شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأدب الحجازي والتاريخ (1)
تمهيد:
الأدب ميزان ثقافة الأمة، ودليل حياتها، وهو فن الحرية والجمال، يزدهر إذا تعهدته الفطر القويمة بوسائل الإنعاش، وأدب كل أمة صورة دقيقة لحياتها، ومقياس لتقدمها ورقيها؛ وكما أن الحياة تتقلب في أدوار مختلفة، وتحيط بها ملابسات متباينة، وتسير طبقاً لسنن الكون في النمو والارتقاء، والذبول والاضمحلال، فكذلك الأدب يزدهر بازدهار الحياة ويذبل بذبولها.
مرت على هذا الوطن العزيز أدوار مختلفة، كان يسير في كل دور منها طبق ما يحيط به من نزعات وما تكتنفه من ملابسات، متأثراً بالمبادئ المتنوعة التي كانت تتجدد بتجدد التقلبات السياسية وأحداثها التي اعتورته والتي كانت أشبه بكوكب دوار لا استقرار له ولا نهاية لدورانه.
فتلك الحياة المزعزعة؛ هي بلا شك حياة نفعية محضة، لا ميزان فيها لغير الأهواء، وهي خليقة بأن تنشئ العثرات في سبيل التفكير الحر والكفاءات الأدبية، فلا بدع إذا أخذ جمال هذا الوطن العزيز في الذبول ينتقل من سيئ إلى أسوأ، حتى أقفر من كل شيء، ولولا ما له من مكانة دينية لغدا بلقعاً وانقلب قاعاً صفصفاً.
بقي ذلك حتى دار الزمن دورته وتنفست الحياة من جديد، فنهض ليستعيد مجده الداثر وعزه المسلوب، ولكنه كان أشبه بالثمل يتخبط يمنة ويسرة ويخطئ طريقه في تلك الظلمة المطبقة حوله، وهو أحوج ما يكون إلى أيد مخلصة تدفعه إلى طريق النجاة والرشاد؛ ولكنه –ويا للأسف- لم يلق تلك النجدة التي ينشدها في أبنائه القلائل. هكذا كانت حياة هذا الوطن البائس، وهي نفسها أدوار أدبه. ولما كن القصد من وضع هذا السفر هو إعطاء صورة صادقة عن أدب الحجاز كان لزاماً أن ندرس الأدب الحجازي في جميع عصوره التاريخية، ونثبته هنا كما أيده التاريخ وسجلته حوادثه، وليس لنا من غرض نرمي إليه إلا إظهار الحقائق جلية واضحة، وإن كان في بعض هذه الحقائق ما يخجل ويؤلم.
في العصر الجاهلي:
إن مركز مكة الديني، ومركز مكة والطائف والمدينة التجاري كان لهما أعظم أثر في حياة أهل الحجاز الاجتماعية، وأن اختلاط أهل مكة والمدينة والطائف بصنوف من العرب مختلفي اللهجات واللغات في أيام المواسم الدينية والأدبية، وتنقلهم في المدن والأمصار المتمدنة كان لهما تأثير مباشر في تطور حياتهم الفكرية، فاتسعت هذه الحياة، وكون هذا الاتساع ألواناً جديدة من الثقافة البسيطة رحُب معها أفق حياتهم، واكتسبوا به مرونة مكنتهم من اقتباس ألفاظ وأساليب كان يقضي باقتباسها واصطناعها الاحتكاك والاشتراك في مؤثرات متشابهة مهدت لها المواسم الدينية والأدبية خير تمهيد. فلا غرو أن كان بروز الأدب الحجازي على غيره من الأدب العربي ظاهراً.
وتستطيع أن تلمس أثر ذلك التطور في سعي قريش لأن يكون عكاظ موسماً للأدب العربي ومعرضاً لمنتخبات أفكار العرب وثمرات عقولهم، ومنبراً لخطبائهم، وشعرائهم، فيه يتفاخرون، وفي ميدانه يتناشدون، وفي مضماره يتسابقون، ذلك المعرض العظيم الذي كان يقام للأدب العربي ونوابغ العرب، لا شك قد أفاد العرب عامة والحجاز وأهله خاصة بما هيأ لأدبهم من الظهور والرجحان على الأدب العربي كله، ولا شك أننا إذا استعرضنا الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا اليوم، نجد أكثره بلغة أهل الحجاز، وسواء كان للحجازيين أو لغيرهم، فإن تغلب لغة قريش على غيرها من اللغات العربية، معناه تغلب الأدب الحجازي على غيره من الآداب العربية في العصر الجاهلي، نعم إن قسماً من الأدب الجاهلي طعن في صحته بعض أعلام الأدب، ولكن قسماً ممتازاً منه ثبت أمام النقد، يقوم أقوى الأدلة على صحته بالروايات الثابتة، والمنطق السليم وما لنا نستدل بهذا وأمامنا كتاب الله؟ وحسبنا نزوله بلغة قريش دليلاً على ما تم لتلك اللغة من الغلبة والظفر في أحفل عصور الجاهلية، وقد قلنا أن غلبة اللغة تعني غلبة الأدب، وبالأحرى غلبة الحياة نفسها، وقد أجمع علماء اللغة على أن قريشاً أفصح العرب، وأن لغتهم أحفل اللغات بالمحاسن والقوة وأخلاها من مستبشع اللهجات، وما نحسبنا بعد في حاجة إلى أن نقول:
إن الأدب الحجازي في العصر الجاهلي كان جماع حضارة العرب الفكرية، وأنه بلغ من القوة والتفوق ما هيأ له القيادة والسيادة اللتين تجد أثرهما ماثلاً بين دفات الكتب وآثار ثقافة العرب وتأريخها الناصع.
في صدر الإسلام:
نزول القرآن خلق مادة جديدة للغة العربية، فوسع من دائرتها كثيراً وأكسبها طلاوة ورقة لم تكن من قبل، ثم انقسام القبائل إلى قسمين: قسم يناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم يناوئه - واعتمادها على الشعر، وقد كان وسيلة من وسائل الدفاع - خلقا روحاً جديدة في الشعر العربي، أضف إلى ذلك أن القوم أخذوا يشعرون بتطور عظيم في حياتهم، فكان طبيعياً أن يحيا الحجاز بدافع تلك المؤثرات حياة جديدة لها لونها الخاص بها، وكان لزاماً أن يصور لنا أدب ذلك العصر تلك الحياة مع ما يحيط بها، وأن شعر الشعراء المخضرمين يكشف لنا إلى حد بعيد حياة القوم يوم ذاك.
