شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به الأستاذ عماد الدين أديب ))
ثم تحدث ضيف الاثنينية الأستاذ عماد الدين عبد الحي أديب، فقال:
- السلام عليكم.
- بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. سيدنا محمد بن عبد الله.
- أساتذتي.. أيها الزملاء.. أيها الضيوف الكرام.. أشكركم على حضوركم في هذه الأمسية، حيث تكون فيها برودة الجو تشكل صعوبة شديدة، لأن تجلسوا في مكان مفتوح.. وتستمعوا إلى أي موضوع.. مهما علا شأنه، فما بالكم إذا كان هذا الموضوع يتصل بتكريم شخصي الضعيف؟
- في البداية، أحب أن أشكر الشيخ عبد المقصود خوجه.. أولاً أشكره على تفكيره في إتاحة الفرصة لي، بأن أتواصل معكم، وأن أتحدث مع هذا الجمع الكريم؛ وأشكره كما يقولون شكراً دائماً واستراتيجياً - إذا جاز التعبير - لأنه يجعل من هذا المكان منارة للفكر، وواحة للتعبير، ومجلس خير ومكاناً للتنوير.. في زمن أظلمت به العقول.
- حاولت من حوالي عشرة أيام أن أحضر ورقة وقلماً.. وأكتب الكلمة التي سأقولها الليلة، ووجدت نفسي فاشلاً جداً في هذا الموضوع، أحسست أن هناك حاجزاً بيني وبين حضراتكم، إذا أمسكت ورقة وقلماً وقفت أقرأ منها؛ فقررت أن أقوم بمغامرة.. أرجو ألا تكون فاشلة، فأتكلم إليكم ارتجالاً، مباشرةً إليكم.. بدون أي جمارك أو محاكم تفتيش.
- في البداية من أنا؟ أناس كثيرون.. والزملاء.. والأساتذة.. أفاضوا في وصفي بعبارات أعتقد أنها أكبر من حجمي، ولكني إذا أتيحت لي فرصة التكريم.. فعلي أن أرد الجميل، ويمكن أن أشرح قليلاً عن نفسي؛ سأتكلم في أجزاء، الجزء الأول: من هو الجالس أمامكم؟ ثانياً: ما هي مهمة الصحافة الحديثة؟ الجزء الثالث: الإصدارات التي نتولى إصدارها؟
- ولكي تعرفوا من أنا - إذا كان هذا مهماً لحضراتكم - يجب أن تعرفوا من هو أبي.. ومن هي أمي؟ أبي رجل بسيط للغاية من عائلة متيسرة جداً.. في مدينة المحلة الكبرى، ويسمونها مانشستر الشرق الأوسط، حيث توجد صناعة الغزل والنسيج في مصر؛ كانت عائلته تمتلك نواة صناعة النسيج في مصر، وكان أصغر إخوانه، وعندما بلغ عمره 18 سنة.. كان محباً للأدب والقراءة، وكان رجلاً مشاغباً سياسياً، وعندما توفي جدي "والد أبي" حصل خلاف على الثروة والتركات، دون الدخول في تفاصيل مؤلمة.. ترك مدينة المحلة - وهي مسقط رأسه - وفي جيبه 15 قرشاً، ولا علاقة له بعائلته، عليه أن يكمل تعليمه.. ويبحث عن رزقه في نفس الوقت.
- والدتي أيضاً تنتمي إلى عائلة ثرية جداً، كانت تمتلك نصف مدينة طنطا، وهي مدينة من مدن الغربية: (محافظة الغربية) أصغر أخواتها؛ جاء الميراث.. ضحكوا عليها لم يعطوها شيئاً، فذهبت إلى إحدى قريباتها في القاهرة، هذه القريبة لم تكن غنية جداً، ولكنها كانت أغنى من والدي.. كان معها 25 قرشاً وهو معه 15 قرشاً؛ تعرف كل منهما على الآخر فتزوجا.. وبنيا حياتهما من تحت الصفر.
- أبي أدرك - وهو يواجه الحياة الصعبة - أن يبقى طالباً في معهد التمثيل، وكان هو المكان الوحيد لدراسة فن كتابة السيناريو والقصة.. في هذا الوقت؛ وعليه أن يعمل حتى يعول هذه العائلة؛ كان يشتغل مدرساً ومتدرباً في المسرح القومي، وتلميذاً في معهد السينما؛ والدتي أيضاً كانت تعمل، وكانا يتنقلان من غرفة صغيرة إلى غرفة صغيرة إلى غرفة صغيرة، لكي يستطيعا أن يعيشا.. إلى أن جاءت الفرصة، ومنَّ الله عليهما بميلادي في ذلك الوقت.
- عمل أبي أول أفلامه، وهو فيلم: "باب الحديد" كان عمره 21 سنة، حصل هذا الفيلم على 18 جائزة دولية؛ شاب عمره 21 سنة يدخل فيلمه مهرجان موسكو.. فيحوز قصب السبق، ويشترك في مهرجان سان فرانسيسكو في وقت تشهد فيه مصر غليان الثورة. فكانت مرفوضة دولياً، ورغم ذلك ينال جائزة تقدير أهم فيلم من دول العالم الثالث، وتستمر قصة نجاحه بهذا الشكل؛ كل حلمه أن يتيح لي الفرصة كي أتعلم أفضل تعليم، في ذلك الوقت.. تُعتبر أحسن مدرسة وأغلى مدرسة، هي فكتوريا كولدج؛ وأنتم تعرفونها، وفيها تعلم عمر الشريف، ودرس فيها أيضاً الملك حسين، وكان لي زملاء كثيرون من المملكة.. وهي مدرسة لا يستطيع دخولها إلاَّ الَّذي يقدر على دفع ألف جنيه، وكان هذا المبلغ يساوي مئة ألف جنيه في هذا الوقت.
- دخلت المدرسة حتى السنة السادسة في المرحلة الابتدائية، ثم حدث أهم موقف في حياتي.. هذا الموقف كان أكثر موقف مؤثر بالنسبة لي، إذ سمعت حواراً بين والدي ووالدتي.. يدور حول التأميم في مصر، ومن ضمن ما تم تأميمه مؤسسة السينما، وبالتالي فلا بد لأبي أن يذهب إلى الدولة.. ويطلب منها أن تشغله؛ ولأنه رجل عنده كرامة شديدة وعزة نفس.. رفض، وقال: هذا غير معقول؛ فلزم البيت عدة أشهر.. بدون دخل بالنسبة له، مدخراته الوحيدة لا تكاد تكفي مصروفات المدرسة؛ فسمعت الحوار.. وسمعت والدتي تقول له: كيف نستطيع أن نوفر مصروفات عماد؟ وأخذت تبيع ما تملكه من حلي، لكي تظل صورة هذا الطالب كما كانت، طالباً يدرس في أحسن مدرسة، ويتعلم لغات، له أصدقاء من عائلات مالكة كثيرة.. منهم من الكويت؛ وقد كان يجلس بجواري في الفصل من الجهة اليمنى ابن عثمان أحمد عثمان.. أكبر مقاول في مصر، وكان يجلس من الجهة اليسرى ابن الشيخ دعيج الصباح؛ وكان مصروف كل منهما اليومي يساوي مصروف بيتنا لمدة شهر.
- وكانت وجهة نظر والدي، أنني لو خرجت من المدرسة في هذا الوقت، سيحدث لي هزة نفسية.. وهبوط في تعليمي ودراستي؛ فجاء قرار والدي بأن يترك مصر.. ويبحث عن العمل في بيروت، وهو الَّذي يعشق مصر جداً؛ سافر، وقال لي وهو مسافر: أنت الآن رجل البيت، وأخرج من جيبه مفتاح الشقة، وقال لي: أنت الآن مسؤول عن نفسك.. لكني أريدك أن تكون رجلاً.
