. وقالوا أكثر، ولكن ربما ساعدوني، يعني في التماس في الدنيا، كثر خيرهم؛ لم يمض على أستاذية كرسي سنتان حتى جاء مرسوم وقعه وزير صديقي، لكن ليس صديقي بمعنى الصداقة، إنما زميلي؛ أقول: هو بعثي وأنا محايد، ما كنت يوما من الأيام.. ولن أكون إلا محايداً؛ فوقع مع السادة الَّذين فرضوا عقوبة العزل المدني، والَّذين وقعوا كلهم تشردوا، شذر مذر؛ فبعد أن وقع رآني في الطريق فخشي أن أبصق في وجهه - هذا ليس من أدبي - فهجم عليَّ الوزير وعانقني، فتركته.
- هذا - أيضاً - منعطف من المنعطفات التاريخية، أن تجد الناس يضحي بعضهم ببعض من غير سبب؛ هل أعادوا الوحدة لما جعلونا معزولين مدنياً.. لأننا انفصاليون؟ نحن انفصلنا عن الأخطاء لا عن الوحدة، ومع ذلك هل أعادوا الوحدة؟ كلما جاء أناس من السوريين الوحدويين بطائرة من دمشق ردوهم إلى القاهرة، ما هذا النفاق؟
- منعطف آخر: المغرب، أثناء المؤتمر العربي الأول للعلوم الإدارية، كان سفير المغرب عبد الرحمن الفاسي - والآن أعتقد أنه مستشار في الديوان الملكي - أديب وشاعر، من فاس، فاس جليلة القدر، رحم الله علال الفاسي كان يؤثرني على نفسه بكلية الحقوق بالرباط، أكثر من ذلك بالجدول أوشك أن يضع اسمي فوق اسمه لقدمي أستاذ كرسي أكثر منه.. فأبيت؛ أما هنا في الرياض فلم أقبل أن يضع أحد اسمه فوق اسمي - آسف - أما هناك تركته أن يضع اسمه فوق اسمي؛ ويعرف معالي الدكتور العجلاني أن في فرنسا هذا حق، والأستاذ الَّذي يضيع له حق يوم واحد يعترض فيبدل الجدول.. يعلن بأسماء كبيرة.
- علال الفاسي (رحمه الله) في المغرب أكرمني كل الإكرام، لكن الَّذي أهاننا في المغرب الفرنسة، سامحوني إلى اليوم نعطل في المغرب يوم الأحد؛ يعني أفترض نفسي مغربياً؛ تسع سنوات يا سيدي، يعني أعتقد أن من الأدب أن نقول لهم: كفى أن نعطل يوم الأحد فلنعطل يوم الجمعة؛ كفى أن يكتب البارودي للعميد باللغة الفرنسية، أكتب لعميد القسم العربي باللغة الفرنسية ليسمح لي بالعودة، لأن المعاملة ينبغي أن تذهب إلى وزارة المال، هذه لغتنا ونحن نعرب؛ من أول سنة ظهر في وجهنا واحد اسمه أوفقير، فأراد أن يضعنا في السجن جميعاً؛ مأمون الكزبري، عبد الوهاب حومد، نادر النابلسي، أمجد الطرابلسي، مصطفى البارودي، إلخ.. أنجاني الله بشباب من المغرب كانوا إخوة للملك الحسن الثاني، لما سمعوا أن مصطفى جاءه جماعة: "أوفقير"- بالمناسبة ألقيت محاضرة في دمشق في أثناء الفترة التي عدت فيها من المغرب إلى أن جئت إلى المملكة، تحدثت فيها عن الفارق بين الدولة الكريمة التي تؤسس تأسيساً صحيحاً؛ ودولة مباحثية قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، إن الله لا يحب القوم الظالمين، لا يزال بنيانهم الَّذي بنوه ريبة في قلوبهم... قلت للسامعين هذه دولة المخابرات، دولة الريبة.. أرجو ألاَّ أكون أخطأت؟ صححوا لي.
- جاء أوفقير ليعتقلنا، فأنجانا الله منه بقدرة وزيرين شابين؛ كانا تلميذين في كلية الحقوق القسم الفرنسي مع الملك في القسم الفرنسي، وابنه الآن نجح في القسم الفرنسي الأول سيدي محمد، وابنه الثاني مولاي رشيد - أيضاً - نجح في القسم الفرنسي؛ القسم العربي تكاثر الناس عليه، لماذا؟ وجدت أن عندي سبعين طالباً، أنا تعودت في سوريا يعرف إخواني هنا كان عندنا - على الأقل - ثلاثة آلاف ضابط مسرح.. أو على وشك التسريح، كانوا ينتسبون إلى كلية الحقوق، لأنه إذا خرج الضابط ليعمل يقولون له: هذه إشارة ما تفيد شيئاً الآن.. الأستاذ علال الفاسي كان كريماً إلى أقصى حدود الكرم، فلما علم أن الفرنسيين يريدون أن يعتقلوني وعلم بقية الإخوان الضباط الأساتذة - أو الوزراء الشباب عند الملك الحسن الثاني - أخرجوني، فكيف أستطيع أن أنتقم من الفرنسيين؟ سبعون طالباً كنت معتاداً على الألوف، ويشهد الله أني كنت ألقي محاضرتي فلا أسمع همسة، الحمد لله (تعالى) هذا من فضل الله؛ عندئذٍ صرت أدرس نصف المادة بالفرنسي ونصفها بالعربي؛ فتسامع طلاب القسم الفرنسي بالموضوع فجاؤوا زرافات ووحداناً؛ عندئذٍ جاء أوفقير.. فأراد أن يضع حداً، فمضيت ومضيت وعاندت، ما خرجت من المغرب إلاَّ وعدد طلابي في سنة أولى ألف وخمسمائة طالب.. حمداً لله وشكراً.
