شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إيكِيلْيَا
مع الأسف الشديد الذي لا يؤسف على مثله إلا في النادر.. والنادر لا حكم له.. إن أساطيرنا الشعبية الخيالية لا تتعدى في مجموعها أصابع اليد الواحدة.. أو على الأكثر أصابع اليد اليمنى وخمس أصابع أختها اليسرى.. مما يدل على أننا واقعيون جداً.. وإننا لا نؤمن إلا بما تلمسه اليد.. ويقبضه الكف من كل ما يعتبر حقائق ملموسة.. أو ماديات محسوسة.. معدودة.. مشمومة.. ممضوغة.. أو مزلوطة بسهولة.. مما دعا بعض الخواجات الذين كانوا في مستهل أو منتصف القرن الرابع عشر الهجري يقيمون في مدينة جدة إقامة دائمة يتهموننا بضيق الخيال وسعة البطن!!
وأذكر من بعض هؤلاء الخواجات الخواجه الإغريقي إيكيليا وأخاه يني وعائلته أصحاب البقالة المشهورة والتي كان حانوتها الكبير يقع على ناصية شارع قابل مما يلي السوق الكبير.. فقد كان ايكيليا عميد هذه العائلة ينعي دائماً على أهالي جدة.. عندما يشترون منه الجبنة.. والطرشي.. والزيتون اليوناني.. والباس.. طرما.. إنه ليست لديهم أساطير شعبية يقصّونها عليه مقابل أقاصيصه الأسطورية التي لا تنتهي عن سكان الأولمب وشخصيات الميثولوجيا الإغريقية الخرافية.. والتي لم تخل منها الألياذة.. والأوديسا.. وكلها ((بولى أوريا)) يعني جداً عال!!
ولقد ظل ايكيليا الكبير كثير التشنيع علينا نحن أهالي جدة لخلو تاريخنا الشعبي من أساطيره.. مما دفعني وأنا لا زلت في مدرسة الفلاح طالباً فضل الله. أن أتحداه ذات يوم في عقر حانوته.. إذ قد ذهبت إليه ذات عصر قريب من المغرب باسم شرائي جبنة فلامنكا بقرشين.. وبعد قيامه بقرطستها.. نظرت إليه وجهاً لوجه.. وصحت فيه بصوت عالي ((إن كنك رجال.. وخواجه.. صحيح بصحيح.. مر.. يعني زل.. على زقاق الخنجي بعد نص الليل.. على شان تعرف أن لنا أبطال أساطيرنا الشعبية.. وإنهم أحياء.. وموجودون بكثرة.. حتى في مثل هذا الزقاق الضيق والذي لا يتسع عرضه لمرور أكثر من شخصين.. بشرط أن يكون أحدهما نحيفاً جداً.. وذلك لتسهيل المرور.. قبل تنظيمه!!
وحين بحلق الخواجه إيكيليا بعينيه الزرقاوين في وجهي أنا الغلام الفلاحي الجداوي الذي يتحدى أبطال الأساطير اليونانية.. وأولمبها.. بزقاق ضيق.. هز رأسه.. ثم حسحس قليلاً في مكان شاربه الحليق.. ثم قهقه ساخراً من قولي هذا.. قائلاً في لكنة عربية اثينية مكسرة ((وتفتكر يخبيبي أنا راخ نشوفوا ايه في زقاق الكنجي هقك دا؟)) فسكت برهة قصيرة.. وتلفت ورائي.. وأمامي.. ويساري.. ثم وليت هارباً بعد أن عملتها فيه.. وعملتها هنا ـ يعني قذفت بها ـ أي بالكلمة الرهيبة في وجهه قائلاً له ثلاثاً وبصوت عال جداً: الدجيرة!! الدجيرة!! الدجيرة.
ذلك ما حدث من حوالي أربعين عاماً بيني وبين الخواجه ايكيليا.. هذا.. وكما يقول الأب عزيز ضيا في نثاره.. بضم النون.. الذي يبعثره يومياً في ركنه بعكاظ.. وبعد.. فيا ترى.. يا هنترا.. من تكون هذه الدجيرة التي تتطاول إلى مكان الأولب؟؟ يخيل إلى أنني سمعت بهذا الاسم من قبل أما على لسان المسيو كاليداسا.. أو من بق السيدة جورج صاند.. أو من ملامح مسز اجاثا كريستي.. وهذا هو الأرجح كما رسمها الابن الفنان ضيا في لوحاته الأخيرة.. ووردت في أحد مقاطع قصيدة اليوت التي وردت في برنامج ((سكن الليل)) المدلل للابنة دلال!!