- ومن هذه المسؤولية التي وضعت مبكراً عليَّ، ابتدأت نظرتي للحياة ونظرتي للأمور تتغير كثيراً؛ ومنها أنني كنت أعد أحسن تحية أقدر أقدمها لوالدي، هو: أن أقرأ مكتبته وهو غائب؛ أي أحاول أن أجعل من نفسي إنساناً جديراً بأن أكون ابنه.. لأنه هذا الرجل الَّذي اغترب.. وهو يمسك الورقة والقلم، ويكتب لي جواباً كل أسبوع، يتألف من عشر صفحات.. أو إلى اثنتي عشرة صفحة؛ هذه الجوابات هي التي شكلتني وصنعتني؛ هذه العلاقة النادرة بين أب وابنه ممكن تغير الحياة في الإنسان؛ فابتدأت أهتم بنفسي وأفكر في أن أهتم باختيار طريق عملي، فكرت بالفعل أن أتجه نحو الصحافة.. وأنا في المرحلة الثانوية، وقلت: لا بد أن أكون صحفياً إن شاء الله.
- ابتدأت أوجه تفكيري وقراءاتي منذ ذلك الوقت؛ ثم شكلت في مصر كلية الإعلام.. دخلتها، وكنت من الأوائل في كلية الإعلام؛ من السنة الأولى اكتشفت وجود شخصية عظيمة جداً، هي شخصية الأستاذ جلال الدين الحمامصي (رحمه الله) رجل صاحب فضل كبير جداً عليَّ، لأنه في أول محاضرة لنا سأل، وقال: من يرغب أن يشتغل صحفياً؟ على الراغب أن يرفع يده؛ فرفعتُ يدي؛ ثم قال: من يرغب أن يشتغل صحفياً مهتماً بإحضار الإعلانات؟ فلم أرفع يدي، ولكن أناساً كثيرين رفعوا أيديهم؛ فقال: الصحافة صناعة.. والإعلان هو الممول للصحافة، لكن الصحفي الَّذي يحترم نفسه.. يعمل على أن تأتي جريدته بالإعلان، لكن لا يذهب لكي يجلب الإعلان بنفسه؛ ثم أردف قائلاً: من أراد الحصول على الفلوس فعليه بالعمل في بنك، أما الَّذي يريد أن يعمل صحافة، فعليه أن يعلم أنه لن يستطيع أن يحدث أي نوع من الثراء.
 
- هذا الرجل الشريف الَّذي عاش ومات فقيراً.. كان أستاذي؛ واستفدت جداً من كلية الإعلام؛ في السنة الثانية من دراستي الجامعية صدرت عندنا جريدة اسمها: "جريدة صوت الجامعة" كانت أول جريدة تصدر للجامعيين. يحررها الطلبة أنفسهم؛ طبعاً قد أبدو أمامكم شخصاً عاقلاً.. لكن عندي نسبة جنون كبيرة جداً في تفكيري، وتتمثل هذه النسبة في أنَّ المرء عندما يُفكر يرى أن البدائل المتاحة أمامه: 1، 2، 3، 4، أما أنا فأختار البديل رقم 20، وهو بديل وهمي غير موجود إطلاقاً.
- قيل لنا كل منكم يختار شخصية ليعمل معها مقابلة صحفية.. ويظفر منها بحديث قيم؛ فاخترت أن أقوم بعمل مقابلة صحفية مع الرئيس أنور السادات.. بعد انتصاره في حرب أكتوبر توجهت إلى قصر عابدين وطلبت مقابلة المسؤول عن الصحافة في رئاسة الجمهورية، وقلت له: أنا فلان الفلاني، وهذه جريدة الجامعة، وأرغب مقابلة الرئيس أنور السادات.. للحصول على حديث منه؛ فرد عليَّ قائلاً متعجباً: يا سلام من أنت؟ قلت له: صحفي.. سيكون ممتازاً في المستقبل، وإذا رفضت مساعدتي.. ولم تمكني من عمل المقابلة، فسوف أهاجمك في المستقبل، فقال: أنت رجل مجنون؛ فقلت له: العبرة في الحديث، سأضع لك أسئلة وعليك عرضها على سيادة الرئيس؛ فقال: اكتب الأسئلة؛ وكتبت الأسئلة.. وأعطيتها إياه؛ ومرت خمسة شهور دون أن أحصل على الإجابة؛ وأخيراً قررت الذهاب إلى دفتر التشريفات الخاصة برئاسة الجمهورية، وكتبت رسالة إلى رئيس الجمهورية، وبعثت له برقية.. كما بعثت لوزير الإعلام برقية أخرى، وبعثت خطاباً رسمياً أيضاً للمسؤول عن الصحافة، وعندما جئت إلى مكتبه.. قال لي: إن برقيتك وصلت.. واطلع الرئيس على أسئلتك، وحدد يوم كذا.. الساعة كذا لمقابلتك، وعليك أن تحضر معك يوم المقابلة شخصاً يسندك، فاخترت صديقاً لي يسندني.. وعملنا المقابلة؛ كان وقت المقابلة المحدد عشرين دقيقة، غير أنها استغرقت ساعتين ونصف.
- وفي اليوم الثاني قمت بزيارة للأستاذ جلال الحمامصي - الَّذي كان أستاذي في الجامعة، وفي نفس الوقت رئيس تحرير الجريدة - وأخبرته أنني استطعت أن أحصل على حديث من الرئيس أنور السادات، فلم يصدق بادئ ذي بدء، ولكنه تيقن بعد أن استمع إلى الشريط الَّذي قمت بتسجيله، وسمع صوتي.. فتأكد أن الحديث صحيح؛ ثم قفل الباب.. وابتدأ يعاملني معاملة مختلفة، وأمرني بالجلوس، كانت أول مرة يسمح لنا بالجلوس في غرفته؛ ونشرت المقابلة.
- ثم التحقت بجريدة الأهرام القسم الدبلوماسي، وكان به شخص واحد، هو محرره ورئيسه وأعضاؤه، وهو الأستاذ حمدي فؤاد؛ فقد كان قوياً جداً.. وشخصية طاغية، لم يستطع أحد العيش معه؛ كان التحاقي بالقسم الدبلوماسي بناء على رغبتي.. رغم نصيحة من سبقني إليه.. وتحذيرهم لي، لكنني فضلت الالتحاق بذلك القسم، لأن الصحافة السياسية هي الصحافة التي أحبها وهي المستقبل؛ وفي نفس اليوم الَّذي باشرت العمل فيه بالقسم الدبلوماسي، بعثت إدارة الجريدة الأستاذ حمدي للولايات المتحدة وفي صباح اليوم الثاني حضرت الاجتماع الصباحي وفي الاجتماع علمت أن فالدهايم قادم لزيارة مصر ولا بد من تواجد ممثل من القسم السياسي في استقباله فسألني الحاضرون عن بطاقتي الشخصية.. أو أية وسيلة تثبت شخصيتي؛ فأجبت بالنفي؛ فقالوا: كيف يمكنك دخول المطار؟ فقلت: دعوا الأمر لي؛ ودخلت المطار، حتى وصلت قاعة كبار الزوار.. ممثلاً لجريدة الأهرام والَّذي أدخلني هو مصور الجريدة.. فقد كان شخصاً محترماً، يحمل بطاقة وكرت نقابة الصحفيين، وكل الأشياء التي تثبت شخصيته؛ وبصرت هناك بسائق الدكتور أسامة الباز، وكنت أتردد عليه في وزارة الخارجية، وأحصل منه على تصريحات جريدة صوت الجامعة؛ فأسرعت إليه وقلت: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال: لإحضار الدكتور أسامة، ومعالي الوزير إسماعيل فهمي، والسيد فالدهايم من على سلم الطائرة؛ فقلت له: هل تعني أنهم لن يدخلوا قاعة كبار الزاور، وهي مهيأة لاستقبالهم؛ فقال: لا وإنما هذا أعد للتمويه، فهم سيركبون السيارة.. بعد نزولهم من الطائرة ويتوجهون لمقابلة الرئيس؛ فقلت له هل في الإمكان أن تركبني معك؟ فأركبني.. ودخلت وجلست بجواره، ومررنا بحرس بوابة المطار فلم نقف، لأنهم يعرفون سيارة الدكتور أسامة؛ وفجأة وجدت أمامي الدكتور أسامة وإسماعيل فهمي.. والاثنان يعرفاني؛ فقالا: ما الَّذي أتى بك إلى هنا؟ فقصصت عليهم قصتي من ألفها إلى يائها.