نعم إن الشعر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حيث المبنى جاهلياً إلا أنه تحلل من قيود الجاهلية وجفائها معنى، إذ العراك الديني الذي كان قائماً على قدم وساق يومذاك أدخل على الشعر معانٍ جديدة لم تك مألوفة، وإذا شئت فقل لم تك معروفة، ثم إن ما جاء به القرآن من متانة الأسلوب، وروعة المعاني، وجودة التراكيب، وسهولة الألفاظ، قد أحدث تأثيراً ظاهراً في اتجاه الأدب العربي، وبلد كالحجاز تدفعه أمثال هذه العوامل في عصر كان للأدب فيه أعلى منزلة لا جرم أن يتأثر به أبلغ تأثر، فلذلك حمي سوق الشعر إبان ظهور الرسالة، وبقي كذلك إلى أن أتم الله نعمته على المؤمنين، وعم الإسلام بلاد العرب، ثم اعترى سوقه الكساد لانصراف المسلمين إلى الحياة العملية من فتح وغزو، زد على ذلك أن بعض قوّاد المسلمين كانوا يرون أن الشعر يعيد إلى النفوس العصبية الجاهلية وهم قريبو عهد بها فلذلك كرهوا التمادي فيه، إلا أن سوق الخطابة في هذا العصر اتسعت، لأن الفتح والغزو كانا يستلزما ذلك، والخطابة في صدر الإسلام غيرها في الجاهلية إذ أن الإسلام والقرآن أضافا إليها مادة جديدة جعلتها أكثر متانة وأقوى تأثيراً، وأجود فناً، وأعذب أسلوباً، وأحسن وقعاً، وقد عرف في هذا العصر إلى جانب الخطب الدينية خطب سياسية أخذت تقوى وتنمو بتطور حياة القوم يومذاك. وإن كتب الأدب والتواريخ طافحة بالخطب وأخبار الخطباء، وكل ما نريد أن نثبته هنا هو أن الأدب الحجازي في هذا العصر كان على جانب عظيم من السمو وعلو المنزلة، وأنه امتاز على غيره من الأدب العربي بعوامل شتى تهيأت له ولم تتهيأ لغيره، وأن الشعر نشط في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أفقده الإقبال على الفتح ذلك النشاط وبعكسه الخطابة، فقد صارت إليها قيادة الفكر والسيطرة على الأهواء.
في العصر الأموي:
قلت إن القوم أخذوا يشعرون بتطور عظيم في حياتهم، وقد ظهر هذا التطور واضحاً في الحجاز في هذا العصر أكثر من أي عصر آخر، لأن السياسة مهدت لتلك الحياة من جهة، ولأن النفوس أخذت تصطبغ بحضارة الأمم المغلوبة من جهة أخرى، ولقد كان لسيل السبايا والرقيق الذي ملأ دور الحجازيين أقوى الأثر في طبع حياتهم بطابع جديد يختلف عن حياتهم الماضية التي ألفوها. وكان لزاماً أن يتطور الأدب بتطور حياتهم، وأن يتأثر بثقافة العناصر الجديدة التي دخلت فيه، ولكنه بالرغم من كل هذه المؤثرات فقد كان الأدب الحجازي يسير في لفظه وأسلوبه على سننه في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، أما في معانيه وأغراضه فقد خالفهما كل المخالفة بحكم تلك المؤثرات التي طبعت نفوس الحجازيين بطابعها الجديد، ثم إن الصدع الذي ظهر في صفوف الأمة العربية يومذاك ونشب على أثره النزاع بين هاشم والأمويين من أجل الملك، وكان من عوامله أن رفعت العصبة الجاهلية رأسها فانقسم العرب إلى شيع وأحزاب متعددة، وكان ظهور تلك العصبية في مثل ذلك الظرف أمرا طبيعياً إذ هم قريبو عهد به - أضف إلى ذلك أن السياسة خلقت لها جواً فسيحاً مثلت على مسرحه أدوارها - وكان لزاماً أن يظهر شعراء الفريقين أمام ذلك النزاع الشديد، وتلك العصبية المستفيضة ليدافع كل شاعر عن شيعته. ولقد استخدمت السياسة الشعر- أو إذا شئت فقل الأدب لأغراضها، فكان من نتيجته أن وجدت في الشعر حياة جديدة غير حياة عصر الخلفاء، وألقى على أساليبه ومعانيه ألواناً من الفتنة والسحر والتأثر، ولم يقتصر هذا على الشعر، بل إن الخطابة لم يك سوقها أقل نشاطاً، إذ قد أدت واجبها في ذلك المعترك الهائل على الوجه الأكمل، وإن مواقف عمرو بن العاص، وزياد بن أبيه، وابنه عبيد الله، وعبد الله بن الزبير، وأخيه مصعب، والحجاج بن يوسف الثقفي وغيرهم من خطباء أهل هذا العصر أكثر من أن تذكر وأبلغ من أن توصف، والذي يلاحظ أن السياسة طغت على الخطب الدينية في هذا العصر فجعلتها في حدود ضيقة جداً، وطبعتها بطابع خاص حتى لقد كادت تحدد عباراتها، كما يلاحظ أن الخطب السياسية كادت تكون على وتيرة واحدة أو إذا شئت فقل تخدم غرضاً واحداً، وهو الذب عن سياسة أصحاب الملك، والوعيد لمن يتحرك بالفساد ضدهم. وأنا لنجد صاحب العقد الفريد وأبا الفرج صاحب الأغاني يسهبان في وصف ذلك، ولا نشك مع كل هذا في أن سطوة الأمويين ضيقت على ألسنة خصومهم فأخذت رقعة الخطب السياسية ضد الأمويين تنكمش حتى تقلصت مع تقلص خصومهم فأصبحت بعد أن استتب لهم الأمر وقفاً عليهم وعلى دعاوتهم، وليس هذا مكان الإفاضة في هذا البحث، إذ الذي يعنينا من أدب هذا العصر الأدب الحجازي الذي يبحثه.
