شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة السيد أمين العبد الله ))
ثم أعطيت الكلمة للأستاذ أمين العبد الله - مدير عام مؤسسة البلاد للصحافة والنشر - فقال:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم إني أسألك باسمك الأعظم أن تصلي وتسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، أكرم صلاة وأشرف سلام.
زمن كالربيع حلَّ وزالا
ليت أيامه خلقن طوالا
 
- أجل ذلك زمن مضى في ربوع طيبة الطيبة، الأرض التي أحبها الله، ثم حببها لرسوله صلى الله عليه وسلم، الأرض الكريمة المكرمة التي عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى على ثراها، وأحب ثراها، وأحب جبالها، وأحبها - قبل ذلك - كونها مصدراً من مصادر القوة الإسلامية، وينبوعاً من منابع الإسلام.
 
- تلك هي "المدينة" كيف أستطيع أن أتحدث عنها؟ كيف أستطيع أن أنقل المشاعر التي يبعثها هذا الموقف في نفسي، عن ماض طويل بعيد جميل رائع، أحسب أن أصداءه ما تزال تتردد بين جنبات نفسي، كأن السنين الطوال لم تفصل يني وبينه، كأن ذلك الماضي بالأمس القريب، لأنه كان يزخر بالحب، بالإيثار، بالإيمان، بالمثل العليا.. التي أصبحت قيماً، والتي أصبح البعض الآن يبحث عنها فلا يكاد يجدها؛ إنه ماضٍ يبعث في النفس المشاعر النابضة بالحنين، بالوفاء بالإكبار.. بكل لحظة من لحظاتها، لأنها كانت زاخرة بأسمى المعاني وأشرفها..
 
- يكفي أنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، يكفي أنها عاصمة الإسلام الأولى، يكفي أنها المنطلق التي خرجت منها رايات محمد صلى الله عليه وسلم لتنشر في العالم كله الإيمان والاستقرار والرخاء والأمن، بعد أن كان العالم في تيه من الضلال والضياع، بسبب عبادة الطواغيت.
 
- كانت المدينة هي ذلك الينبوع الَّذي روى أرض العالم، فأثمرت خير الأثمار؛ إنه حديث طويل ولكنه جميل، وأجد نفسي عاجزاً عن تصوير جزء من ذلك الماضي الجميل، فقد امتلأت نفسي - وأحسب أن الكثيرين قد امتلأت نفوسهم - بأطيب الذكريات عن مدينة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ليس في الماضي البعيد.. الماضي الَّذي كانت المدينة فيه تتلقى تعليماتها اليومية عن السماء؛ فذلك عهد من عهود البشرية التي لا مثيل لها، ولكني أعني عهداً عشته وعاشه غيري، ولكنه في نفسي الآن.. كأنه ذكرى من ماضٍ بعيد.
- أحسب أنني حين أتذكر ذلك الماضي كأنني أقرأ صفحات كتاب قديم، كأنني أشهد ما كان يشهده الأقدمون في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المدينة التي عاش فيها الإمام مالك، وكان يمشي فيها حافياً.. إكراماً للأرض التي ضمت جسد الرسول صلى الله عليه وسلم ويزداد إعجابنا بالإمام الكريم والعظيم، حين نعرف أنه كان يلبس ملابس تُصنع في مصر، وكان يتلقاها من صديقه فقيه مصر، الليث بن سعد؛ هذا الرجل الأنيق... الرجل الَّذي وصف فاكهة الموز ذات مرة، فقال: إنها الفاكهة التي لا تتأثر بالذباب؛ هذا الرجل الأنيق كان يمشي حافياً إكراماً لأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- صدقوني، لقد رأيت في المدينة نماذج تذكرني بالإمام مالك، تذكرني بالزاهدين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فترة من أعجب الفترات، لو لم أعش تلك الفترة لما تصورت قط أنه يمكن أن تكون؛ ولعل البعض حينما يقرأ أو يسمع جانباً أو جوانب من تاريخ المدينة القديم - أو بمعنى أدق: من تاريخ الإسلام في عهوده المشرقة - يتصور أن المؤرخين والرواة قد بالغوا في نقل ما نقلوه إلينا؛ ولكنني قد عشت في هذا البلد الطاهر، وعرفت أهله وميولهم، ورأيت سلوكهم وعلاقاتهم.. أدركت أن المؤرخين والرواة كانوا صادقين كل الصدق فيما نقلوه عن طيبة الطيبة؛ وكما قال الأستاذ الكبير الصديق، حسن القرشي عن هذه الأرض.. التي أنبتت الشعر والشعراء: أحسب أن طبيعة المدينة التي صقلت وشكلت الإنسان المدني في القديم وفي الحديث، فقد كانت المدينة - كما نعلم جميعاً - واحة في صحراء، يجد المسافر فيها الزهر والشجر والماء والظل؛ ويسمع فيها الصوت الجميل، إن لم يسمعه من إنسان أو من آلة.. فهو يسمع هذا الصوت من "السواني" ولها صوت نعرفة جميعاً.
- ومما يقدم لمحة عن "المدينة" في الماضي القديم، وعن مستوى الذوق في هذه المدينة، أن الرحالة العياشي - عندما زار المدينة وسجل انطباعاته عنها - ذكر أن أهل المدينة يحرصون على شراء باقات من الزهر كل يوم، وحدد القيمة التي يشترون بها الباقات، بأنها لا تقل عن سبعة دراهم؛ توقفت طويلاً حينما قرأت هذه السطور في رحلة "العياشي" عن المدينة، أليس هذا دليلاً على مستوى رفيع في ذوق أهل المدينة؛ إنهم لا يكتفون برؤية الأزهار في البساتين - ولم تكن بعيدة عنهم - ولكنهم يحرصون على أن تكون الزهور بجانبهم، في بيوتهم، وفي مجالسهم..
 