- وبعد نزول فالدهايم من الطائرة، دخلت عليه وسألته سؤالين.. أو ثلاثة، أو أربعة؛ وبعد المقابلة - وقد سجلتها على شريط كاسيت - ركبت مع كيلاني سائق الدكتور أسامة وبمنتهى الخبث وقفت مع الناس كأني لم أعمل أي جريمة ودخلت معهم حين دخلوا، فقالوا لهم: لقد ذهب الضيف والمستقبلون... وذهب الصحفيون أيضاً، فخرجوا غاضبين ناقمين على سوء المعاملة بعد ذلك ركبت السيارة.. وذهبت إلى الأهرام، وكتبت القصة.. وذكرت مقابلتي للدكتور فالدهايم، وإجابته على أسئلتي التي وجهتها إليه؛ وقدمت المقالة إلى رئيس القسم: الأستاذ ممدوح طه، فقال لي: يا أديب.. ما الَّذي دفعك لتبدأ حياتك الصحفية بقصة ملفقة؟ قلت له: والله العظيم هذه المقابلة تمت فعلاً؛ فقال: هل تعني أنَّ فالدهايم ترك مائة صحفي وتحدث معك؟ قلت له والله العظيم لقد كلمني؛ فقال لي: أنت ستفصل بسبب هذا المقال.. أو ستضرب بالأحذية؛ قلت له: والله العظيم لقد عملت المقابلة وهذا هو الشريط.. فسمعه؛ فقال لي: تكلم؛ فتكلمت، فتيقن أن صوتي هو نفس الصوت الَّذي سمعه؛ فقال لي: اتركه لعرضه في اجتماع الساعة 5:30، اجتماع الصفحة الأولى.
- وعندما اطلع الأستاذ علي حميدي الجمال - رئيس تحرير جريدة الأهرام - على المانشست الخاص، سأل عن الشخص الَّذي قام بعمله، فذكروا اسمي له.. فغضب؛ وقطع حمدي فؤاد زيارته للولايات المتحدة، وعاد.. وأخذ يتوعدني ويهددني.. وأنا أقابل ذلك ببرود شديد؛ ثم أخذوا يضايقونني، وبعثوا لي خطاباً يتضمن نقلي من القسم الدبلوماسي إلى هيئة الصرف الصحي، مبررين ذلك بقولهم: نظراً لحاجة الجريدة إلى جهودك، فقد تقرر نقلك من القسم الدبلوماسي إلى هيئة الصرف الصحي؛ يتوقعون أن هذا القرار سوف يكون سبباً في إثارتي وغضبي يكون من شأنه أن أرتكب حماقة؛ لكنني خيبت ظنهم.. فذهبت إلى الشخص الَّذي أرسل لي الخطاب - وهو صحفي معروف جداً، ويشغل منصباً كبيراً - فباشرني بسؤاله قائلاً: هل وصلك الخطاب؟ قلت له: نعم، فقال لي: ما رأيك فيه؛ قلت له: أنا تحت أمرك، متى ترغب أن أباشر عملي هنا؟ قال: ألست غاضباً لهذا النقل؟ قلت: لا أنا صحفي.. سأغطي أي عمل أكلف به.. حتى لو كان الصرف الصحي. وباشرت عملي؛ لقد كان مشروع الصرف الصحي موجوداً، وقد مضى عليه شهر بين مصر وبريطانيا، وما زالوا يعملون فيه حتى هذا اليوم؛ وقد كلف حوالي مليار دولار؛ أحضرت المشروع والنص والاتفاقية.. وكل الشغل الموجود فيه، وكتبته وفي نفس الوقت طلبت من مصادري الأساسية في الخارجية.. وحملته إلى الاجتماع، ثم سلمتهم المانشست وعندما اطلع الأستاذ علي الجمال قال لي: يا بني، ما الَّذي حملك على الذهاب إلى الصرف الصحي؟ فقلت له: حضرتك، وأنا أقوم بتنفيذ الأوامر.. نظراً لحاجة القسم إليَّ.. ولمواهبي؛ في الصرف الصحي.. طلبوا مني أن أغطي الصرف الصحي.. فأنا سأغطي الصرف الصحي، فهل عندكم أي حاجة ثانية تأمرونني بتغطيتها، فليس لديَّ أي مانع؛ قال لي: لا، يجب أن تعود إلى ما كنت عليه؛ بعد ذلك نقلوني لتغطية نشاط رئاسة الجمهورية، ومن هنا بدأت علاقتي بتغطية نشاط الرئيس أنور السادات.
- الحياة مع أنور السادات تكاد تكون مختلفة تماماً، لأنه أكثر رئيس في تاريخ العالم العربي كان له أنشطة.. لا أذكر خلال قيامي بتغطية حركات الرئيس السادات (الله يرحمه) أنني قضيت فترة عيد في بيتي فقد كان يصلي صلاة العيد.. إما في السويس أو الإسماعيلية؛ ومصاحبة الرئيس عندئذ شيء صعب جداً… في التغطية الصحفية؛ فلو كانت صلاة الفجر أو صلاة العيد الساعة 5:30 أو 6 مثلاً بتوقيت القاهرة.. والصلاة في السويس، فيجب أن يكون المكلف بالتغطية موجوداً الساعة الثانية والنصف - بعد منتصف الليل - ليقوم المسؤولون بتفتيش ما تحمله عدة التصوير، ويجب أن تكون موجوداً قبل الرئيس بساعتين، وتنتظر في الموقف بعد مغادرة موكب الرئيس بمقدار ساعة؛ وكان التقليد الكلاسيكي، أن يقف الصحفي.. لا يتحدث ولا يتكلم، ويقف كالجدار إذا قيل أن هناك مؤتمراً صحفياً تكلم الخوجات، ثم قمنا بترجمة كلامهم.
- فعلى قدر تفكيري، رأيت أن هذا العمل غير سليم، فإذا كنت أمثل جريدة كالأهرام - وهي جريدة شبه رسمية في مصر، وهناك حدث بحجم الأحداث السياسية الكبرى.. مثل زيارة القدس - فإن الأمر يحتاج أن أتكلم كالصحفي في الصحافة الغربية، أي أقوم بتوجيه الأسئلة مباشرة فوجه إليَّ اللوم مرةً ثانية، ثم سُحبت بطاقة التعريف الخاصة بي، ونبِّه عليَّ بأن أمتنع عن الحديث بدون إذن مسبق، وحاولت أن أصلح الموقف.. فما قبلوا، فبعثت برسالة إلى رئيس الجمهورية.. ورئيس الجمهورية أعادني مرةً أخرى للتغطية وسمَّاني "اللمض".