* * *
نشب النزاع على الخلافة، وانقسم المسلمون على أنفسهم فكان في الحجاز عبد الله بن الزبير، وفي العراق بنو هاشم، وفي الشام بنو أمية، وكان أغلب هذه الأقسام يتقدمها رجال كلهم من أهل الحجاز وصميمه، إلا أنهم كانوا يعملون للسياسة التي يوالونها ويؤيدونها، ولم تكن الجامعة التي تجمع القوم دينية محضة كما كانت في صدر الإسلام، بل إن العصبية القبلية قد أفسدت عليهم ذلك، وقد تطورت هذه العصبية القبيلية حتى صارت إقليمية، فشهد العرب عصبية حجازية وعصبية شامية، وإنا لنجد ابن يزيد الأزدي في كامله وابن عبد ربه في عقده ينقلان إلينا أقوال الهاشميين عن الحجازيين وأقوال الأمويين عن الشاميين، وكيف أن كلاً منهما يرى أن جماعته أحق بالأمر من الآخرين، وبالرغم من أن أغلب دعاة المتنازعين كانوا حجازيين وأن قومهم كانوا من مختلفي العناصر، إلا أن تلك العناصر كانت تتأثر بعصبية الإقليم الموجود فيه. وإنا لنجد الجاحظ في بيان ينقل لنا الخطب السياسية لدعاة المتنازعين وفيها ما يثبت نظريتنا.
قلنا إن ذلك النزاع وتلك العصبية قد أوجدت في الشعر حياة جديدة، وقد كان للحجازيين من ذلك قسط وافر، ولما هدأت الحال واستقر الأمر أخذت السياسة تلعب دوراً، وقد كان الأمويون يعرفون أنهم سلبوا الحجازيين (بنقل الخلافة) حقاً من حقوقهم، فكانوا موقنين أن قنبلة الخطر لا تزال كامنة في الحجاز والعراق، فحرموا عليهم المناصب الحكومية وأخذوا لقاء ذلك يبذلون لهم المال في سعة وبسطة قضت السياسة بأتباعها فأصبح من في الحجاز من المعارضين والمنازعين أهل ثراء وأبهة، ولقد فرضت عليهم السياسة الأموية حجراً سياسياً اشترته بهذا البذل وبذاك الإحسان الذي استرقتهم به، فكان أكثرهم لا يغادر الحجاز إلا بإذن خاص من دار الخلافة، وقد ذهب الأمر بالأمويين إلى أبعد من هذا فجعلوا الحجاز منفى سياسياً لهم، وصاحبا الأغاني والموشح يحدثاننا عن ذلك في توسع، فهذا الجو السياسي الذي حصر الحجازيين في أضيق الحدود، وحد مطامعهم وقيد حرية أفكارهم السياسية - سبب انغماسهم في الترف وإفراطهم فيه وانتهى الترف ببعضهم إلى العبث والمجون فمارسوه وغلوا فيه. وأنا لنجد الأصبهاني ينقل لنا من شعر العرجي والأحوص وغيرهما ما يصور لنا حياة أهل هذا القسم.
والحقيقة أن الحياة الحجازية انشطرت في هذا العصر إلى قسمين: قسم منها كان كما وصفنا حياة لهو وترف ومجون، وقسم آخر كان حياة علم وفقه ودين، والذي يعنينا الآن القسم الأول لأنه يمت بأدق الصلات إلى بحثنا، فقد كان الأدب -وإذا شئت فقل الشعر- هو الذي يصور حياة أهل هذا القسم وكان الشعر الحجازي في هذا العصر أرق الأشعار العربية حتى لقد قالوا: "شعر حجازي لو ضغطه برد الشام لاضمحل" وكان ابن عباس يقول: "الشعر علم العرب وديوانها فتعلموه وعليك بشعر الحجاز". وقد دخلت ضروب عديدة على فن الشعر لم يك متأثراً بها، أو إذا شئت فقل لم يك يعرفها، فظهر الشعر السياسي، والنقائض والشعر الغزلي، وظهور الشعر السياسي كان مع ظهور النزاع على الملك، وعلى أثره وتحت تأثير العصبية ظهرت النقائض، وما أن استقر الأمر لبني أمية، وفتحوا بسياستهم للحجاز حياة جديدة حتى طغى الشعر الغزلي فغمر غيره من ضروب الشعر الحجازي وملك قياد الأدب، ولقد كان حامل لوائه عمر بن أبي ربيعة. ويذهب الدكتور طه حسين (في حديث الأربعاء) إلى أن ابن أبي ربيعة زعيم الغزليين في الأدب العربي منذ وجد حتى الآن، وأسمعه يقول: "فعمر إذن زعيم الغزليين الأمويين جميعاً لا نستثني منهم أحداً، ولا فرق فيهم بين أهل البادية وأهل الحاضرة، بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا فنزعم أن عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزليين في الأدب العربي كله على اختلاف ظروفه، وتباين أطواره، منذ كان الشعر العربي حتى الآن".
ولقد كانت أغراض هذا الشعر الغزلي تختلف باختلاف الوسط والبيئة التي يقال فيها، فبينما نجد في شعر ابن أبي ربيعة حياة الدعابة واللهو نجد عليها مسحة من العفة تصور لنا الحياة المكية يومذاك، بخلاف الحياة الطائفية والمدنية فإنا نجد في شعر العرجي إباحة ومجوناً، وفي شعر الأحوص دعابة ولهواً، وكلاهما قد تجاوز الأدب المكشوف بمراحل، وهذا يرجع إلى أن حياة اللهو في الطائف والمدينة كانت غيرها في مكة، ولقد كان القوم يعدون سكان مكة من الأعراب. وأنك لتجد الطبري يحدثنا أن عبد الملك أرسل إلى خالد بن عبد الله كتاباً يقول فيه: "قبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال" ثم لمكة ميزة أخرى وهي وجود الكعبة فيها، وهذا يقضي بأن تحافظ على وقارها الديني ولو بعض المحافظة، ولذا فقد كانت حياة لهوها وعبثها أقل من حياة أخواتها الطائف والمدينة.
وشهد الحجاز في هذا العصر فن الغناء وانغمس فيه، وهنا يجب أن نقف لنسجل كلمات وجيزة عن الغناء في الحجاز لما له من الصلة العظيمة ببحثنا:
قضت سنة الفتح الإسلامي بانتقال الكثيرين من موالي الفرس والروم إلى الحجاز ناقلين إليه فنونهم وألواناً من حياتهم كان الغناء أكثرها فتنة، وأعمقها تأثيراً. ولما انتقلت الخلافة إلى الشام وفرغ أهل الحجاز من العمل، وأعدت لهم السياسة الأموية أسباب الترف انغمسوا في الغناء حتى صار فناً منظماً.