أي نعم!! كما يقول صاحب الأحاديث المسموعة عصراً. فإن لدينا من الشخصيات الشعبية الأسطورية شخصية لها سمعتها وشهرتها وخطورتها.. هي دون فخر أو فشر.. الدجيرة.. والدجيرة هذه ـ للتعريف لمن لم يعرفها ـ سيدة جنية من سيدات الجن المشهورات بحبهن للمداعبة البريئة.. وللمباسطة غير العدائية.. وقد تخصصت دون بنات جنسها في التريقة على من لا يعودون لبيوتهم إلا بعد منتصف الليل. وبصورة أخص على العسس.. وعلى القراء الذين يحيون ليالي الأربعين والحول بالقرايات في بيوت أهالي الموتى.. وربما.. وربما تعرضت الدجيرة لبعض مطاليق.. أو مشاكلة الحارة لكسر أنوفهم.. وللرقص.. بنبابيتهم ليلاً وعلى انفراد بهم.. رقصة المزمار!!
وجميع المعاصرين من كهول جدة.. ورجالها.. وشبابها أيضاً يعرفون جيداً زقاق الخنجي.. وهو الزقاق الملاصق غرباً لقصبة الهنود.. وشرقاً لبيت بادكوك القديم.. واسألوا عنه الأستاذ محمد بادكوك صاحب منتزه كيلو عشرة.. بلدي!! وهو أيضاً زقاق ينقسم إلى قسمين متلاصقين ضيقين لا يتعدى عرض أولهما الشرقي المتر الواحد.. ولا يزيد عرض ثانيهما الغربي على المترين. ولقد ذهب في الهدميات الأخيرة.. وأصبح جزءاً لا يتجزأ من شارع الذهب!!
في هذا الزقاق.. يا سادتي.. ولدت ((الدجيرة)) منذ أكثر من قرنين ونصف القرن لأبوين معروفين مسجلين في سجلات مواليد الجن.. وهما البعبع.. والهمية. وفي أحضان هذا الزقاق الضيق نشأت البنت نشأة خرافية الحياة.. خيالية التربية.. وكانا كما يؤكد العم أبو تريحب في جلساته بقهوة سوق الجامع أنهما أبوان محافظان.. ولكن الدجيرة العفريتة كانت من صغرها بنتاً لعوباً. ثم لما أصبحت فتاة وتزوجت من أحد أترابها من طائفة ((بسم الله، بسم الله)) خالعت زوجها مقابل مهرها من صبيحة ليلة الدخلة.. ونعرت على حد قول أهلها المحافظين، أو تمردت. واستقلت بحياتها على حد تعبير زملائها المجددين العصريين التقدميين. فأصبح همها.. كل همها.. معاكسة رجال الأنس.. والتعرض لهم.. ومجافاة رجال الجن!!