- وأشهد - السادات الآن بين يدي الله - أنه كان كرئيس يفهم ماذا تعني الصحافة؛ وصلت معه إلى نوع من العلاقة.. كان إذا نظر إليَّ كأنه يقول لي: اسألني، أي ابدأ المؤتمر الصحفي.. فعندئذٍ أسأله بالإنجليزية، حتى أتيح له لفرصة للتحدث؛ وأحياناً كنت أسأله أسئلة محرجة جداً. وكان لا يغضب، وكانت بداية المؤتمرات الصحفية من مثل جريدة الأهرام، وهذا كان شيئاً مفيداً جداً لي؛ حتى جاءت اللحظة التي قال فيها: إنه ذاهب للقدس؛ في ذلك الوقت كان عقلي السياسي يعدّ إسرائيل هي العدو، وأنه لا يمكن عمل أي سلام مع دولة إسرائيل، لا يمكن الثقة بهؤلاء البشر، وأن النتيجة المنطقية لمن يغتصب أرضك.. أنك تستعيدها منه، وأنه أخذها منك عنوة، فعليك أن تبذل كل جهد لاستعادة هذه الأرض؛ وأن الصراع بيننا وبينهم ليس صراع حدود.. ولكنه صراع وجود، وأن إسرائيل قويّة.. ليس بقوة ترسانة سلاحها، ولكن قوية بالعقل والتكنولوجيا، وإيمانهم - حتى ولو هي قضية مغلوطة - لكن إيمانهم الحقيقي بقضية الدولة.. دولة الميعاد التي يؤمنون بها، والدولة العبرية؛ عندهم إيمان راسخ بهذا المفهوم؛ إن إسرائيل لا تعكس قوتها بقدر ما تعكس ضعف العرب.. وضعف المشروع العربي للوقوف أمامها.
- حينما صرح الرئيس السادات بأنه ذاهب إلى أقصى نقطة في العالم - ومنها الذهاب إلى القدس - حصل لي نوع من الهزة النفسية، فقد كنت مضطرباً جداً.. لأنني من جيل تركب تفكيره على أن إسرائيل هي العدو، ومأساة الإنسان الَّذي يتابع القضايا العامة، قد تستحيل القضية العامة في نظره قضية خاصة؛ أي أن الهم العام قد يصبح هماً شخصياً، وتشعر أن وطنك هو بيتك الصغير، وأن رئيس الجمهورية هو والدك، وأن ما صرح به من ذهابه للقدس.. هو أن الأب - لا سمح الله - ارتكب فعلاً شائناً، وأن هذا الأمر يحدث شرخاً نفسياً بداخلك، وأنك لا تستطيع مواجهته؛ بعد ذلك أدركت أنه كان على صواب.. في بعض ما فعله، كان هناك بعض من الصواب وبعض من الخطأ؛ لكن في هذه اللحظة كنت مؤمناً تماماً أني لم أقدر أن أتعامل مع الموقف، خاصةً أنه طلب مني أن أذهب إلى المطار.. وأكتب وصف سفر الرئيس، ثم أذهب إلى المطار بعد 48 ساعة.. وأكتب وصف عودة الرئيس؛ أول محك أن تواجه بأنك متناقض مع نفسك؛ شعرت لو أنني عملت ذلك.. لأصبحت مذنباً بحق نفسي، سواء كنت على صواب أو خطأ.
- في هذه اللحظة: كان لا يمكن لي أن أستمر، وأبقى محرر شؤون رئاسة الجمهورية للرئيس السادات.. ولأنشطته، وأنا غير مؤمن بما يحصل؛ فدخلت لرئيس تحرير الأهرام.. وقدمت له استقالتي، فسألني عن الأسباب؟ قلت له رئيس الجمهورية؛ فنظر إليَّ وقال لي: هل أساء إليك؟ إن هذا الرجل يحبك ويطلبك أن تسافر معه؛ قلت له: أنا على المستوى الإنساني أو الشخصي - وحتى هذه اللحظة - ليس لدي أي شي ضد الرجل، لكنني أشعر أني أفقد نفسي وشخصيتي إذا استمررت في وضع بهذا الشكل؛ فقال: يا بني فكر.. يا بني اسمع الكلام.. سنزود لك المرتب؛ فتركت له الاستقالة وخرجت.. واتجهت إلى البيت، وأنا مستريح نفسياً.. لأني لم أعمل شيئاً فيه تناقض؛ إني اشتريت نفسي وبقيت ملازماً البيت 48 ساعة، صائماً عن الكلام ولا أرد على رنين الهاتف، وقد استغرب زملائي من تصرفاتي، ولكن الإيمان الشديد هو العلاقة المباشرة بين المرء وخالقه، وهو الحوار الَّذي يدور بين العبد والخالق؛ وأنا قلت أني متأكد أنني لم أقم بعمل خاطىء، وأنت لن تتخلى عني.
- وبلغة المعلقين على لعب كرة القدم، في الدقيقة 17 من اليوم الثالث جاء هدف؛ إذ اتصلت بي الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، وعرضوا عليَّ أن أقوم بإدارة مكتب جريدة الشرق الأوسط في القاهرة؛ لقد فوجئت طبعاً.. لأن المنصب أكبر من حجمي، ولا بد في هذا المجال أن أقول: هذا كان قرار الأستاذين هشام ومحمد علي حافظ، اللذين راهنا على شاب.. ربما رأياه مرةً وسلَّما عليه، ويقرآن ما يكتبه؛ فكان لهم الفضل الأبدي في الموضوع، وفي أمورأخرى في حياتي.. مهما باعدت بيننا السبل؛ ولم أعد أشتغل معهم الآن، لكن من ينكر ماضيه فلا خير له في حاضره أو مستقبله.
- اشتغلت في هذه الوظيفة، وبعد (6) شهور ساءت العلاقات ما بين مصر والمملكة العربية السعودية، بعد أحداث مؤتمر بغداد؛ توقف الناس عن العمل مع الجريدة، وأصبح عليَّ في وقت من الأوقات أن أعيد بناء الثقة، وأن أعمل في ظروف صعبة جداً، لدعم هذا المكتب بالموضوعات؛ وفي يوم جاءني خبر - حصلت عليه من سفير دولة عربية خليجية - مفاده أن مصر أرسلت أول دفعة سلاح - وقت قطع العلاقات - إلى العراق.. سنة 1979م، وكتبت الخبر؛ أثار هذا الخبر غضب المسؤولين، فأرسلوا إلى مكتب الجريدة مجموعة من الجنود والضباط.. فدخلوه قبل حضوري، وعندما دخلت وجدتهم ينتظروني.. فأحاطوا بي إحاطة السوار بالمعصم، وسألوا عن مصدر الخبر الَّذي نشرته، فخطر في الحال أمامي ما أوصاني به أستاذي جلال المحامصي، حيث قال لي: (إن الصحفي لا يكشف عن مصدره، وعليك أن تتمسك به) وأخذت أردد عليهم هذه العبارة، فحاولوا الاعتداء عليَّ بالضرب، وطال النقاش والحوار بيني وبينهم.. حتى توصلوا إلى لا شيء.
- وتوترت العلاقة.. وفصلت، إلى أن جاءت الفترة التي سبقت أحداث سبتمبر، كتبت مجموعة من المقالات.. قلت فيها: إن مصر مقبلة على ظروف كذا وكذا وكذا.. يوم 30 أغسطس بالصدفة كان رئيسي رئيس تحرير مجلة: "المجلة" الأستاذ عبد الكريم أبو النصر - وهو شخص أحترمه احتراماً شديداً جداً - طلبني أن أحضر إلى لندن للتشاور، فركبت الطيارة يوم 30، دخلت بعد الظهر بالليل؛ قال لي: أنا أدعوك لتناول طعام العشاء معي، ثم أردف قائلاً: ماذا تتوقع أن يحصل في مصر؟ فأجبته نحن مقبلون على كارثة، ففي أول سبتمبر تم اعتقال 1543 شخصاً من كل الاتجاهات، ويرجع الفضل لوزير إعلام ممتاز جداً، اسمه: الأستاذ منصور حسن؛ بعد ذلك عرض عليَّ الأستاذ عبد الكريم أبو النصر أن أسافر إلى واشنطن، لتأسيس مكتب.. لعدم وجود مكتب هناك؛ سافرت كان ذلك قبل مناقشة صفقة الأواكس - للمملكة العربية السعودية - بأربعة أيام، فوصلت مساء الأحد ليلة الاثنين، وتوجهت إلى المكتب.. وعينت 4 صحفيين، وزودت المكتب بهاتف وجهاز فاكس، يعد أول جهاز فاكس لمكتب صحفي في تاريخ الصحافة العربية بالولايات المتحدة.