ولقد كانت مكة مهد هذا الفن الجميل في الإسلام، وسرعان ما انتقل منها إلى المدينة والطائف ومنهما إلى سائر الأقطار الإسلامية. ويحدثنا صاحب الأغاني أن ابن مسجح المكي هو أول من تلقى الألحان الرومية واتخذ منها صناعة في التلحين والوضع، إلى ما حذقه من الضرب على الآلات الفارسية حتى تهيأ له أن يجعل ما مارسه فناً عربياً له سماته العربية ومميزاته العربية. ولقد ازدهر الحجاز بالغناء في هذا العصر حتى وصل الأمر بالقوم إلى أن جعلوا له مدارس يدرس فيها. ذكر أبو الفرج أن جميلة المغنية كانت لها في المدينة مدرسة تعلم فيها الجواري فن الغناء، وذكر في مكان آخر أن بقعيقعان داراً يجتمع فيها مغنو البلدة، وذهب أمر الاعتناء بالغناء إلى أبعد من هذا الحد، فروى لنا صاحب الأغاني: أن سعيد بن سريح والغريض المغنيين، كانا يجتمعان بدار في طرف من أطراف مكة كل جمعة فيتناقضان الغناء ويرددانه، ويجتمع عندهما خلق كثير، ولقد شهد عقيق المدينة حفلات غناء لم يشهدها موضع في الحجاز، ولقد شهد خيف منى في أيام معبدها المقدس حفلات غناء زاهرة، ولم يك الطائف أقل حظاً من مكة والمدينة فطالما عقدت مجالس الغناء تحت ظلال كرومه وخمائل أزهاره، وطالما ترددت أصوات ابن سريح، ومسجح، ومعبد، وابن عائشة، وطويس، وغريض، وجميلة، وبثينة، وعزة الميلاد، وحبابة، وسلامة، وخليدة، وربيحة، وغيرهم من مغنيين ومغنيات الحجاز في فضائه. وبالطبع فإن مجالس الغناء كانت تتعدى حدودها بما تقتضيه من ألوان الأدب والظرف وإزجاء الفكاهة والمجون، وتندر الجلساء ومساجلاتهم الأدبية، وكتب الأدب - وأخص منها الأغاني، والعقد الفريد، وزهر الآداب، والكامل - مفعمة بأخبار ذلك.
ولم تكن هذه الحياة مقتصرة على طبقة العامة بل شملت الأشراف والأمراء والملوك. وإنا لنجد المبرد في كامله يقص علينا خبر بغض عثمان بن حيان أمير المدينة للغناء حتى ذهب به الأمر لإخراج المغنيين منها وأجلهم ثلاثاً، فتوسط ابن أبي عتيق لسلامة المغنية واحتال حتى أسمعه صوتها فقام من مجلسه وجلس بين يديها، وقال: "لا والله ما مثل هذه تخرج" فقال ابن عتيق: "لا تدع الناس يقولون أقر سلامة وأخرج غيرها" قال: "فدعوهم جميعاً". ويروي لنا الأصبهاني ما معناه "غنى طويس أبان بن عثمان بن عفان في إمارته حتى صفق أبان وقام من مجلسه واحتضن طويساً وقال: (يلومونني على طويس)". وإن أمر سعيد بن سجيح وما نمى عنه لعبد الملك بن مروان وتسييره إليه واحتيال ابن سجيح ليسمع صوته عبد الملك حتى أمنه ووصله وكتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد ماله عليه وعدم التعرض له بسوء ليس بخاف ولا بمستتر. ويحدثنا صاحب مروج الذهب أن أول خليفة شجع فن الغناء ودعى إليه يزيد بن معاوية.
ولقد بقى الغناء محصوراً في الحجاز إلى زمن الوليد بن يزيد، وفي زمنه انتقل من الحجاز إلى الأقاليم العربية، ويحدثنا ابن عبد ربه إن الوليد أرسل إلى المدينة فحملوا له المغنيين.
مما تقدم نعرف أية درجة بلغها الأدب الحجازي في هذا العصر، ونفهم جيداً ما دخل عليه من التحسين، وما طرأ عليه من أنواع طريفة أوجدتها حياة الحجاز الجديدة.
و لا يفوتنا أن نسجل هنا أن النساء الحجازيات كان لهن موقف مشرف في الأدب الحجازي في هذا العصر، فقد جاء في الأغاني: "إن النساء كن يتناشدن الشعر في المسجد فيتذاكرن الشعراء ويروين لهم" وفي موضع آخر "إن سلامة المغنية كانت تقول الشعر". وكل ما نريد أن نسجله في هذا الباب: إن الأديب الحجازي في هذا العصر بلغ أوج مجده وكان عاماً جميع الطبقات. ويقول الدكتور طه حسين في كتابه "الحياة الأدبية في جزيرة العرب" ما لفظه (فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعاً من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد) ولا يفوتنا أن ننبه القارئ إلى أن للسياسة يداً في هذا التطور فهي التي مهدت له ذلك بالأموال والحجر السياسي، وكل هذا لا يمنعنا من أن نقول: إن أول صدمة سياسية صدم بها الحجاز ترجع إلى هذا العصر إذ هو عصر انتقال السيادة والسلطة الحكومية من الحجاز إلى غيره.
