(( كلمة المحتفى به الدكتور عبد الرحمن الأنصاري ))
|
وبعد أن تحدث بعض من أراد التحدث، وأعطوا صوراً جليلة عن جوانب عدة من حياة المحتفى به، أعطيت الكلمة للمحتفى به فقال: |
- بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على رسول الله.. |
- في الحقيقة: لا بد أن أبدأ حديثي بشكر هذا الرجل المفضال، الَّذي أشعر أنه بقية من تلك الفئة الصالحة التي تكرم العلماء وتكرم المفكرين في هذا البلد؛ والحقيقة أنني عندما جئت - منذ أكثر من عام - في هذا المكان، لتكريم زميلي الأستاذ الدكتور منصور الحازمي، قلت: بخ بخ لرجل يجمع العلماء بين يديه.. ويتحدثون ويستمع إليهم، ثم يذهبون والثناء العاطر على ألسنتهم يلهج بذكراه في شرق الجزيرة وغربها، وفي كل مكان يذهبون إليه..، تلك هي المكرمات في سيرة هذا الرجل: عبد المقصود خوجه. |
- إن العلماء والمفكرين والباحثين - وأرجو أن أكون واحداً منهم - يرضيهم أقل الأشياء، يرضيهم أن يُقال لهم شكراً شكراً على ما قدمتم؛ في هذا اليوم أشعر - حقيقة - بالفرحة الغامرة، فرحة لم أتخيلها في يوم من الأيام، أن أرى أكثر من واحد مكرَّماً من مواطني هذا البلد، ونحن العرب تعودنا أن نرثي العلماء، ولكننا لم نتعود أن نكرم العلماء بمثل هذه الطريقة في حياتهم، ليستردوا بكلمات يستمعون إليها، بعد أن أمضوا جيلاً طويلاً - أو فترة طويلة - يحققون وينقبون ويبحثون. |
- الحقيقة: أني في منتهى السعادة في هذه الليلة، وأنا أصدقكم القول ولا أُماري في ذلك؛ أنا نشأت يتيماً في المدينة المنورة، توفي أبي وعمري في التاسعة، أمشي في حواري المدينة وأشم شذا التاريخ وشذا الحضارة الإسلامية، دخلت الكُتَّاب قبل أن أدخل المدرسة، حفظت القرآن الكريم (ولله الحمد) ثم انتقلت إلى مدرسة العلوم الشرعية، ومكثت فيها فترة طويلة، لا أفقه علماً واحداً - أحرجـني كثيراً - وهو علم الحساب، وتعبت من هذا العلم. وأكلت كثيراً من الضرب، وانتقلت بعد ذلك إلى المدرسة الناصرية، فقبلت في السنة الرابعة، وفي هذه السنة قابلت كثيراً من الزملاء، الَّذين أقدرهم.. وبعضهم معي في الجامعة، وأكملت المرحلة الابتدائية. |
- وكنت في شوق كبير لكي أدخل المدرسة الثانوية، ولكن الوصيَّ عليَّ (رحمه الله) أبى أن أدخل المدرسة الثانوية، وقال لي: أنت من بيت علم ديني، ولذلك لا بد أن تدخل المعهد العلمي السعودي؛ ودخلت المعهد العلمي السعودي مرغماً عليه، وبرزت (ولله الحمد) وذهبت إلى مصر، وكنت مُغرماً بدار العلوم في مصر لما سمعته عنها من بعض الأساتذة الَّذين علموني بالمعهد العلمي، ورغبت أن أوجه إلى دار العلوم، غير أن مكتب التنسيق في القاهرة، أصر على أن أدخل كلية الآداب، وعملت ما استطعت من تأثيرات، حتى أبرق وزير المعارف - آنذاك - إلى المسؤولين بالمكتب، قائلاً لهم في برقيته: حققوا لعبد الرحمن الأنصاري ما يريده.. وأدخلوه دار العلوم. |
