(20) |
يا من شاف الولد الضائع |
وكذلك.. فإنني لن أنسى ما حييت ليلتنا الأخيرة الحلوة في الدار.. وفوق قمة الجبل.. فإننا بعودتنا بعد ذلك اليوم الشعري ببستان الشيخ عوده وجدنا الجدابين وجيرتهما ـ بما فيهم مزنة صاحبة القصة الموؤدة.. وقد لبثوا في انتظار عودتنا ليفاجئونا بأكلة طريفة، وظريفة.. أرى تسجيلها رغم مجافاة الذوق العصري اليوم لسماعها حديثاً غير جائز.. أو لقبولها واقعاً غير جائز الحدوث في دنيا الأكلات.. إنها أكلة الجراد المشوي.. |
وتستدعيني الأمانة التاريخية ـ كما يقول بعضهم ـ أن أقوم باستطرادة قصيرة من استطراداتي المألوفة هنا ـ والمشروطة على القارئ من بداية الأمر.. فقد كان الناس قديماً في بلادنا وفي أيام الأمطار خاصة.. يأكلون الجراد مشوياً.. أو مقلياً.. تتولى ربات البيوت شيه أو قليه بالسمن البري قلياً فنياً خاصاً.. ليوضع بعد ذلك في أطباق ـ صحون أو تباسي صغيرة ـ تحف بها أحقاق الدقة المكوّنة من الفلفل الأسود والكمون والملح والقليل من الحبق أو النعناع ـ ليبتدئ الطاعمون تناوله.. حبه بحبه.. في تلمظ ولذة وسباق.. تماماً كما هو الحال بالنسبة لآكلي الضفادع اليوم في أرقى البلدان الأوروبية.. |
وربما كان أكلنا للجراد نوعاً من محاربته.. سلاحاً جمع بين الأقتيات به.. والقضاء عليه.. كما أننا بتناوله إنما نتناول وجبة مركّزة من المزروعات خضراوات وفواكه.. أما اليوم فلن يمدّ إنسان يده إليه بعد أن أصبح مسموماً بما يرشّ عليه من هذه المبيدات السامة له.. ولعلّ بعض سكان البوادي في أي صقع صحراوي ما يزالون مواظبين على عادة بادت.. غذاء ميسوراً في بعض الحالات يعز فيها الغذاء الميسور.. لتمتد العادة بحيزها الضيق تخليداً لقانون الوراثة المتداول.. والدائم.. وبعد.. فلقد بتنا ليلتنا ـ بعد أكلة الجراد ـ على أهبة السفر.. في جو حالم شاعر.. راقص.. تحلو أوقاته الأخيرة حلاوة الثمالة تختصر اللذة السابقة كلها في قطره.. |
وفي فجر اليوم التالي.. ناعساً في عيون الراحلين والمودعين.. خافقاً باضطراب وعنف في قلب يافع حساس سأل والده الطيب يوماً ما أن يقعد ما قصد ليرى ما يرى ـ ابتدأ الركب من الوالد ومني ومن الجدابين أشباحاً أربعة يتجه لطريقه في تمهل.. وكلال.. وتلفت معبّر كان إنما هو الذي عناه القائل: |
وتلفتت عيني.. فمذ خفيت |
عني الطلول.. تلفت القلب |
|
ولقد كانت تلك لي بالذات حالتي وحقيقة مشاعري.. نحو ما تركت.. مشدوداً إليه.. أسير بخطى ثقيلة.. وأنا أتمثل فعلاً.. لا تصوراً.. بقول الشاعر: |
وسرت وسيري خطوة.. والتفاتة |
إلى فائت مني أرجى ارتجاعه |
|
وإني لأحس أن الجبل قد أصبح جزءاً من روحي.. بهامته المرتفعة.. بوديانه المنبسطة.. بكل جزئياته ومن وما فيه. |
ورجوعاً إلى أسلوبنا الحر غير الملتزم في الحكاية عن الجبل الذي صار سهلاً. أرجو أن أطوي تفاصيل بقية الرحلة البسيطة المتواضعة قضينا أوقاتها بين الوديان الأخرى مروراً بها وبمدينة الطائف ذاتها إقامة.. لأعود فجر يوم رائق إلى هامة الجبل تمهيداً للعودة.. |
وفي نفسي الآن حنين لأن نقص بقية الرحلة إشباعاً لنهم ـ وإرواء لغليل قديم ـ حديث ـ لولا أنني في حكايتي هذه إنما استهدف الجبل وحده ـ نقطة ارتكاز ـ ودوران ـ وبداية للرواية وختاماً لها، دون شريك له ناء عنه، محافظة على السر بيني وبينه ـ ووفاء له بما وعدته في مدى سحيق غابر أن أسجل عنه أثره في نفسي. |
