(( كلمة سماحة الشيخ محمد الحبيب بلخوجة ))
|
ثم أعطيت الكلمة لسماحة الشيخ محمد الحبيب بلخوجة، حيث قال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.. |
- في بداية هذا الحديث - الَّذي أرجو أن لا أكون مملاً فيه، وأن لا يطول بي القول - أريد أن أذكر بأن هذه الليلة المباركة المشرقة الزاهية، هي حلقة من ليال كثيرة.. اجتمعنا فيها في هذا المكان، واستمعنا فيها إلى أعلام الفكر والعلم والأدب؛ ونحن في هذه المرة نستمع ونحتفي بعلامة وبرجل.. له أثره في حياتنا الفكرية والفقهية والأدبية والاجتماعية؛ وإذا كان فضل الله عظيماً على صاحب هذا البيت، فإنه لم يبخل علينا أن يشركنا هذه المتعة العلمية الروحية، بدعوتنا إلى الحضور وإلى المشاركة في تلك الأمسيات؛ وإني لأعتبرها - باختلاف موضوعاتها وتنوع الأغراض التي تربط بيننا وبين المحتفى بهم في هذه الدار العامرة - تشبه المجالس القديمة التي كانت تعقد في بيوت العلماء، وفي الأندية الفكرية في القرون الأولى، وحتى العصر الحاضر بفضل الله ونعمته. |
- وأنا لا أرى مشاركة واحد منا - في مثل هذه الليالي والأمسيات - تقديماً للمحتفى به، فإن التقديم كان قد حصل بأعماله وبإنتاجه، وبلقائه مع الناس، وبما أفاض عليهم مما أفاض الله عليه من خير؛ وتقدم بعطاء كبير.. جعل الناس يلتفتون إليه ويتشوقون إلى الالتقاء إليه؛ ولذلك فإن كل واحد من المتكلمين - حين يتحدث عن الشيخ مصطفى الزرقاء - لا يتكلم من أجل التعريف بجوانب ثقافته الواسعة أو بعلمه الكبير، أو باختصاصاته المتنوعة.. التي أسهم فيها إسهاماً جيداً ومعترفاً به؛ ولكن كل واحد منا يريد أن يتقدم بشيء يشفع له.. في كونه يجلس إليه ويتحدث معه، حتى يكون في ذلك المستوى الراقي العالي.. الَّذي اختاره الله لشيخنا العلامة مصطفى الزرقاء. |
- فالشيخ مصطفى الزرقاء.. من خلال ما سمعتم من الترجمة المختصرة، ومن خلال ما نشر له من كتب، ومن خلال اللقاءات الواسعة.. التي ضمتنا إلى مجلسه، كانت في الواقع تسطر اللوحة العظيمة الشاملة المتنوعة المختلفة الألوان، لإبراز هذه الشخصية؛ ولكني أريد أن أقف عند نقط أربع: |
- النقطة الأولى، هي: تدريس الشيخ مصطفى الزرقاء، وقد أخذ هذا فترة طويلة من عمره المبارك، فدرس الفقه الإسلامي، ودرّس القانون المدني. |
- وكان لهذه الدراسة ولهذه المشاركة القوية والواسعة والكبيرة في الفَنَّين أثر عظيم في إبراز هذه الشخصية الَّلامعة، التي أفادت المجتمع الإسلامي؛ وأنا أستطيع أن أدعي وأقول من غير مبالغة ولا مجاملة، أنَّه لا يوجد الآن في هذا العصر من أخذ بهذا الاختصاص مثله، وبلغ شأوه في المعرفة الدقيقة والمحيطة بالقانون المدني أولاً.. وبالفقه الإسلامي ثانياً؛ وقد رأينا آثار ذلك في الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات والندوات العلمية، التي حضرناها معه. |
- وأما النقطة الثانية، فإن الدراسة الواسعة لعلم من العلوم.. ولفن من الفنون، تجعل صاحبها ملمّاً بكل الجزئيات الموجودة فيها، بحيث إذا سئل أجاب، لا يتردد. لأنه كأنه يقرأ من كتاب؛ وهذه المقدرة وهذه الطاقة العجيبة التي مكنت علماءنا في الماضي، مكنت أستاذنا وشيخنا مصطفى الزرقاء من وضع القواعد.. ومن وضع النظريات، ولولا هذا العمق في الدراسة والشمول.. في كل جوانب القانون المدني والفقه الإسلامي، لما استطاع هو ولا غيره أن يضع شيئاً من النظريات؛ كم نحن في حاجة للتعريف بهذه النظريات الفقهية، وكم نحن في حاجة لإعانة الطلاب في هذا العصر، بمدهم بالقواعد العامة التي يحتاجون إليها لتطبيق الفروع والمسائل على الأصول، وللرجوع بها إلى مصادرها والأدلة العامة. |