- إن فرق التوقيت بين المملكة وأمريكا حوالي 7 ساعات، وكان مكتب جريدة الشرق الأوسط في لندن، يغلق حوالي الساعة (4) ظهراً، وهذا يعني أن نبعث الأخبار الساعة التاسعة صباحاً؛ وقد استطعت بواسطة الفاكس أن أقوم بالتنسيق والتنظيم، واستأجرت جهازاً لاسلكيَّاً.. سلمته لشخص موجود في الكونجرس، ليصف ما يحصل في الجلسة باللغة الإنجليزية، وأنا أكتبه مباشرةً بالعربية؛ وحملت السكرتيرة مسؤولية متابعة الفاكس، وإرسال المقالات أولاً بأول، ولقد تعلمت من دراستي بالمعهد الدولي للصحافة - من أستاذ اسمه: هرلد ايفز وولكر، وكان رئيس تحرير الصنداي تايمز - كيف تكتب القصة من تحت لفوق وليس من فوق لتحت؛ وبدأت أكتب القصة من تحت لفوق كما علمني ذلك الأستاذ كيف تغطي حدثاً.. وأنت في صراع مع الموعد النهائي للتسليم؛ قضية علمية ليس لها علاقة بالشطارة، وبدأنا نعمل على أساس هذا الموضوع.
- الغرب ليس خيراً خالصاً في التكنولوجيا.. نستفيد منه، لكن نواياه تجاهنا هي نوايا من يعمل لصالحه، وهو شيء طبيعي.. علينا أن ندرك ذلك؛ هذا ما تعلمته؛ وعرفت أن واشنطن ونيويورك قلعة يمتلكها اليهود. وما نحن إلاَّ ضيوف فيها، وحتى نستطيع أن نكون موجودين هناك علينا أن ندخل هذا الصراع - وهو صراع المصالح - وعلينا أن ندرك لغة المصالح، ولكن في قوتنا تكمن أساساً قوتنا الذاتية.. كعرب وكمسلمين، والصفر يساوي صفراً والواحد يساوي واحداً، وأنه لا مجال لنا إلاَّ إذا أصبحنا أرقاماً؛ لكن علينا أيضاً أن لا نأخذ وجهة النظر القائلة: "إن الغرب شر مطلق، فلا نتعلم منه" أو نأخذ وجهة النظر القائلة: "إن الغرب خير مطلق.. ونأخذ كل ما يقول" وكأننا في غيبوبة تماماً، وفي حالة وله بكل ما يفعله؛ بل علينا أن نتعامل بعقول واعية في التعلم، والابتعاد عما هو شر وأخذ ما هو خير.
- فكيف تعلمت العمل من الأمريكان؟ في سنة 1977، جاءت بعثة التلفاز الأمريكي - وهي محطة مشهورة جداً "أي بي سي نيوز"- يرغبون أن يكون عندهم مستشار شؤون تحرير؛ فهم في كل بلد يزورونه يختارون صحفياً من أبناء ذلك البلد، حتى يمكن أن يكون مفيداً لهم في تحضير المادة والأبحاث.. فسألوا عما إذا كان في الإمكان العثور على شخص يقوم بهذه المهمة، فأرشدوهم عليَّ؛ فعرضوا عليَّ العمل، وسألوا عن الراتب، فخبطت رقماً خرافياً.. ووافقوا عليه؛ لم أكن أصدق عندما أخذت الفلوس.. أني حصلت على هذا الرقم الفلكي؛ لكنني في الوقت نفسه أدركت أن الإنسان لا يؤخذ بدون مقابل؛ فقد كنت أشتغل ساعات طويلة، قد تمتد حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحاً.
- لقد تعلمت من الشغل - في التلفاز الأمريكي - كثيراً من الأمور، منها: أن الرئيس في العمل ليس بلبسه ومظهره وشياكته؛ ومما تعلمته أيضاً أن علاقة الرئيس بالمرؤوس – أساساً – علاقة ارتباطية جداً، بحيث يسودهم التقارب، لكن داخل علاقة حازمة وقاسية جداً في نفس الوقت، لا تعرف الرحمة فيما يختص بالإنتاجية؛ وفي نفس الوقت فهي علاقة قرب وإنسانية، بمعنى أن تكون قريباً ممن تتعامل معهم، وفي نفس الوقت ترسم خطاً فاصلاً ما بين العلاقة الإنسانية والتي في إطارها تشعر بأنك قد تهلك نفسك في سبيل حلِّ مشكلة الآخرين المالية؛ وفي نفس الوقت فإن تقصيره في العمل قد يدفعك إلى أن تذبحه.
- كما تعلمت منهم احترام قيمة العمل، وهي عادة غير عربية – مع الأسف الشديد – مع إنها عادة إسلامية أصيلة.. الإنتاجية؛ فالوقت الزمني الَّذي تأخذه من أي إنسان، يعمل في مجال عمل ما في العالم العربي وقت ضعيف.. خال من الإخلاص للعمل، وعندئذٍ يدرك المسئولون: أن هذا الإنسان ليس الشخص المناسب الَّذي يحتاجونه، فهم محتاجون إلى رجل له علاقة بالعمل.. وليس إلى إنسان يشتغل بالدقيقة والساعة. وتعلمت أيضاً من الأمريكان القرار الحاسم.، أي أن عليك أن تتخذ القرار في أي مشكلة تعترضك.. دون تلكؤ وتردد، ومهما كان القرار صحيحاً أم خطأ، فالقدرة على اتخاذ القرار. تعد صفة هامة يجب توفرها في الرئيس.
- ومما تعلمته أكثر التكنولوجيا.. والتكنولوجيا ليس مجرد أن تدخل مكتب موظف أو رئيس، وتجد أمامه تلفازاً؛ التكنولوجيا هي: أن يكون في مكتبك جهاز اتصالات للعمل، ليس للوجاهة والمنظر، ولكن لتسخيرها.. لتحصل من وراء ذلك على أفضل نتيجة ممكنة في عملك، بأسرع وقت وأكبر كفاءة؛ وأهم درس تعلمته منهم: احترام المعلومة؛ فعندما قررت السيدة باربرا ولترز - وهي أشهر مذيعة وأغلى مذيعة أمريكية في العالم - أن تقابل الرئيس أنور السادات وتوجه إليه بعض الأسئلة، قالوا لها عني: إن هذا الشاب هو المتخصص في الشؤون المصرية، وهو الَّذي يغطي شؤون أعمال الرئيس أنور السادات، وهو كاتب البحث الخاص عن شؤون المقابلات؛ فطلبت مقابلتي في الفندق، وذهبت في الموعد تماماً - وهذه نقطة مهمة احترام الموعد - فوجدتها لابسة لباساً عادياً، ليس على وجهها أي شيء من أنواع المكياج؛ فأحضرت لي كرسياً.. وطلبت مني الجلوس، بينما افترشت الأرض، وأحضرت ورقة وقلماً، وقالت لي: أنت مدرسي.. قل لي ماذا أعمل؟ وأخذت تسألني أسئلة.. كأنني أذاكر لها، مما يدل على احترام المعلومة عندها، فهي على استعداد أن تأخذها منك بنوع من التعامل السمح، دون كبرياء أو إيجاد نوع من الفوارق كأستاذ وتلميذ؛ فإذا كانت لديك معلومة فإنه يسعى إلى تلقيها منك دون أن يجد في ذلك حرجاً. كما تعلمت أيضاً: أن العمل يقوم على التدريب والتكرار والإعادة قبل ممارسته الفعلية، حتى يمكن أن يكون الإنتاج ذا مستوى جيد؛ هذه الأمور تعلمتها ورسخت في ذاكرتي، وقد ذكرتها عندما قال الأستاذ محمد عبد الواحد كيف يمكن أن يتولى رجل رئاسة تحرير مجلة نسائية، أولاً بصراحة هذه القضية ترجع لثقة الناشرين الأستاذ هشام والأستاذ محمد، فقد أحضراني وعرضا عليَّ هذا المنصب، فبنفس منطق، أني مستعد أن أقوم بتغطية مصلحة المجاري؛ قلت لهم أنا مستعد أقبل تحدي "سيدتي" لكن أعطوني وقتاً كافياً للمذاكرة؛ وبالفعل طلبت كل المعلومات حولها، وطلبت المعلومات الخاصة بتوزيعها وأرقامها وبالعاملين فيها، وجلست أذاكر الموضوع جيداً، ثم أحضرت كل المجلات الأجنبية التي تصدر. وعملت بحثاً، وكلفت بعض الأصدقاء الَّذين لهم خبرة في هذا المجال.. أن يكتبوا لي وسألت مجموعة من الصحفيين الكبار عن رأيهم، وبدأت تدوين ملحوظات حول العمل الَّذي سأمارسه؛ فلما ذاكرت.. قدرت أن أحصل على بعض المعلومات التي تساعدني في هذا الموضوع، وابتدأت أتعلم أموراً كثيرةً لها علاقة بالصحافة، فاكتشفت ثلاث أو أربع مسائل مهمة، هي: علاقة المحررين برئيس التحرير؛ وعلاقة المحررين ببعضهم، لا سيما إذا كان من يعمل معك من جنسيات مختلفة؛ وقد استطعت معالجة ذلك بالحكمة وبالخبرة التي اكتسبتها من عملي مع الأمريكان، وبينت للعاملين معي أن أهم شيء هو: العمل - فاستطعنا أن نرفع مبيعات المجلة إلى 81% من المنتج، وهي نسبة عظيمة.. إذا قيست بنسب مبيعات المجلات الأخرى.