ولقد انفردت الدجيرة بطريقتها الشعبية البلدية الخاصة.. فقد كانت كما يؤكد كل من قابلها أو تعرض لمعاكساتها أول ما تبدو ليلاً للمارة في زقاق الخنجي تبدو في شكل سيدة من سيدات البلد المحافظات.. وكلهن كن محافظات.. فهي ترتدي من الداخل الكرتة الطويل الذيل والأكمام.. وتحتها السروال المصري أو الحلبي.. وعلى رأسها المدورة.. وبيديها البناجر.. وبساقيها الخلاخيل ذات القلاقل.. ذات الرنين العالي.. وبقدميها البابوج والخف الأسطمبولي.. ملفوفة بالقنعة السوداء التركي أو الجاوي.. وعلى وجهها البرقع لا تظهر من ثقبيه إلا العينان الدعجاوتان.. وتمشي الهوينا في تعثر وتكسر ظاهرين مشية يسميها الخبثاء مشية ((اليعسبة)) حاملة بقشة.. أو بقجة كما صححها أبو تراب.. فحين يمر عابر السبيل من زقاق الخنجي أو من الأزقة المجاورة له.. ويراها كذلك.. يطوف برأسه.. فالدنيا نص الليل.. طائف شيطاني خبيث.. حيث يسمع بأذنيه رنات الخلخال.. وصليل البناجر.. وتفاجئه النظرات الساحرة من ثقبي البرقع.. فلا يكاد يحاذيها أو يلتق بها حتى تتسرب لأنفه رائحة اللونطا ـ اللافندر ـ مديرة رأسه.. وحتى تملأ سمعه نغمة ساحرة.. منغمة.. مغردة.. قائلة له في سحر أخاذ.. وفي لهجة مهذبة ((اوه.. من فضلك ممكن تشيل لي البقشة دي؟ وتوصلها معايا للبيت؟)) فلا يجد العابر الشجاع الشهم.. وكل عابر في منتصف الليل من زقاق الخنجي شجاع وشهم.. لا يجد إلا الإجابة الفورية المتلهفة.. هاتي يستي.. أنا تحت أمرك.. فتضحك.. ثم تناوله البقشة.. وتتقدمه بخلاخيلها.. ورنات بناجرها.. وبقوامها اللدن يتثنى.. ويتكسر.. ويتعثر في غندرة مثيرة!!
وهنا.. كما يقول العم أبو تريحب.. يبتدىء اللي.. حيث تقطع الدجيرة زقاق الخنجي الضيق جداً وتكاد أنفاسها تحرق مرافقها حامل البقشة.. ذاهبة.. أيبة.. لمرتين أو أكثر مما يدخل الرهبة تدريجياً بقلب الشهم الشجاع.. وفجأة.. وحين ترسل الدجيرة ضحكاتها المجلجلة المدوية دون انقطاع.. يصرخ المرافق محاولاً الهرب.. ولكنها تسد عليه طريق الفرار.. فيبتدىء في الصراخ.. ثم العويل.. ثم.. إن الصراخ ممن لا يتحكمون في عضلات بطونهم.. يجعل المرء.. يأخذ في أسباب القذف على ملابسه بمخزونه البشري متقطعاً يابساً.. أو سائلاً في إسهال متوال طويل.. وحينذاك.. وبعد أن تكون الدجيرة قد عملتها فيه تختفي.. كفص ملح ذاب.. من أمام عينيه.. ومعها بقشتها.. بعد أن تودعه بقهقهة صاخبة رهيبة!!
تلك هي لعبة الدجيرة في زقاق الخنجي مع العابرين العاديين. أما حين يكون المار أحد المطاليق أي مشاكلة الحارة فإنها في نهاية اللعبة تأخذ منه عصاه.. أو نبوته المزقر.. وترقص له رقصة المزمار.. دائرة حواليه.. وهو جامد في مكانه لا يتحرك.. ولا يسمع له صوت إلا أصوات الأرياح السفلى مشفوعة كذلك بقذف بعض المخزون البشري.. في فزع وارتجاف.
ذلكم.. هو القسم الأول من سيرة بطلة من أبطال أساطيرنا الشعبية.. فإلى القسم الثاني.. مرددين معاً.. هذه المقطوعة.. من شجرة أو على الأصح الأرجوزة البلدية الجماعية لا تغني إلا في حلقة مقفولة.. مفقودة.. ومن حولها حملة الطيران.. بتشديد وكسر الطاء:
أنا شفت.. يخويا.. الدجيرة..
الـلـه!! الـلـه!! يبوطيره
في زقاق الخنجي.. ولوحدي..
الـلـه!! الـلـه!! يا وعدي
أنا شلت البقشه حقتها
بايديها.. مدتها
ومشيت.. معاها.. المشوارا..
ورقصت.. وراها.. المزمارا
الـلـه!! الله.. يبوطيره
وبعينك شفت الدجيره
دي عيونها: عيون الغزلان
والبرقع.. والقنعه: جناني
لا تقول لي: كاني.. أو ماني
ما احلى البرقع.. بزماني
وزواجي.. يخويا.. العمياني
وبعينك.. شفت الدجيرة!! الله.. الله.. يبوطيره
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1448  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 44 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.