في العصر العباسي الأول:
قامت الدعوة العباسية بالعراق معضدة بعناصر غير عربية كانت تنقم على الحكم الأموي تعصبه للعرب، وكانت نظرة المنصور إلى الأدب تختلف كثيراً عن نظرة الدولة الأموية، وكان في المدينة محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية يتوثب للثورة وقد فتح أبوابه للشعراء واتجهت أنظارهم إليه فأمعن في إكرامهم وأجزل لهم العطاء، فطار صيته واستفحل تأثيره. ولما كان الشعر وسيلة من وسائل الدفاع يوم ذاك عانى المنصور الأمرين في إخماد ثورته، ولقد كان عمل محمد بن عبد الله هذا درساً بليغاً للعباسيين اتجهت بسببه أنظار ولاتهم إلى استمالة الشعراء والأدباء، كما أن ثورة محمد بن عبد الله كانت سبباً في التضييق على الحجازيين بعد ذلك، وقد ساعد على هذا أن العناصر الأجنبية التي كانت تشد عضد العباسيين كانت سياستها ضد العرب، وكانت الحياة قد تطورت عن العصر الذي قبله وتأثرت بحياة الأمم المغلوبة تأثراً صبغ سياستها بصبغة جديدة كان من نتيجتها أن استمالت الحجازيين البارزين وحملتهم على استيطان العراق فكانوا يجدون من خصب العيش وحسن الوفادة ما حمل البقية على أن تولي وجهها شطر العراق. وكان امعان الخلفاء في اللهو والترف، والولع العظيم بالغناء داعياً أشهر المغنين، وأظرف الندماء إلى التحول من الحجاز إلى حيث المال والوجاهة والحرية. وحيثما كان المتاع واللذة، كان الأدب وفنونه، وكانت الحرية الشخصية وآثارها. زد على ذلك أن المدينة ومكة كانتا في أول العصر العباسي تضمان نفراً غير قليل من المغنين والمغنيات والمتأدبين والمتأدبات، وكان أغلبهم خليطاً من آباء عرب وأمهات أعجميات فكان طبيعياً أن تتغلب على هذا النفر وراثة الأمومة وتأثيراتها. فلما تحولت الخلافة إلى العراق وكانت قائمة بتعضيد عناصر غير عربية، وجد هذا النفر مجالاً للظهور والسمو والإثراء. وصاحب الأغاني قد حدثنا في سعة عن سياسة المهدي ابن المنصور في الحجاز وجده في استمالة الحجازيين إليه، ونقله خمسمائة من الأنصار إلى بغداد، كل هذا يعطينا دليلاً واضحاً على أن تحول دهاة الحجاز وأدبائه ومغنييه و مغنياته إلى بغداد، أثر كثيراً في الحركة الفنية وتطورها في الحجاز. ولما أمعنت الدولة العباسية في الترف وتحولت عصبيتها إلى عصبية فارسية أخذت الصلات الاجتماعية بين الدولة العباسية وبين بلاد العرب في الضعف، إن لم يكن في أواسط العصر العباسي الأول ففي نهايته، ولقد كان ما لمكة والمدينة من قداسة ومقام ديني سبباً في اكتسابهما بعض المميزات من عطف وعناية عبرت بهما السياسة عن رغباتها الخفية. وكان هذا العطف محصوراً في صلات أهل الحرمين بالغلال والنفقات حتى أصبحت نفقة أهل الحرمين في ميزانية الدولة العباسية من النفقات الضرورية. ولكن تلك النفقة كانت لا تكفي لسد الرمق، وكان طبيعياً أن يؤثر هذا في الحياة الحجازية. زد على ذلك أن الحجازيين الذين نزحوا إلى العراق حل محلهم سيل المجاورين من أمم شتى تتباين والحجازيين في الأخلاق والعادات واللغات، وهذا جعل الرجولة الحجازية تصطبغ بغير صبغتها الفطرية شأن كل الأمم في بدء ضعفها وانحلالها.
مما تقدم نفهم جيداً أن الأدب الحجازي كان حتى أواسط العصر العباسي الأول يؤدي واجبه على الوجه الأكمل، ولقد كان حظه من الشعر التعليمي، والمجون، والخمر، والزهد - وهي من فنون الشعر العربي التي ارتقت في هذا العصر - أعظم حظ، ثم أخذ الأدب الحجازي في التقهقر وأخذت الروح الأدبية تضعف رويداً رويداً متأثرة بتلك العوامل التي سردناها، فلم ينقض العصر العباسي الأول إلا والحركة الأدبية الحجازية قد اعتراها الشلل. وهذا ما حدا بالأصمعي وهو من متأخري أهل هذا العصر أن يقول: "أقمت بالمدينة زماناً ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاماً ينسبه إلى العرب فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته" وهو حكم شديد قاس فيه شيء من التحامل. وإذا عرفنا أن الأصمعي –كما يقول صاحب ضحى الإسلام– من المتشددين كثيراً، يقف عند النص اللغوي فلا يتعداه، ويكره القياس ويعارضه، إذا عرفنا هذا أدركنا مبلغ قسوة الأصمعي في حكمه.
نعم لقد أصيب الأدب الحجازي في هذا العصر بشيء من الضعف ولكنه لم يتدهور بالشكل الذي يصوره الأصمعي. وإنا لنجد الدكتور طه حسين يحدثنا في كتابه "الحياة الأدبية في جزيرة العرب" عن الأدب الحجازي في هذا العصر بما يخالف تقرير الأصمعي، إذ هو يقول: "فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الإنتاج الأدبي بمجرد أن تقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية، بل كان فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة؛ ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد تدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى، ولم تكن تدون في البادية، وإنما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين، ثم يذهب بها موت الرواة والحفاظ وتنثر في الصحراء كما تنتثر الرمال بتأثير الرياح. وليس هذا مكان مناقشة الأصمعي في رأيه ولكنها الحقيقة حدت بنا لهذا الاستدلال وذاك الإيضاح.
ولئن ضعفت الحركة الأدبية في هذا العصر في الحجاز فقد أينعت وأثمرت الحركة العلمية فيه، فقد ظهر في الحجاز مالك بن أنس، وأبو الوليد محمد الأزرقي، ومحمد بن اسحاق، والواقدي، وسفيان بن عيينة، وربيعة الرأي وغيرهم من عظماء رجال الدين والتاريخ. ولقد أعان على اتساع هذه الدائرة ما لمكة والمدينة من مركز ممتاز في الثقافة العلمية منذ الهجرة، ولكونهما مصدراً من أوثق المصادر في رواية المسائل الدينية، فلا غرابة إذا بقي الحجاز كعبة يحج إليها مريدو العلم ومنهلاً عذباً يرد إليه طلاب الدين وثقافته.
في العصر العباسي الثاني:
يبدأ العصر العباسي الثاني من سنة 219هـ حتى سقوط الدولة العباسية وانهيار ملكها. ويمتاز هذا العصر بإدخال العنصر التركي في تدبير أمور الدولة بدلاً عن العنصر الفارسي في العصر العباسي الأول وهذا قضى بانحلال أمر الدولة وتسرب الضعف إليها، فأخذ الحكام يستقلون بالبلاد التي يحكمونها حتى قامت دويلات عدة ليس هذا موضع الكلام عنها. وكانت طبيعة هذا النزاع السياسي تقضي بنشاط سوق الشعر من جديد فنشط واتسع، إلا أن الحجاز كان في معزل عن ذلك، لأن الحركة الأدبية كانت متسممة من أواخر العصر السابق، فلذلك كان الحجاز في هذا العصر نزر المادة في هذا الجانب.
زد على ذلك أن الثورات الداخلية في الحجاز أخذت في الظهور بين حين وآخر، وتعدد الدول الإسلامية كان يقضي على كل منها ببسط نفوذها على أرض الحرمين الشريفين لتدعيم مركزها السياسي، ثم في أواخر القرن الرابع بدأ حكم الأشراف المعروفين بالحسنيين، وعلى أثره تقلص الحكم العباسي عن الحجاز فأصبح يسمع الدعاء على منابر الحرمين مختلفاً مضطرباً، فحيناً للعباسيين، وطوراً للإخشيديين ومرة للأمويين، وأخرى لليمنيين.