ويطل علينا يوم ضاحك.. حين أتيناه في أعقاب رحلتنا البعيدة عنه.. بمقياس المسافة والأماكن نمشي الهوينا حيناً.. ونستحث الحمير أحياناً في الصباح الباسم.. بطلوع الشمس الذهبية الأردية والألوان. |
ولا زلت أذكر الإشارة الصادرة للركب من الجدابي الكبير وقد وقفنا جميعاً فوق قمة الجبل تمهيداً للانحدار إلى قلبه.. فقد أومأ إلينا.. أن قفوا.. لتروا في السماء البعيدة من الأفق النائي هذه الظلة الكثيفة.. مفسِّراً لنا إياها.. إنها الندى فوق البحر وعلى صدر مدينتكم ـ جدّة ـ أم البحر.. والنافذة المطلّة على العالم الخارجي تصدر منها وتعود إليها هذه البيوت المائية التي تسمونها ـ البوابير! تحمل لكم ولنا ـ كما قلت أيها الورع الصغير مشيراً إلى ـ مع الخير والزاد ـ الخبر.. والصحيفة والكتاب ميرة للفكرة.. يرتقبها القارئ منكم على أحر من الجمر. |
وكنت فعلاً قد حدثت الجدابين وسواهما بالوادي ضمن ما تحدّثت به وعنه ـ أنني وزملائي أبناء مدرسة الفلاح بجدة وأساتذتهم كنا نرتقب تلك الجرائد والكتب والروايات التي أحمل قسماً منها وقرأت بعض ما فيها.. بلهفة وشوق.. وظمأ.. شأننا في ذلك شأن الأساتيذ والتلاميذ والقراء في بقية أمهات الحواضر والبوادي من أبناء هذه المملكة العربية السعودية.. وبالأخص في الحجاز.. آنذاك.. |
فقد كنا والحق يقال نعيش تلك الأيام في منطقة فراغ داخلي غير منكور حتى لقد بلغ من هول ذلك الفراغ القاتل أن كنا نستعير الشعور.. ونستلف الأحاسيس من جيراننا.. فقد كان بين البلد الواحد الوفدي.. والحر الدستوري.. مثلاً والحليفي.. والنازي فيما بعد.. |
ولما كانت البواخر وحدها صلة الوصل بين الداخل الفارغ والخارج المكتظ فإن الناس كلهم كانوا ينتظرون قدومها بفارغ الصبر لذلك ولأسباب أخرى كثيرة أهمها الأرزاق ـ والأقمشة ـ والبضائع بأشكالها وأنواعها من الحقير التافه إلى الجليل الضروري الهام، واستدعت تلك الحاجة العلم الدقيق بمواعيد وصولها يحددها لهم ولطبقات التجار والجلابة والمتكسبين صوت المنادي في أسواق جدة وشوارعها الكبير.. وهو الشيخ صديق حلواني أشهر المنادين وأقدمهم.. وأرقاهم سمعة بصوته الجهوري الطليق.. ذي الأنغام المناسبة لحيثية كل باخرة.. ولمبلغ كل وكالة لها.. ينتقل من سوق لآخر، ومن برحة لسواها صائحاً بين الحشود الملتفة حوله من الكبار والشباب والأطفال المنطلقين وراءه وحيثما سار قائلاً باسم شركة البواخر المختصة بيوم النداء: |
ياخوانا ـ يا أهل البلد.. الحاضر يعلم الغائب بوسطة خديوية.. الباخرة كذا.. تصل إلى جدة يوم كذا.. وعليها كذا.. فمن كان عنده صر.. أو بريد.. أو له بضاعة أو.. أو.. فليراجع بيت هنكى.. وإن كانت الباخرة هندية من الهند وإليها فليراجع بيت زينل.. وإن كانت عداهما فليراجع الوكيل.. فلان الفلاني والحاضر يعلم الغائب.. |
ولا غرابة في الأمر.. فلقد كان المنادي هو الصحيفة.. والراديو.. والتلفزيون اليوم.. فهو واسطة الإعلام الوحيدة ـ فيما سلف ـ وفي ثبوت رؤية رمضان، وليلة العيد، وسوى ذلك من الحوادث العامة والخاصة حتى الأطفال الصغار الذين يضيعون عن بيوتهم لهم نداؤهم الخاص: يا مين شاف الولد الضائع. |
|