- بهذا كان الناس في المدينة: شعراء، حتى أولئك الَّذين لم يقولوا الشعر، نجد في سلوكهم شعراً، نجد في لباسهم شعراً؛ إنها صور تتوالى في الذهن، وأجدني عاجزاً كل العجز عن نقل شيء منها.
 
- أرأيتم لو أن إنساناً أراد أن يصور مجرة يسبح الضوء فيها، كيف يستطيع أن يصورها؟ هل أستطيع أن ألتقط من المجرات نجمة؟ إنني ألتقط من مجرة المدينة شعاعاً واحداً فقط، ولكنه شعاع يكفي لتصوير المدينة، وتصوير النور الَّذي يغمرها.. ويغمر نفوس أهلها.
- في هذا الجو، في هذه البيئة، نشأ الكثير من الشعراء في الماضي، وقد زخرت كتب الأدب بأسمائهم.. وبأشعارهم؛ ونشأت وأنا أرى بين أهل المدينة شعراء، أرى هناك السيد عبيد مدني، عمر بري، عبد القدوس الأنصاري (رحمهم الله جميعاً) وأرى كتاباً، ومازلت أذكر - ولعلكم جميعاً تذكرون وتعرفون - أن القصص الأول الَّذي صدر في المملكة… إنما صدر من المدينة، صدر عن عبد القدوس الأنصاري، وصدر عن أحمد رضا حوحو، وعن محمد عالم الأفعاني؛ ثم رأينا باقة يانعة من الشعراء، الأستاذ الَّذي نسعد اليوم بلقائه.. عبد الرحمن رفة، حسن صيرفي، محمد هاشم رشيد، وأخيراً - وليس آخراً - الدكتور محمد عيد الخطراوي..
- وحين أتحدث عن شعراء المدينة، إنما أتحدث عن بشر يمثلون البشرية التي نحلم بها؛ فيهم الوداعة، وفيهم السكينة، وفيهم كل ما يتصوره الإنسان عن الإنسان، الَّذي يسعى للحقيقة.. ويبحث عن السعادة؛ إن الشعر لديهم - لا سيما لدى مجموعتنا التي تحدثنا عنها، والتي نسعد اليوم بلقاء عدد منها، ومنهم الأستاذ الكبير محمد هاشم رشيد - لا يمثلون أولئك الشعراء، الَّذين يتخذون من الشعر وسيلة لغايات في أنفسهم، لا يتخذون من الشعر وسيلة للمنصب ولا للجاه، ولا حتى للنفوذ؛ إنهم يقولون الشعر مثلما كان يقوله الشعراء الأقدمون، تنفعل نفوسهم بمنظر جميل، بفكرة رائعة، فيعبرون عنها شعراً.
- الجانب الإنساني في شعراء المدينة - ولست أظلم غيرهم من الشعراء؛ فما أروع الجانب الإنساني في كثير من شعرائنا، وفي مقدمتهم الشاعر الكبير حسن عبد الله القرشي، الَّذي أعتبره مثلاً رائعاً للشاعر وللإنسان في أجمل الصور وأسماها - أقول: إن الجانب الإنساني في شعراء المدينة جانب جدير بالتأمل، حين أتذكر شاعرنا الَّذي نسعد اليوم بالاحتفاء به - وأنا بعد أعشق الكلمة وأبحث عن المعنى، وأحاول أن أحضر مجالس الكبار - حين أتذكره في تلك الفترة أكاد أشعر أنه لم يكن يريد أن يقول إنه شاعر، لا تجد عنده الإحساس بالكبرياء، أو حتى بالاعتداد بالنفس؛ لا تجد عنده هذا الإحساس الَّذي نجده لدى المبدعين.. أو لدى بعضهم؛ تعجب حين ترى عبد الرحمن رفة يتحدث، يسير مع أصدقائه ومع زملائه، كأنه الأقل علماً وكأنه الأقل شعراً، وكأنه الشخص الَّذي لا يشعر بأنه يتميز عن غيره بأية ميزة.
 