وكانت هذه التلقبات بطبيعة الحال تسبقها حروب ومنازعات تراق فيها الدماء وتستباح بها الحرمات، ويعقبها شلل وفتور، هذه العوالم ساعدت على موت الحركة الأدبية الحجازية تماماً، فأصبحت لا ترى إلا قطعاً شعرية ضعيفة، تجدها مبعثرة في كتب التاريخ تبعد كل البعد عن الأدب وفنونه، ويكفينا دليلاً على موت الحركة الأدبية الحجازية موتاً حقيقياً أن عبد الملك الثعالبي النيسابوري - أحد أعلام الأدب العربي في عصره وصاحب الكتاب الأدبي القيم (يتيمة الدهر) والذي وضعه لبحث الأدب العربي واستقصائه في القرن الرابع وبعض القرن الخامس - لم يأت فيه بإشارة إلى الأدب الحجازي ولا إلى الأدباء الحجازيين، بالرغم من كونه أفرد لأغلب المدن فصولاً ولأكثر الشعراء أبواباً في يتيمته. والحق أن ليس الذنب ذنب النيسابوري، ولكن الحقيقة التي دعته إلى هذا الإغفال الممض. أما الناحية العلمية الدينية فكانت متحفظة ببعض الحياة. وكانت حركة التأليف موجودة إلا أنها بلغة تبعد كل البعد عن لغة الأدب العربي التي كانت شائعة في ذلك العصر في البلاد الإسلامية التي لم تصب بما أصيب به الحجاز.
في عصر القلاقل والفتن:
إن القلاقل والفتن لها أثرها المؤلم المبكي في حياة الأمة التي تمثل على مسرحها تلك الأدوار، وكما أن الأمة كلما أمعنت في الحضارة والرفاهية أخصبت في العلوم والفنون، واتسعت دائرة ثقافتها بقدر ما لديها من مؤهلات وما حولها من تشجيع وتعضيد. كذلك إذا زعزعت القلاقل والفتن كيانها لا تلبث أن تضيع كل ثروة علمية أو أدبية أو فنية كانت لديها بالأمس. ولا شك أن للسياسة صلة وثيقة بكل هذه العوامل والمؤثرات، وما كان لمكة والمدينة من قداسة في نظر العالم الإسلامي قضى بأن يكون الاتجاه إلى الاستيلاء عليهما أقوى وأعظم. أضف إلى ذلك أن هذا الوطن البائس مني في أواخر القرن السادس بحكم الأشراف المعروفين بالهواشم فكانوا (ضغثاً على إبالة) وكانت البلاد الحجازية واقعة في اضطراب لا مزيد عليه، وكثرت الثورات الداخلية، واتسعت شقة الخلاف في البيت الحاكم من الأشراف. ويحدثنا السنجاري أن حميضة بن أبي نمى قتل أخاه أبا الغيث بن أبي نمى وطبخ لحمه طعاماً لأخوته المتنازعين له في الإمارة، وأقام على رأس كل واحد منهم سيافين وأنذرهم أن من حرك رأسه كان جزاؤه الموت. ويحدثنا ابن بطوطة أن أمير المدينة كبش بن منصور قتل عمه مقبلاً وتوضأ بدمه. وأن أبناء مقبل تمكنوا من أخذ الثأر فقتلوا كبشاً ولعقوا دمه. فتلك الوحشية المتناهية، وهاتيك النار المتأججة كانتا من أقوى الأسباب التي أتت على البقية الباقية - إذا فرض وجود بقية - من الحركة الأدبية الحجازية، كما قضت بأن يتسرب الداء إلى الحركة العلمية، فلم يحل القرن الثامن حتى ضعفت الثقافة العلمية ضعفاً محزناً. نعرف هذا من رحلة ابن بطوطة فإنه كان شديد العناية في رحلته بتدوين أخبار أهل العلم والأدب والفن، فلما أتى على ذكر الحجازيين لم يذكر لنا إلا بضعة عشر شخصاً من العلماء في مكة والمدينة وهما أعظم المدن الحجازية علماً وأدباً، أما الأدباء فلم يحدثنا عنهم بشيء. وأنا لم نجد عنواناً ينطبق على هذا العصر إلا عنوان "القلاقل والفتن". نعم أن العصر الذي بعده كان لا يقل عنه اضطراباً إلا أن ذلك كان تحت رعاية حكومة مسؤولة. فلذلك ولغيره من الأسباب فصلناه عن العصر الذي بعده. والحقيقة أن هذه الحالة لم تك مقتصرة على الحجاز فقط بل تناولت كافة البلاد العربية، فقد دالت في هذا العصر دول عديدة كانت تشجع الأدب، وتروج سوقه، وإن نهر دجلة وما قذف فيه، وبغداد وما مثل فيها، والأندلس وما حل بها، كل ذلك قضى على الأدب العربي فأصبح هشيماً تذروه الرياح إلا بقية منه غمر تأثيرها الشام ومصر، فكانت يد الله في استبقائها حيناً حتى اجتاحها المصاب في عهد التتريك العثماني.
في عصر الدولة العثمانية:
في أوائل القرن العاشر بسطت الدولة العثمانية نفوذها على الحجاز فكان هذا العصر في أول أمره عصر رفاهية ورغد لم يلبث أن قلب الدهر له ظهر المجن، وكان أشد وطأة على الحجاز فماتت الحركة العلمية واصطبغت النفوس بالنزعة التركية اصطباغاً كادت تنقطع معه كل صلاتها بالعربية من جميع نواحيها، وقد اتخذت الدولة العثمانية من نشوب الثورات الداخلية بين الأشراف واقتتالهم على الإمارة سبباً في جعل إدارة الأمور الحكومية على مختلف أنواعها في أيدي الأتراك، ثم بسطت يدها إلى اجتذاب العلماء وأشباههم، وكل من يحتمل أن يتحرك ضدها، فكان ذلك قضاء على حرية الفكر. انطلقت على أثره أيدي المفسدين وألسنة الكائدين. وقد كان من صالح الدولة العثمانية أن يحتدم النزاع في البلاد ليشتغل أهلها بأحقادهم وحفائظهم عنها وعن الملك، وإلا فلم يك يعجزها الحزم في القضاء على هذا النزاع لو شاءت، ثم ليست هي من الغباء بحيث تتأثر المضابط التي كانت ترفع إليها من الحجازيين في اختيار الحكم من الأشراف، ولكن الحقيقة أن سياسة الدولة العثمانية لا تفسر في رأيي إلا بأنها كانت تود اذكاء النار في هذا الوطن، يؤيد هذا أن العداء بين العرب والأتراك قديم، إذ هو يمت بالصلة الوثيقة إلى بدء بسط النفوذ التركي على الدولة العباسية من العصر العباسي الثاني، وكتب التواريخ ملأى بالشواهد والأدلة. هذه العوامل وغيرها جعلت هذا العصر من أسوأ عصور الحجاز، فتحولت الأفكار واتجهت اتجاهات مختلفة واصطبغت النفسيات بشتى الألوان والأهواء. ولما كان بحثنا هذا مقتصراً على الحركة الأدبية دون غيرها رأينا بحث هذه الحركة في هذا العصر باعتبار القرون.