- ولقد تعلمت من الأستاذ محمد بانخر - مدير توزيع شركة تهامة - أهم درس في حياتي.. له علاقة بالتوزيع؛ فعلينا أن نؤمن بالعلم وبالدراسات، فالشغل المهم في الصحف، هو كيف تقدر أن تبيع مجلة وكيف تزيد من انتشارها؟ كل ذلك له علاقة بالسوق، وله علاقة بالبيع، وهو يصدق في الصحافة.. كما يصدق في أي موضوع يتم تسويقه؛ العلم شيء عظيم جداً، وعليك أن تحترم كل الدراسات التي تقدم لك، وما عليك إلاَّ أن تأخذ مكاناً بجوار منفذ البيع، سل المشتري عما يعجبه، وما لا يعجبه؛ وقد قمت بتطبيق العملية، فقد كنا نشكو من ضعف بيع المجلة في المغرب، فتوجهت إلى المغرب.. وتجولت من طنجة إلى أغادير، مشيت على الساحل كله، وأقف عند كل نقطة بيع، واستطعت أن أتعرف على ملاحظات المشترين، ثم أعطيت ما حصلت عليه من معلومات لشخص متخصص في تحليل المضمون، وعمل لي تكرارات، تبين عدد الَّذين لا يقبلون على شراء المجلة، بسبب غلو السعر، ونسبة الَّذين يشترونها لسبب كذا؛ وهكذا بدأت أشتغل على النتائج التي حصلت عليها في المغرب، فزاد توزيعها بمقدار (6) أضعاف في فترة قصيرة جداً، وقدرنا بالفعل نوفرها لهم في الميعاد.. بالسعر المعقول، والمواضيع التي يرغبونها؛ ونجحت (والحمد لله) في "سيدتي".
- وكان الناشران راغبين في تطوير مجلة: "المجلة" فطلبا مني أن أكون رئيس تحرير مجلة: "المجلة" وقبل أن أتولى، أحببت أن أعرف سبب ترك زميلي الأستاذ عبد الكريم أبو النصر، فهو صحفي ممتاز، فالقضية عندي ليست أن تنتهز الفرصة لتحل مكان شخص آخر، فعندما علمت حقيقة الأسباب.. أنها كانت خاصة به، توليت المنصب وواجهت نفس المشكلة الموجودة في سيدتي، عالجتها بنفس الطريقة التي عالجت بها المشاكل التي واجهتني، عندما كلفت برئاسة تحرير مجلة "سيدتي".
- في مجلة: "المجلة" ابتدأت أكتشف أهمية.. أن تكون رئيس تحرير مطبوعة سياسية، فمنذ الدقيقة الأولى التي تتسلم فيها مهام رئاسة تحرير مطبوعة سياسية تغزو أفقك رغبات شديدة لرشوتك، يحملها إليك أرباب المصالح لخاصة؛ ولقد عشت تجربة مثيرة جداً، هي: تجربة عمل حوار صحفي مع العقيد معمر القذافي؛ فقد أصررت أن أقوم بدفع تكاليف إقامتي بالمنزل من حر مالي، والتزمت بأن أدفع أجور السيارات التي أستقلها خلال إقامتي من مالي الخاص؛ هكذا تعلمت أن الصحفي عليه إذا قام بعمل صحفي.. ألاَّ يقبل أية دعوة.. أو ما شابه ذلك، وإن عليه أن يقوم بعمله بشكل كريم.. لا يمس شرفه ولا كرامته.
- المهم مرت بي خلال فترة رئاستي تحرير مجلة سياسية هذه المشاكل.. مع العقيد القذافي، فبعد أن أنهيت الحديث.. طلب مني أن أقعد 7 ساعات، كان المفروض أن أقعد معه 4 ساعات، فأقعدني 3 ساعات بعد الحديث، أسئلة منه تدور حول عملي ومرتبي، ومدى سلامة علاقتي بعملي، ومن الَّذين أتعامل معهم. ومقدار العائد من بيع المجلة، وأسئلة من هذا القبيل.. وتطرق في أسئلته إلى الخسائر التي تتعرض لها الصحافة، فأجبته إن الصحافة كاسبة غير خاسرة؛ فقال: لقد أنبئت من قبل عدد من الصحفيين عن تعرض بعض الصحف لخسائر كبيرة، فنفيت ذلك، لكنه لم يصدق.. وكانت تجربة صعبة.
- ثم طُلِبَ مني - لأسباب تتعلق بإسناد المناصب الرئيسية الأساسية، في الصحف السعودية.. للمواطنين السعوديين - بأن أترك مكاني في مجلة: "المجلة" فرحبت جداً بهذا الأمر، وأخذته ببساطة شديدة؛ وبالفعل تعاونت مع زميلي رئيس التحرير الجديد، وقعدت معه أسبوعاً، وسلمته شغله، وعرفته بالزملاء.
- ثم أخذت أفكر في قضية.. كيف يمكن إيجاد صحافة عربية مستقلة؟ أي ليست مرتبطة أو تابعة لدولة أو حزب أو اتجاه؛ فالصحافة أصبحت صناعة ثقيلة، إذ تدخل فيها طباعة.. وفرز.. وألوان.. وكلفة استثمارية عالية جداً.. ولكي يمكن القيام بذلك، يجب توفر رأس المال، فمن يملك المال يملك التصرف في الرأي؛ أي لكي تكون مستقلاً في رأيك.. وفي نفس الوقت لا يتحكم فيك أحد، فلا بد من وجود مال في يديك، يمثل سلاحاً تستخدمه في معركة كفاحك في الحياة؛ ولقد حاولت مئة محاولة، ولكن – للأسف – كان كل باب أطرقه.. أفشل في فتحه فشلاً ذريعاً.