- ولكن مكتب التنسيق أصر على أن لا يدخلني دار العلوم.. وأن أدخل كلية الآداب، ودخلت كلية الآداب على مضض، وبعد حصولي على الليسانس عدت معيداً في كلية الآداب - بجامعة الملك سعود، متخصصاً في النحو العربي.. أو في الأدب العربي؛ وقال لي الأستاذ الدكتور مصطفى السقا: إذا كنت تريد أن تدرس النحو فلتذهب إلى مصر.. مالك؟ ولبريطانيا؛ فقلت له لا، إنني أريد أن أذهب إلى بلاد الإنجليز، لأرى كيف يدرسون.. وكيف يفكرون؟ فلا تُضع عليَّ هذه الفرصة؛ فقال: إذن اذهب لدراسة الأدب الجاهلي؛ وذهبت إلى بريطانيا، وذهبت إلى جامعة ليدز، لم تتح لي فرصة الأدب الجاهلي، وإنما درست شيئاً قريباً من الفترة الجاهلية، وهي النقوش العربية القديمة، التي كانت - ولا زالت - موجودة على سفوح الجبال، منتشرة في أنحاء المملكة العربية السعودية، وفي أنحاء الجزيرة العربية. |
- وكنت لا أفقه من ذلك شيئاً، إلاَّ ما درسته على يد الأستاذ يحيى خليل نامي (رحمه الله رحمة غامرة) فقد كان هو الشخصية الوحيدة من العرب، الَّذين يتقنون الكتابات العربية القديمة، أو الكتابات الحميرية القديمة، وكان يدرسها على استحياء في مادة فقه اللغة، الَّذي يدرس في قسم اللغة العربية؛ وقلت لأستاذي: إنني لا أعرف من هذا شيئاً سوى درس أو درسين درستهما في كندا؛ قال لي سأدرسك كل شيء؛ ودرست شيئاً من العبرية، وشيئاً من الآرامية، وشيئاً من السريانية، وشيئاً من العربية القديمة، ووفقني الله، واستطعت أن أدرس النقوش اللحيانية، وأن أدرس استمرار النقوش اللحيانية من الألف الثانية قبل الميلاد، حتى الفترة العربية التي هي قبيل الإسلام. |
- في هذه الفترة.. لا أدري لماذا استحوذ هذا الأستاذ عليَّ؟ وقال لي: مادمت درست هذه النقوش فلا بد أن تدرس شيئاً عن الآثار؛ قلت له: إني لا أعرف شيئاً عن الآثار إلاَّ ما أراه في المدينة، ثم ما كنت أزوره في مصر عندما درست هناك؛ فقال لي: اذهب إلى كوربرج - في شمال بريطانيا - وشارك في حفرية أثرية؛ وذهبت وأنا لا أفقه شيئاً في الآثار - من حيث التنقيب - ومكثت شهرين وأنا أحفر وأحمل الطين - ووقاكم الله شر الطين في بريطانيا، لأنه مليء بمياه الأمطار ليل نهار، والطين عندما تأتي بالجاروف وتشيلها، توزن عشرة كيلو في كل وزنة - وكانت البعثة مكونة من بنين وبنات، وكانت البنات ينظرن إلى هذا العربي بينهن القادم من الجزيرة العربية ليحفر في الآثار؛ بل كنَّ يحاولن قدر الإمكان أن يملأن العربة من الطين قدر ما يستطعن، إما نكاية بهذا العربي.. أو لا أدري لماذا؟ وكنت أحمل هذه العربة وأذهب بها بعيداً. |
- وانتهت الفترة وتعلمت منها الكثير، كانت الدراسة في الصباح والمحاضرات في المساء؛ ثم بعد ذلك تولاني هذا الأستاذ، وأخذني معه إلى صقلية لموسمين متتابعين، وأشرف عليَّ؛ ثم بعثني إلى القدس - أعادها الله إلينا - ومكثت فيها شهرين - أيضاً - أحفر في جنوبي الحرم الشريف، وأيضاً وجدت العجب هناك، الحقيقة: عندما كانوا يحفرون في القدس، كانوا لا يحفرون ولا ينقبون تنقيباً علمياً دقيقاً، وإنما كانوا إذا جاءت الطبقات التي تثبت وجود فترات إسلامية، كانت ترمى هذه الآثار وكانت تُطمس، وكانوا يحفرون عما قبل ذلك؛ وكان قلبي يمتليءُ غلياناً على هذا، عدم الحَيْدة في إظهار الحقيقة العلمية؛ وكنت أتحدث إلى ممثل إدارة الآثار الأردنية - آنذاك - ولكنني قدرت موقفه، لأن البعثات الأجنبية تأتي بأعداد ضخمة من العلماء والفنيين، لدرجة تعجز عنه الحكومات العربية أن تتابعها وتواليها؛ كان شخص واحد، وكان هناك ثلاثة وأربعين حفرة محفورة في الموسم الواحد، لا يستطيع أي شخص أن يوالي هذا القدر الكبير من التنقيبات والقدر الكبير من العمال، الَّذين يحفرون لمدة 10 ساعات في اليوم. |
