(( كلمة الدكتور مصطفى الزرقاء ))
|
ثم أعطيت الكلمة لفضيلة الدكتور العلامة مصطفى الزرقاء فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم.. |
- إخواني الكرام، أخونا الكريم المحتفى به الأستاذ الدكتور: مصطفى البارودي، صديق كريم عزيز عرفته طالباً في كلية الحقوق بجامعة دمشق، ثم أستاذاً زميلاً في الكلية نفسها من ألمع الأساتذة الَّذين نعمت كلية الحقوق بوجودهم فيها، وكان من الأساتذة المرموقين. |
- عرفته طالباً أول الأمر، وكنت أرى فيه الألمعية والذكاء وحدة الفكر والنشاط..، كان في ذلك الوقت شعلة متقدة وهو طالب في الكلية، وكان يتميز بخلقه النبيل وصراحته وشجاعته في البحث والمناقشة؛ كان - دائماً - قد استولت عليه عاطفة نبيلة جداً.. جداً، كلما تذكر أخاه الدكتور مسلم الباوردي، ذلك الرجل الشهم، ذلك الرجل الَّذي كان مثالاً للوجدان المهني وهو طبيب بارز مرموق، والَّذي كان يتميز بشعوره الوطني النبيل وكان من مروءته البالغة أنه عندما اشتد القصف من القواعد الفرنسية المحتلة من مركز المزة في دمشق على دمشق، بالمدافع والحمم والنيران والرصاص..، ضربت معالمها التاريخية تلك التي أشاد شوقي (رحمه الله) شاعر العروبة وأمير الشعراء (رحمه الله) بما أصابها على يد الفرنسيين في ذلك الوقت وفي تلك المعركة بالذات في أواخر الحرب العالمية الأولى؛ كان من مروءة أخيه الدكتور مسلم (رحمه الله) كان تحت الرصاص والقذائف والحمم يطوف بصدريته البيضاء، يطوف الشوارع ويلتقط الجرحى من الأرض ويحملهم إلى المستشفى..، وفي خلال هذه الأعمال النبيلة منه أتته رصاصة وقع بها صريعاً فوق جريح كان يريد إنقاذه. |
- هذه الصورة ظلت ماثلة في فكر أخيه الكريم، وهو أخوه الأصغر الدكتور مصطفى البارودي، وكانت - دائماً - في كل مجلس إذا جاءت مناسبتها تظهر عليه أمارات الأسى والحزن، وقد تقمصته (والحمد لله) تلك المروءة، وتلك الأريحية، وذلك الشعور النبيل، وتلك الاستعدادات للتضحية في سبيل الواجب؛ دائماً كانت تتجلى على أخيه الأصغر الدكتور مصطفى البارودي، وكان في كل مناسبة تظهر عليه تلك العواطف التي تثير ذكرياته فيه هذه العاطفة النبيلة، وكأنه يتمثل قول متمم بن نميرة في رثاء أخيه مالك المعروف في الأدب العربي حينما يقول: - وقد كان هو بكاء على أخيه مالك كالخنساء على أخيها صخر - فكان يقول: |
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته |
لقبر ثوى بين القرى والدكادك؟ |
فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى |
ذروني فهذا كله قبر مالك |
|
|
- كان يتجلى عليه هذا الشعور كلما جاء ذكر أخيه مسلم (رحمه الله) رجل المروءة والشهامة والإقدام والتضحيات. |
|
- هذا كان يتجلى في خلقه النبيل؛ كان في تلك المرحلة - كما قلت - ألمعياً في دراسته مما أدى إلى تفوقه؛ ثم لما نجح أوفد لنيل الدكتوراة فنالها - أيضاً - بنجاح؛ ثم عاد إلينا زميلاً مدرِّساً في الكلية، ثم أستاذاً من ألمع الأساتذة الَّذين عرفناهم في هذه المرحلة، من أهم خصائصه: قدرته في القانون العام، وبشكل خاص اختصاصه في القانون الإداري والقضاء الإداري، وكتب فيه مؤلفات من أروع ما كتب؛ أبرز ما تجلى به - دون كثير من الأساتذة - أنه كان ولوعاً مغرماً بالعربية، كان إذا ظفر