في القرن العاشر:
لكل جديد لمعة، وهذا في كل شيء، فالدولة العثمانية لم تكد تبسط نفوذها على الحجاز حتى أخذت في استمالة الحجازيين، شأن الدولة الفاتحة، فخصصت التخصيصات ورتبت الرواتب فكان لهذا العطف الديني في ظاهره، السياسي في باطنه، تأثير قوي في خلق الإعجاب بالدولة العثمانية والتقرب منها؛ فحشد الحجازيون الرحال إلى البلاد الرومية وكان العلماء في مقدمة الجميع.. وقد كان معين الأدب الحجازي الصحيح ناضباً، وكانت الحركة العلمية مشرفة على الموت لولا وجود بعض العلماء من آل ظهيرة، وآل الطبري والقطبي، فقد سدوا ثغرة الحاجة إلى العلم والفقه في أضيق الحدود.
نعم كان في هذا القرن من ينظم الشعر ويحرر الرسائل، ولكنه شعر الضعف والانحلال، وكتابة العقم والفساد ويظهر أن العناية التي كان يجدها الحجازيون من دار الخلافة العثمانية، والمصبوغة بالصبغة السياسية قد أثرت في العقلية الحجازية حتى أننا نجد القطبي وقد قالوا عنه: "إنه من عظماء علماء مكة" يصف قصيدة له في كتابه (الإعلام بأعلام بيت الله الحرام) فيقول عنها: "وكنت صدرت ذلك التاريخ (البرق اليماني) بقصيدة طنانة من نظمي الطنان، سارت بها الركبان، وتلقتها بالقبول أدباء علماء البلدان. إلى أن يقول: يعد كل بيت منها بديوان، وتسحب كل كلمة فيها أذيال البلاغة على سحبان "فإذا كانت هذه عقلية العالم المثقف فما هي عقلية العامي الجاهل؟ هذا وأمثاله كثير. وقد غص بأمثاله تاريخ القطبي وكتاب الأرج المسكي، وللاستدلال على انحطاط أدب هذا القرن نذكر مطلع قصيدة القطبي السالفة الوصف:
لك الحمد يا مولاي في السر والجهر
على غرة الإسلام والفتح والنصر
كذا فليكن فتح البلاد إذا سعت
به الهمم العليا إلى شرف الذكر
ونظم ذلك العصر يكاد يكون من هذا النمط الضعيف. وقد ذكر السنجاري في تاريخه بعض قطع شعرية وأغلبها تدور حول المدح والرثاء، ولم أعثر على بحوث واسعة أستطيع أن أدلل بها غير ما تقدم، والذي يلاحظ أن القلاقل والفتن في أواخر هذا القرن قلت في الحجاز فكان لهذا بعض الأثر في القرن الذي يليه.
في القرن الحادي عشر:
لقد كفانا السيد علي صدر الدين المدني البحث عن أدب هذا القرن فذكر في كتابه "سلافة العصر" طائفة من الأدباء الحجازيين وسجل فيه قسماً من أدبهم، والمتصفح للقسم الحجازي يدرك أن هناك حركة أدبية بدأت تتكون. وحياة جديدة أخذت تداخل النفوس الحجازية، وبالرغم من أن فنون الشعر التي وردت في كتاب سلافة العصر كانت متنوعة إلا أنها لم تكن عليها الطلاوة والرقة التي يتطلبهما الفن وروعته. وكما رأينا قسماً من نظم أهل هذا القرن رأينا قسماً من نثره، كانت عادة السجع المتكلف الممقوت تذهب بما في بعضه من معان رقيقة.
والحقيقة أن الأدب الحجازي بحالته التي وصفناها قد أخذ حظه في حياة هذا القرن بين ألوان الأدب العربي، إذ أن كتابه سلافة العصر كما ذكر فيه الأدب الحجازي، ذكر فيه غيره من الأدب العربي في أكثر البلاد العربية، وهو لا يقل عنها جودة وحسناً، وقد تكون إشادة هذا المؤلف بالأدب الحجازي تعصباً وطنياً، وقد تكون حقيقة وليس هنا محل النقد والتحليل، ما دام أن القسم الحجازي نفسه لم يترك في نفسنا أثراً من آثار الأدب الحي. وكل ما يمكن أن نقوله عن الأدب الحجازي في هذا القرن إنه نظم وأحكام للقوافي ورصف للجمل.
وأراني ميالاً إلى اعتقاد أن أسباب التحسين التي طرأت على الحياة الحجازية في هذا القرن كانت نتيجة هدوء الحالة في الحجاز. وقد تكون هناك أسباب أخرى لم أهتد إليها إلا أن السبب الأول في رأيي من أظهر الأسباب وأبرزها.
في القرن الثاني عشر:
لم يبدأ هذا القرن حتى بدأت الفتن في الحجاز، فكان في هرج ومرج وحروب قائمة. ومخجل أن نقول أن الأشراف كانوا يمثلون أدوارها، وأن الدولة العثمانية كانت في معزل عن ذلك كأن الأمر لا يعنيها، سياسة أقل ما يقال عنها خرقاء، ووقع هذا الوطن العزيز في فوضى متناهية. فقاسى من أنواع الظلم، وطرق الإرهاق أصنافاً وألواناً تدمي القلوب، وتفتت الأكباد، وإذا عرفنا أنه تقلب على منصب الحكم في الحجاز في هذا القرن ثلاثة وثلاثون حاكماً وأن أغلبهم لم يتم له الحكم إلا بحد السيف، إذا عرفنا هذا، أدركنا حال الوطن البائس في هذا القرن، وفهمنا ما ترمي إليه سياسة دار الخلافة، زد على ذلك أن المناصب في الحجاز كانت تستند إلى رجال من الأتراك، وأنه صدر فرمان –كما يقولون– بأن تكون اللغة في المخاطبات الرسمية في الحجاز هي اللغة التركية، وعند ذلك تدهورت اللغة العربية في الحجاز تدهوراً مشيناً، وحذق اللغة التركية عامة الحجازيين حتى رأينا المؤلفات الحجازية –وهي لا تتجاوز أصابع اليد– مشحونة بألفاظ تركية غلب على اللسان استعمالها. فبلاد هذه حالها وأمة هذه محنتها، ولغة هذه مصيبتها، لا بِدْعَ أن تشل حركتها الأدبية، وتذبل حياتها الاجتماعية فينهار البناء الذي وضعت أسسه في القرن الماضي إن عد ذلك من الأسس.