- وهنا أريد أن أشير إلى أن هذا الفكر الموسوعي - الَّذي عرف به شيخنا، والَّذي ظهر مرةً في المحاولة التي قام بها لطبع الموسوعة في الكويت، وظهر في رئاسته للجنة الموسوعة في دمشق، وظهر بعد ذلك في بحوثه وكتاباته وتحاريره - دفع كل الهيئات العامة في المجتمع الإسلامي للاستفادة منه؛ فلا يوجد مؤتمر من مؤتمرات الدعوة، والفكر الإسلامي والدراسات الإسلامية، والفقه الإسلامي، إلاَّ وهو له حاضر؛ ولا توجد مؤسسة من المؤسسات الاقتصادية.. أو المالية.. أو الفكرية.. إلاَّ وهو لعملها شاهد وبها يُسهم؛ وذلك كمشاركته في كثير من الاجتماعات التي يعقدها البنك الإسلامي للتنمية؛ وكذلك كثير من الاجتماعات التي انعقدت بإشراف المؤسسة الاقتصادية الكبرى "البركة"؛ فقد كان محركاً لكثير من الأنظار، ودافعاً إلى تعمق أسرار الشريعة.. للحصول إلى الحلول المناسبة في كل قضية من القضايا. |
- ومن ثم لم يكن تعيينه في مجمع الفقه الإسلامي بجدة.. تعييناً كتعيين الأعضاء الدوليين الَّذين اقترحتهم حكوماتهم، ولكنه كان بإجماع المشاركين في المؤتمر الأول، معيناً من طرف رجال المجمع، شهادة له منهم بأنه قد بلغ القمة.. وهو أستاذ الجيل، فلا يمكن أن يُقدم عليه غيره؛ ولذلك فإني باسم المجمع.. مجمع الفقه الإسلامي أشهد هذه الشهادة، وأنا معتز أني جلست إلى شيخنا العلامة مصطفى الزرقاء، وأفدت من علمه وتحليله ودقة تفصيله للمسائل. |
- هنا لا بد أن أختم كلمتي بالإشارة إلى موضوعين اثنين، بغاية الاختصار.. أما الموضوع الأول، فإن هذا العمق في فهم الشريعة، وهذا النظر لشمولي لجزئياتها، وهذه القدرة على وضع النظريات التي نحتاج إلى التعريف بها في العالم الغربي وهي طريق من طرق الدعوة للإسلام، إذا نحن فعلنا ذلك نذكر موقفه في المؤتمرات التي انعقدت في أوروبا وأمريكا، والتي انعقدت في الشام.. وفي غير الشام، في الأسابيع الفقهية التي بذل قصارى الجهد للدفاع عن الفقه الإسلامي، والارتفاع به إلى المكانة التي هو جدير بها، من غير أن يكون ذلك بحماس شباب أو بشعور وعاطفة يمليها الانتساب للإسلام، وإنما كانت عن اقتناع ويقين بأن هذه القوانين والقواعد والنظريات الفقهية، وما إليها، ينبغي أن تكون في خدمة المجتمع الإنساني عامة، وهي الطريق إلى هداية البشر؛ لإقامة العدل، وسُبل التسامح، ونشر الخير بين الناس. |
- وأما الموضوع الثاني، فهو بعكس الأول.. وأقصد به مخاطبة الناس في المجتمعات الصغيرة، أو الأفراد الَّذين يتصلون به فيفتيهم؛ ففتاواه - مع كونها متصلة بالكتاب والسنة، معتمدةً على المصدرين الأساسيين، مستعينة ومستهدية بأنظار المجتهدين - لم تكن تقصد إلاَّ تحقيق الخير من وراء هذه الفتاوى، ولم تكن تقصد إلاَّ التيسير على المستفتي، وإعانته إلى وصوله إلى المقاصد التي يريد أن يمارسها والأشياء التي يريد أن يحققها لا يجعل الدين حاجزاً ومانعاً من تحقيق الخير، مع كونه يتمسك بالأصول ولا يلتفت إلى القشور. |
- نرجو من الله أن يطيل في عمره، وأن يبارك لنا فيه، وأن ينفع الناس بعلمه؛ وشكراً مرةً ثانية لأخينا الشيخ عبد المقصود خوجه، على ما أتاح لنا من فرصة الكلام في هذه المناسبة السعيدة؛ وشكراً. |
|
|