بكلمة أو بجملة فيها بلاغة وفيها دقة يتعشقها، وكان - دائماً - يحب أن يُصحح له إذا أخطأ في كلمة، كأنه يرى التصحيح لها غنيمة.. خلافاً للكثيرين الَّذين يكرهون أن يصحح لهم إذا غلطوا، هذه المزية في العربية جعلته من أبلغ الأساتذة الَّذين عرفناهم في بيانه التدريسي وفي كتابته التأليفية؛ تلك مزية حفظت له وتميز بها وعرف بها؛ وهناك ناحية أذكرها عنه بقدر ما يتسع له المقام، فإنه قد أوجب عليَّ أن لا أزيد عن خمس دقائق؛ لا يريد أن يُمدح، يعرف أنني إذا تحدثت عنه مدحته، وهو لا يريد أن يُمدح في وجهه كأنه يتقمص قول أبي العلاء في إحدى لزومياته: |
إذا مدحوني ساءني مدحهم |
وخلت أني في الثرى شخت |
|
|
- فهو لا يريد أن يمدح في وجهه، ولكنني لا بد أن أذكر الحقائق التي عرفتها فيه: |
- أذكر فيما أذكر - وهذا غالب ظني وهو موجود إن كان في ذاكرتي شيء من النسيان أو التلبيس فليصححه لي - أذكر أنه حينما وقعت الانتفاضة التي فصلت الوحدة بين مصر وسوريا، اختير هو في المرحلة التي سبقت الانتخابات الدستورية النيابية، اختير وزيراً في تلك الوزارة التي يرأسها الدكتور مأمون الكزبري وأعطي وزارة الإعلام - وهو الَّذي اختار كلمة "الإعلام" بدلاً من الإذاعة والتلفزيون - لولعه بالعربية وكراهته أن تذكر كلمة أجنبية مثل تلفزيون وما إلى ذلك..، وبين لهم أن كلمة الإعلام هي التي تؤدي جميع هذه الوظائف التي كان يقال لها وزارة الدعاية والإذاعة والتلفزيون؛ ووزارة المطبوعات، وما إلى ذلك..، فكل ذلك يتلخص فيما يقصد به الإعلام، أي نقل الأخبار والمعلومات والتثقيف، إذاً كلمة إعلام هي الكلمة الجامعة؛ وأذكر أنهم ولوه هذه الوزارة باسم وزارة الإعلام كما أراد؛ ومن هنا انطلقت هذه الكلمة التي عمت البلاد العربية، وأصبحت - دائماً - هي المفهومة وهي الجامعة لكل وسائل الإعلام. |
|
- تلك مزية أذكرها له وهي في نظري من أبرز المزايا، ونتيجة لولعه بالعربية التي أشدتُ بها في أنه أحبها محبة جمة، وهو - دائماً - ولوع بأن يكون له البيان الجيد واللغة الصحيحة في القواعد، وفي بنية الكلمة، وفي سائر ما يتصل بحسن البيان.. |
|
- الأستاذ الكريم يتمتع بمزايا من أبرزها الصراحة، ولكن لعل المبالغة في الصراحة - كما تعلمون - قد تجر على صاحبها كثيراً من المزعجات والمشكلات.. كنا نتمنى عليه في بعض المواقف أن يكون أقل صراحة وأقل صدعاً بالحق خوفاً عليه، ولكنه كان - دائماً - يأبى إلاَّ أن يكون صريحاً وإلاَّ أن يتجلى لديه إباء النفاق، وإباء المروءة، وإباء كل ما يخلّ برجولة الرجل الَّذي يريد أن يكون رجلاً بكل معنى الكلمة؛ هذه الناحية - إذا صحَّ أن نعدها فيه - شائبة تضره وإن كانت نافعة في ذاتها، فهو مبالغ في صراحته لعله - كما يقال - أكثر من اللازم، وهذا ما نقوله.. لأن الرجل قد لا يرضى أن يكون دون المثال الَّذي يريده لنفسه، ولو أصابه في سبيل ذلك ما أصابه. |
- هذه خلاصة، ولا أدري إذا كنت قد تجاوزت الدقائق الخمس التي فرضها عليَّ؟ وأرجو أن تسامحوني إذا تجاوزت ذلك؛ نحن نعتز - دائماً - بأخينا الدكتور مصطفى البارودي، الَّذي نعده من ألمع الشباب، وهو اليوم من ألمع الكهول، وسيكون - إن شاء الله - من ألمع الشيوخ.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|