- ظللت بعد ذلك محافظاً على كتابة عمود في جريدة الشرق الأوسط، لقاء مبلغ محدد.. أتقاضاه شهرياً؛ ورفضت أن أزاول أعمالاً أخرى غير راض عنها، لذلك رحت أبحث عن أعمال تدر للمشتغلين بها أرباحاً مجزية، فوجدت العمل الناجح في بريطانيا - في فترة من الفترات - كان الاتجار بالعقار؛ فقد كان عائده إلى 300% و400%، ولعدم معرفتي بأسلوب التعامل فيه، فقد جلست أقرأ المجلات والكتب المتعلقة بالعقار وطرق بيعه، وأتعرف على الوكالات والمؤسسات التي لها باع طويل في هذا المجال؛ وبعد خمسة أشهر من القراءة والاطلاع، قررت اتباع أحسن الطرق وأسهلها في هذا المجال. وتتلخص تلك الطريق في أن تشتري بيتاً قديماً، في حالة يرثى لها في منطقة تعطي عائداً كبير، أو تدخل عليه بعض التحسينات، ثم تبيعه وتشتري غيره، وتتبع نفس الخطوات التي مارستها في المرة الأولى؛ فاستعنت بأحد أقربائي - وكان يعمل في القوات المسلحة في سلاح المهندسين - وبأخ مصري كان موجوداً هناك؛ وألقينا الشباك في ذلك البحر العميق.. مرةً بعد أخرى، فوجدنا أن حاصل ما غنمناه من تلك العمليات ما يسر النفس ويفرح القلب، ودارت النقود في أيدينا، ولكن الأمور لا تستقر على حال، فقد بدأت دورة العقار تجنح إلى الركود والكساد، وخشينا أن نقع في كارثة.. فتركنا الاتجار به.
- جمعت من خلال العمليات التي قمت بها - مع صاحبيَّ - في ميدان العقار، مبلغاً لا بأس به لكنه لا يمكنني من إصدار جريدة أو مجلة.. بالمستوى الَّذي أسعى إليه؛ فحاولت الحصول على قرض من البنوك.. فلم أحصل، وطرقت ساحات المغامرة والاتجار بالعملة، فاشتريت – في فتـرة من الفتـرات – بما أملك من جنيهات استرلينية دولارات، حيث انخفض سعر الدولار انخفاضاً كبيراً، وذهبت بالدولارات إلى مصر، وبعتها، حيث كان سعر صرفها مرتفعاً، ثم فكـرت – مع بعض الإخـوة – في أن نؤسس شركة لإصدار مجلة، واتفقنا على تسميتها بـ: "الصحفيون المتحدون".
- ولكي يطمئن الناس على صدقنا، جعلنا محامي الشركة الدكتور كمال أبو المجد، وهو رجل محام فاضل جداً، ويتبع مكتب محاماة، يطلق عليه: "بيكر آند ماكنزي" واتفقنا مع محاسبه، وهو: "ايرنست أند يونغ" أشهر مكاتب المحاسبة في العالم، ليقوم بمراجعة وتدقيق حساباتنا، حتى يتأكد كل من يريد الاطلاع على حساباتنا من سلامتها؛ وبالإصرار والعزم - بعد عون الله - صدر طبعاً العدد الأول من مجلة: "كل الناس" وربما سأل سائل لم اخترنا: "كل الناس"؟ والجواب على ذلك: حتى تكون هي المطبوعة الأولى؛ فمجلات الأسرة هي التي تخلق النقود، لأن السوق في هذه المرحلة كان يحتاج إلى تخطيط إعلانات لسلع استهلاكية، من نوعية مجلة بهذا الشكل.
- وكنت وزميل لي اسمه الدكتور سميح قاسم، نغزو الأسواق كتجار شنطة.. للحصول على إعلانات للمجلة، إلى أن حصل التطور الدراماتيكي وليس لذلك علاقة إطلاقاً بشيء يسمى موهبة.. بالنسبة لي وللعاملين معي؛ ولكن حدثين قد يبدوان أنهما شر، الأول: هو غزو دولة العراق لدولة الكويت، كانت نتيجته أن تعطلت الصحف الكويتية، فتعطلت مجلات الأسرة الكويتية التي كان لها ميزانية مرصودة في السوق.. في ذلك الوقت؛ الأمر الثاني: أن شركة تهامة، وهي أكبر شركة إعلانات في العالم العربي، كانت تتعامل مع أقوى دار نشر في العالم العربي، وهي الشركة السعودية للأبحاث والتسويق؛ والمؤسستان كانتا تملكان عقد امتياز إعلان فارتأتا أن تنفصلا؛ وبشكل حضاري الشركة السعودية عملت لنفسها شركة إعلانات، وشركة تهامة ابتدأت تبحث لنفسها عن أسلوب جديد للتعامل في سوق الإعلان؛ فأصبح العبد لله هو المطبوعة الوحيدة المستقلة الموجودة في السوق، التي يمكن التعامل معها.
- فاتصل فجأة ذات يوم شخص أحبه وأحترمه جداً، اسمه: الأستاذ غازي جميل.. مدير عام شركة تهامة؛ وأخبرني عن رغبته في زيارتي في مصر، فرحبت بذلك، وقال لي: لقد قررنا أن نسند نشر إعلانات المؤسسة إليك، فشعرت أن الله قد بعث لي من عنده الفرج.
- هذه القضية أيضاً ليس لها علاقة بأي موهبة أو عبقرية في الموضوع؛ بعد ذلك تمت تنمية هذه العلاقة، وبقينا نحن في علاقة عمل وشراكة طويلة جداً، منها أن كل الإصدارات التي تفكر في إصدارها تهامة.. تستطيع أن تؤمنه إعلانياً مسبقاً، بحيث أنها هي الشركة صاحبة الامتياز؛ وابتدأنا نفكر في مجموعة من الإصدارات، منها: "العالم اليوم" وهي جريدة متخصصة.. وفي سلسلة من المطبوعات المستقبلية.
- ما هي فكرة: "العالم اليوم"؟ العالم اليوم كانت هي المشروع الأول الَّذي أحلم به؛ ولأنه مكلف.. والعائد الاستثماري منه لا يأتي سريعاً و "العالم اليوم": هي ببساطة أول جريدة متخصصة في شؤون المال والاقتصاد، توجه للنخبة وصانعي القرار العربي.. ورجل الأعمال العربي؛ وتبين لهم مدى حجم الأموال المتداولة في العالم؛ والوعي الموجود عند أصحاب رؤوس المال دى قد كده. فالوعي المعلوماتي الموجود عند أصحاب رؤوس المال. هو توفر المال في أيديهم، أما علاقاتهم بالعالم فمفقودة، فلا يدركون أين تكمن المصلحة؛ وهذه هي المسألة الجوهرية الناقصة عندنا في العالم العربي.. أين تكمن مصلحتك؟
- لغة المصالح لغة غائبة عن صانع القرار العربي، فالتفكير عندهم مزاجي.. شخصي.. مصلحي في نطاق ضيق.. ولكي تتخذ قرارك السليم، يجب أن تكون مزوداً بأكبر قدر من المعلومات؛ قرارك الخاص بسلعة اليوم لم يعد مرتبطاً بسوقك المحلي، ولكن أصبح له علاقة بالظرف السياسي، وأصبح له علاقة بأسواق المال (البورصات) وأصبح له علاقة بالسوق العالمي للعملات؛ فعلى صانع القرار أن يكون محاطاً بكل ما يدور في العالم المحلي والخارجي.. من أحداث سياسية وتجارية؛ ووجدنا أن الصحافة يجب أن تلعب دوراً كبيراً في هذا الطريق.