- ولقد أدركت الآن لماذا قال الزميل الدكتور منصور: إن من يذهب إلى بريطانيا يعود لها كارهاً؛ ففي كلامه شيء من الصحة، فالَّذين يدرسون في بريطانيا يشعرون باعتزاز الإنجليز بتراثهم وتاريخهم، في حين ينظرون إلى الناس من علٍ؛ وكانت بريطانيا عندما ذهبت إليها ما زالت في قوتها في ذلك الوقت، وكان الإنجليز ينظرون إلى العرب نظرة خاصة بعد حرب السويس؛ وكانوا ينظرون للعرب نظرة فيها نوع من الكراهية، ولذلك عندما عدنا فعلاً عدنا ونحن نشعر أن علينا واجباً، وهذا الواجب يفرض علينا أن نندفن في البحث التاريخي، ونحاول - قدر الإمكان - أن نضع اللبنات الأولى لأدب الجزيرة العربية، ولتراث الجزيرة العربية، ولحضارة الجزيرة العربية. |
|
- نحن لسنا من الناس الَّذين يبحثون عن مباهج الحياة، نحن أناس نريد أن نحفر تاريخنا بأيدينا، وننقب عنه ونظهره للناس والحمد لله: وجدنا البيئة الصالحة للنبات الَّذي وضعناه، وبدأنا نجني كثيراً من الثمرات؛ والسبب في كل ما ذكره الزملاء عني - وأرجو أن يكون هذا فيَّ - أنني شعرت أن الآثار من الموضوعات التي لا يحبها الكثير من الناس.. |
|
- لابد أن تقنع الناس بأن الآثار شئ، ولابد أن تقنعهم بما يجعلهم يؤمنون بالآثار؛ ولذلك كان كل هدفي أن تصبح الآثار شيئاً بعد أن لم تكن شيئاً؛ والحمد لله خلال ربع قرن استطعت - بفضل من الله، وبفضل من تدعيم الدولة، وتدعيم جامعة الملك سعود - أن أجد في قسم الآثار ما لا يقل عن خمسة عشر دكتوراً سعودياً، يحملون درجة الدكتوراة في الآثار، وعدداً ممتازاً من الأثريين في إدارة الآثار؛ ووجدت الإعلام يتحدث عن الآثار، ووجدت أن الأجانب بدؤوا يهتمون بآثار الجزيرة العربية، ويدركون أننا على قدم المساواة. |
|
- نحن أنداد لهم في هذا المجال، ولسنا أولئك الناس الَّذين كانوا يضحكون عليهم في دول الخليج وفي اليمن: نحن هنا قاعدة قوية لدراسة الآثار، ليس في المملكة العربية السعودية فقط، ولكن في الجزيرة العربية نرجو أن نوفق - إن شاء الله - لتصبح المملكة مصدراً من مصادر المعرفة في هذا الجانب. |
|
- الحقيقة: أنني أطلت، ولكن دائماً كنت أشعر أن الأوائل لا بد أن يكونوا أوائل حقيقة وإلاَّ: فليتركوا المجال لمن يأتي بعدهم؛ نحن قمنا بما نستطيع أن نقوم به، ولا بد أن نترك للأواخر - أيضاً - أشياء يقومون بها؛ ومن أمثال هؤلاء زميلي الأستاذ الدكتور سعد الراشد، وزميلي الأستاذ الدكتور أحمد الزيلعي، لقد تكلما على استحياء عن نفسيهما، ولكنهما - في الحقيقة - أصبحا شخصيتين في عالم الآثار مرموقتين، لهما قدرهما ولهما وزنهما؛ ومثلهما كُثر من زملائهما.. |
|
- الحقيقة: هذه الليلة من الليالي العزيزة على النفس؛ نحن تعودنا - كما قلت - أن تدفن الأصوات، ولكننا في هذه الليلة نقدم الأحياء، ونقول لهم شكراً، وبدورنا نحن الأحياء نقول للأستاذ عبد المقصود خوجه: شكراً أن كرمتنا ونحن أحياء.. شكراً جزيلاً. |
|