- تلك لعمري صفة إنسانية لا يرقى إليها إلاَّ القلة من الناس، القلة من الناس في هذا العصر.. الَّذي غلبت فيه الأنانية والأثرة؛ إنه شاعر خليق بأن يُدرس شعره، وأن يتصدى النقاد لإلقاء الضوء على مواضع الجمال والقوة والعمق فيه؛ حاولت قبل أيام أن أحصل على نسخة من ديوان الشاعر، ولكن مكتبتي مهملة منذ فترة طويلة، ولم أستطع أن أحصل على الديوان حتى أختار منه ما أقوله.
- ولكن حسبي أن أقول: تلتقون اليوم بشاعر وإنسان يمثل أنموذجاً من النماذج لا تتكرر كثيراً، لأنه إنسان - كما قلت - لا يعرف الأنانية، ولم يرتفع عنده إحساس بالكبرياء أو حتى بالاعتداد، كأنه يقدم شيئاً عادياً؛ إنه شاعر خليق بتقديرنا ومحبتنا وإعجابنا؛ لعلي - وقد فاتني أن أعثر على الديوان بمكتبتي - أن أقدم لكم بعض الأبيات التي رأيتها الآن، وأحسب أنها جديرة بأن تمثل شاعرنا تمثيلاً قد يكون جيداً؛ والقطعة بعنوان: "لولا التجلد":
قالت تملكك الذهول فقلت ذا
هو بعض ما ألقاه في لقياكِ
لولا التجلد كنت شخصاً هالكاً
يفنيه منك إذا رنت عيناك
رحماك أني مذ عهدت تجلداً
في النائبات ولم يخف إلاكِ
يُغضي حياء حين يبدو مائلاً
منك القوام وإن يكن يهواك
 
- أحسب أن في هذه الأبيات صورة تعكس مستوى الشاعر، وأحسب أنها كافية لتحديد - أو لإعطاء - نقطة جمال من هالة شعرية حول هذا الشاعر الكبير؛ وشكراً لصاحب "الاثنينية" الَّذي يتيح لنا دائماً هذه اللقاءات الممتعة، وأرجو أن نلتقي دائماً في هذا المكان.. ونحن جميعاً على ما نحب؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :780  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 170
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.