- من هنا أصبحت: "العالم اليوم" تجربة غير مسبوقة في الصحافة العربية، وهي الجريدة الأولى والوحيدة التي تقدم هذه الخدمات؛ وقبل أن تصدر هذه الجريدة؛ واجهتنا عقبات شديدة، أهمها - ولا أكتمكم سراً أننا كلنا زملاء وأبناء مهنة ولنا نقاط تميزنا ونقاط ضعفنا - أن الصحافة العربية خالية مما يسمى بالخبير الاقتصادي أو المالي، أو الكاتب المتخصص، أو المخبر الصحفي الواعي.. الَّذي يستطيع أن يقدم الخبر الاقتصادي أو المالي بطريقة سليمة، وبطريقة علمية، وبطريقة متكاملة للقارئ؛ وأنا واحد من هؤلاء؛ فكان علينا لزاماً أن نبذل جهداً تعليمياً مع أنفسنا، كي نصل لهذا المستوى؛ نحن ضعاف جداً في الإخبار المالي والاقتصادي، ونحتاج إلى رحلة طويلة من العلم والتجربة والمعرفة والخطأ، حتى نصل للمستوى المطلوب؛ وهذه نقطة يجب أن نعترف بها.
- فاخترنا شباباً تخرجوا حديثاً من شُعب سياسة واقتصاد.. من الجامعة الأمريكية، يجيدون لغات لها صلة بإدارة الأعمال والشؤون المالية؛ واكتشفنا أنه من السهل أنك تقوم بتعليم متخصص في شؤون المال والاقتصاد صحافة، على أنك تقوم بتعليم صحفي شؤون مال واقتصاد؛ فاخترنا 17 شاباً وشابة، وأدخلناهم معسكراً طويل الأمد - لمدة سبعة أو ثمانية شهور - كي نعلمهم كيف يمكن أن يكون الواحد منهم مخبراً صحفياً.. يصيب ويخطئ، لكن لن يتم ذلك إلاَّ إذا وجدت نواة عند الشخص لما يخبر عنه. هذه إحدى العقبات.
- العقبة الأخرى كنا في حاجة إلى ظهر يقوم بمدنا إخبارياً.. بالمادة الدولية، لأننا مرتبطون بالسوق العالمي؛ فعملنا اتفاقية مع داو جونز، مع الوول ستريت جورنال، مع الفانيانشيال تايمز، مع خدمة رويتر المالية والاقتصادية، وهذه تختلف عن الخدمة اليومية؛ وابتدأنا تركيب الأجهزة اللازمة لتسيير دفة العمل على أحسن وجه، بعد أن عالجنا مشاكل تكنولوجية هذه الأجهزة وتركيبها، ووصولها عن طريق الدراسة والتدريب؛ وقد تمكنا من نقل بعض الأنظمة التي تسير عليها بعض الصحف العالمية الكبرى، وإدخال التمصير والتعريب عليها؛ بما يتفق مع إمكاناتنا المادية، وبما يتفق مع قدرة الفريق العامل.
- ومن المشاكل التي واجهتنا.. مشكلة الخبراء؛ فنحن نحلم حتى هذه اللحظة بأن يكون لدينا خبير ضرائب.. يكتب عن الضرائب؛ وخبير جمارك.. يكتب عن شؤون الجمارك؛ وخبير طاقة؛ وخبير موانىء؛ وخبير شحن؛ وهلم جرَّا..
- وهناك قضية ترخيص المطبوعة الأجنبية، فشركتنا ذات شخصية بريطانية ومقرها في جمهورية مصر العربية، ومعنى ذلك أنها تطبع في نقطة.. لكن سوقها الرئيسي في المملكة العربية السعودية - أي نقطة أخرى - وهذا يستلزم شحنها، والشحن يتطلب معرفة مواعيد الطائرات، حتى يمكن وجود المجلة في سوق التوزيع.. قبل موعدها بوقت كاف؛ والعملية بين طباعة المجلة وبين توزيعها تمر عبر قنوات عديدة؛ فالخبر بعد كتابته يصحح ويصف، ثم تعطى منه صورة.. تراقب، ثم تخضع لعملية الزنك، وتطبع.. ثم تجلد وتغلف بالبلاستيك، ثم ترسل إلى شركة الشحن؛ وتقوم شركة التوزيع بإيصاله إلى شركة الطيران، التي تتولى نقله إلى إدارة الشحن.. لنقله إلى الطيارة؛ وفي مطار التوزيع، تؤخذ عدة نسخ من المطبوعة إلى مكتب حرية الصحافة.. وتتم مراقبتها، وبعد الموافقة عليها تفسح وتسلم لشركة التوزيع؛ وهكذا دواليك.. مواعيد ليس لك أي مقدرة على التحكم بها، إلى أن تتحقق لك الطباعة داخل المملكة.. أو في نقطة قريبة جداً منها؛ لكن المعجزة السماوية التي حدثت، في: أن الصحيفة توزع في الصباح، وقد يسألني سائل كيف يتم ذلك؟ فأقول هذا سر المهنة، والفضل في ذلك لله (سبحانه وتعالى) ولمجموعة الناس، الَّذين يشتغلون معي.. وشركة تهامة للتوزيع.
- أما نقطة الدرس الَّذي تعلمته، فيتعلق بتوصيف الوظيفة لرئيس التحرير؟ وأستاذنا الشاعر العظيم الأستاذ فاروق شوشة، أعطاني أكبر من حقي عندما قال: إنك تعرف تختار زملاءك؛ قد يكون في هذا القول بعض الصواب، غير أن النقطة التي أود أن أقولها، هو أن هناك فهماً آخر لرئيس التحرير.. وعند بعض الأفراد، هو الشخص الَّذي يمسك بيده كل شيء؛ فهناك بعض رؤساء تحرير محترمين، يدعي أنه إذا غاب عن عمله توقف العمل؛ وهذا في رأيي يدل على أنه غير ناجح، فالشخص الَّذي يعتمد عليه نظام مؤسسة ما.. تعتبر تلك المؤسسة بلا نظام، لأن الشخص الناجح الَّذي يخلق نظاماً.. ولا يعتمد عليه النظام؛ فأنا أقل عملاً في مجلة: "كل الناس" فزملائي يشتغلون أكثر مني - ولهم الفضل - لأن كل واحد عنده مسؤولية؛ ويمكن حصر مهمتي الأساسية في أمرين: أنني أنا الَّذي اخترتهم، وأنني أنا الَّذي أتابع عملهم؛ لكن في النهاية.. هؤلاء الأخوة الَّذين يقومون بإصدار: "كل الناس" أو: "العالم اليوم" يعود إليهم الفضل في الصواب، وأما الخطأ فأتحمله أنا.
- وإدارة الأفراد فن وعلم، فكيف يمكن لك أن تكون مديراً ناجحاً؟ وكيف تقدر أن تتخذ قراراً.. مهما يكن القرار؟ بحيث لا يكون شديداً فيكسر، ولا ليناً فيعصر، وإنما سمحاً حازماً.. سمحاً في غير لين، وحازماً في غير قسوة؛ والإدارة تقوم على العدل؛ وأعتقد أن أعظم مدير، هو الخالق في إدارته لهذا الكون؛ فإذا عدلت.. فأنت مدير ناجح؛ وأعتقد أنك إذا عملت قراراً وأنت تشعر في قرارة نفسك - برغم كل القوانين واللوائح - أنك عادل فيه وضميرك مستريح - مهما كانت تبعات القرار - فأنت منصف، تستطيع عمل القرار السليم.
- في نهاية الأمر ألخص لكم كل هذه التجربة، ولا أعد نفسي أفضل أبناء جيلي، بل هناك أناس كثيرون من جيلي أفضل مني مهنياً وصحفياً؛ ربما تكون هناك صفة واحدة تميزني، هي إيماني الشديد وأن محض الإخلاص القوي.. لن تكون نتيجته الفشل، وأن ربنا (سبحانه وتعالى) سيغنيني ما دمت أسير على الدرب المستقيم؛ فليس في الصحافة اختراع، بل في الصحافة علم؛ فعلى الإنسان إذا أراد أن يحقق شيئاً، أن يتعامل بتواضع التلميذ.. وبفهم وبجهد دؤوب؛ وفي النهاية - قبل كل شيء وبعد كل شيء - الحمد لله.. وأشكركم.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :585  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 170
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.