- لماذا تركت المغرب؟ إن في كتفي شيئاً من غذاء المغرب، عيب عليَّ أن أقول لماذا تركت المغرب، كما أنه عيب عليَّ أن أقول لماذا فارقت الدكتور التويجري.
- منعطف آخر: ذهب وزير سوري من العهد الجديد - توفي إلى رحمة الله أحمد إسكندر - ذهب إلى المغرب فسمع طلابي هناك القدامى، من محام، ومن إداري، ومن عامل، ومن وزير، ومن نائب..، وذهب من بعدما تركت المغرب ببضعة عشر عاماً - صاروا كلهم في مراتب عليا - لأنني بدأت سنة 1964م، وهو ذهب إلى هناك سنة 1977/ 1978م؛ إذن هناك أربعة عشر عاماً، فعاد إلى المغرب يريد أن يرى مصطفى البارودي فلما اجتمعت به قال: أريد أن أنقل لك تحية من فلان وفلان وفلان، إلخ.. لأنك في المغرب فعلت كذا وكذا..، فلماذا تركت المغرب؟ قلت له: لا أقول؛ قال: هل تعود إلى المغرب؟ قلت لا أعود؛ ثم قلت أعيد نفسي بنفسي، إن لم أعد بنفسي فحرام عليَّ أن أقبل من يعيدني.
 
- عندما أخذوني إلى السجن في 30 مارس 1980م أخرجني أحمد من السجن (رحمه الله) توفي فيما بعد.. هذا منعطف - أيضاً - يدل على أن في الناس كراماً، وأن في منعطفات الحياة أناساً الله ييسر على يدهم أن يخفف عنك العذاب؛ ولكني أنا أخطأت حتى وقعت في السجن، أخطأت بحق أناس كرام، أخطأت بحق أناس كثيرين؛ أليس الله بعزيز ذي انتقام؟ ألا ينتقم لكرام الناس؟ ذنبي هذا أنا جنيت على نفسي.
- أحرقت سيارتي فتلقاني أخي حسان، ثم مضت الأيام وعدت إلى دمشق ثانيةً، فتلقاني معهد الإدارة العامة، ثم كانت يد بيضاء للدكتور محمد أحمد الرشيد وللدكتور أحمد عثمان التويجري، باستدعائي إلى كلية التربية وتوثقت علاقتي بأخي محمود النفوري - إذ ذاك أيضاً - فوجدتني أستشعر - لا نفاقاً ولا رياء - أن هذا وطني؛ نعم خرجت من الجامعة ولكن ظل هذا وطني، بدليل أني من عام 1989م وقد خرجت من جامعة الملك سعود - ظللت أتردد سنتين على الرياض، حتى وجدت أنه لا يجوز..
 
- الحمد لله أنا عندي رزق وفير، ولكن السنوات العجاف يوشكن أن يأكلن السمان، والسنبلات اليابسات قد تأكل السنبلات الخضر، فحسبت الحساب.. فوجدت أن الله أعطاني ما يمكنني أن أعيش معه (بحول الله تعالى) بقية العمر، وإلاَّ فإن ولدي (بحمد الله) طبيب عنده رزق وابنتي طبيبة عندها رزق، فلا أحتاج إلاَّ إلى الله (تعالى) وإن كرمني الناس فإن تكريمهم على رأسي وفي عنقي.. لكن لماذا أذل؟ أأذل وأخزى وأضل وأشقى، والله (تعالى) أراد للمؤمنين العزة؟ ألم يقل: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
- من جديد في جدة عند هذا الشهم أقول لكم - جميعاً -: قد أطلت عليكم فسامحوني.. والمسامح كريم، لأن بينكم من أسأت إليه وإلى أقربائه، وهم كانوا أعزة ومجاهدين، كان بينهم من عاش طول حياته مجاهداً وأبى أن يرتزق.. ومات فقيراً، لكنه خلف شرفاً عظيماً؛ أعتذر لكل من أسأت إليه هنا، وفي أي مكان، وأسأل الله (تعالى) كما زادني من نعمه حين شكرته، فأعادني إلى هذا الجو الَّذي هو أعلى جو في نظري، لأن مجالس العلم تحفها الملائكة، فأشكر الله (تعالى) وأشكركم - جميعاً - ثم أعيد الشكر لهذا الرجل الشهم الغيور؛ والسلام عليكم ورحمة الله.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1213  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 73 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.