في القرن الثالث عشر:
كانت الدولة العثمانية تنظر بقلق شديد إلى ظهور آل سعود في نجد وكانت ترقب فتوحاتهم وتوسع ملكهم عن كثب، فلم تكد تراهم قد اجتازوا حوران والكرك، ووقفوا منتصرين على أبواب الشام وفلسطين، واستولوا على مكة والمدينة وعموم مدن الحجاز وعسير وأصبحت الدرعية - كما يقول الريحاني - محط رجال العرب من الأقطار كلها، لم تكد ترى ذلك حتى هلع قلبها من الخوف وأحست بأن آل سعود خطر على غطرستهم وحكمهم، فأخذوا يحاربونهم بذات سلاحهم. قام آل سعود على الدعوة الدينية، وحاربهم أعداؤهم عن طريق الدين أيضاً، وقد كان الأشراف هم الوحيدين الذين ينقلون للعالم أخبارهم فكانوا يكيفونها على أهوائهم ويصبغونها بصبغة تخدم سياستهم إلى حد بعيد. وكان الحجازيون يؤمنون أقوى الإيمان بكلام الأشراف، ويقدسونهم أعظم تقديس رغم غطرستهم وعظمتهم وامتهانهم لهم - تلك الأسباب والتهويشات قضت بنفور الناس منهم.
وإذا فهمنا أن الغزوات التي دارت بين أشراف مكة وبين آل سعود كانت ستاً وخمسين غزوة، وأن النزاع كان قائماً على قدم وساق بين الأشراف أنفسهم، وإن الحجاز صار في النهاية معسكراً لحرب محمد علي باشا مع الوهابية، إذا فهمنا هذا ولاحظنا الملابسات والظروف التي تحيط دائماً بأمثال هذه الأهوال أدركنا أن موت الحركة الأدبية في هذا العصر أمر محقق الوقوع وأسبابه قاهرة.
والحقيقة التي يجب أن تسجل هي أن الأدب الحجازي في هذا القرن مات تماماً، ولكي ندرك مبلغ التدهور الأدبي الذي كانت نتيجة هذه الأسباب نحيل القارئ إلى كتاب الآداب العربية في القرن التاسع عشر. ويكفي أن صاحب هذا المؤلف بحث الآداب العربية بجميع أنواعها في جميع أنحاء المعمورة، وبحث أدب الأعلام الذين وجدوا في هذا العصر بحث المستقصى الدارس، فلم يذكر في الحجاز إلا أحمد بن زيني دحلان، والمعروف عن الدحلان أنه كان عالماً دينياً يتأثر بسياسة الأشراف ويخدم أغراضهم ومطامعهم .
في أواخر الدولة العثمانية:
لم يمض إلا القليل من القرن الرابع عشر حتى أعلن الدستور العثماني وكانت فكرة إنشاء إمبراطورية تركية قد جد جدها وأخذ دعاتها يعملون، فكانت خطتهم في هذا البرنامج الجديد إدماج كل القوميات الإسلامية وتحويلها إلى قومية تركية. وكانت القومية العربية إحدى القوميات التي دخلت ذلك المعمل، ومن هنا قوى أمر التتريك واشتد اضطهاد العثمانيين للعرب وعلى أثر ذلك ظهرت فكرة إنشاء إمبراطورية عربية تضم أجزاء بلاد العرب، وهذا التغيير الذي حدث في البلاد العربية، كان للحجاز نصيب منه، إلا أن الحجاز كان قد اصطبغ بالصبغة التركية أكثر من غيره من البلاد العربية، فكانت اللغة تركية، والزي تركياً، ومع ذلك فقد اتجهت النفوس إلى طلب حياة جديدة غير حياتها الأولى متأثرة بما تأثر به العرب، وقد كان رجالات العرب يسعون في إنشاء إمبراطورية عربية قاعدة حكمها الشام، ثم لم تلبث أن اتجهت الأفكار إلى اتخاذ الحجاز قاعدة هذه الإمبراطورية لعوامل سياسية، فأثار هذا الاتجاه حماس الحجازيين وشعورهم، ولكن ثمرة هذا الحماس والشعور لم تظهر إلا بعد إعلان نهضة الحسين بكثير.
في عصر الملك حسين:
إن عصر الملك حسين كان عصر حياة جديدة للحجاز وأهل الحجاز، فالاتجاه الذي حدث في النفوس الحجازية بعد إعلان الدستور العثماني ونهضة الحسين، وما عقبهما من عوامل، قد طبعا الحجاز بطابع النشاط، وكان هذا النشاط بشير تطور لولا سياسة الضغط والإخماد التي اتبعها الملك حسين ضد التعليم والحياة. وبالرغم من ذلك ومما لقيه الشباب المتأدب في هذا العصر، من كم للأفواه وحجر على الحريات فقد كان لسعة العيش، وتوفر الرخاء ونشاط حركة التعليم في المدارس الأهلية والأميرية الأثر الحسن في التكوين والتأسيس، أي أن النهضة الفكرية الراهنة إنما هي ثمرة الجهاد السياسي والتعليمي في عصر الحسين.
في العصر الحاضر:
لم يستدبر الحجاز عصر الحسين ويستقبل العصر الحاضر، إلا وكانت قلوب الشبيبة المتأدبة تتأجج ناراً لم يندلع لهيبها ويتأجج أوارها، فكانت أفكارها تظهر كلما سنحت لها الفرصة بذلك، وأول ما ظهر ت في كتاب أدب الحجاز ثم في المعرض، وبصورة أوسع على صفحات صوت الحجاز في بعض أدوارها.
ومما ساعد على انتعاش الحركة الأدبية وتقدمها في هذا العصر رفع بعض الحواجز التي كانت مفروضة في العصر السابق، وقد تدرجت الأيام في الحركة الأدبية - شأن كل الأمم - حتى وصلت إلى الشكل الحاضر الذي يراه القارئ ماثلاً في هذا الكتاب. ولا نريد أن نعلق عليه بشيء تاركين الكلام عليه لواضع المقدمة الأستاذ الكبير محمد حسين هيكل ليوفي الموضوع حقه، ونؤمل أن تتقدم الأيام بالأدب الحجازي فيستعيد ما كان له من مقام ممتاز، وليس ذلك على الله ثم على أولي الأمر ببعيد.
مكة: محمد سعيد عبد المقصود خوجه
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2521  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج