(( كلمة الدكتور منصور الحازمي ))
|
ثم أعطيت الكلمة للدكتور منصور الحازمي، فقال: |
- شكراً جزيلاً، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. |
- وأنا أستمع إلى هذه القائمة الطويلة من الأعمال والنشاط المتدفق - الَّذي امتد منذ أكثر من ربع قرن - استغربت أن أسمع - ربما لأول مرة - هذه الجوانب الثرية والغنية في شخصية الزميل والصديق عبد الرحمن الأنصاري؛ إذ أن الصحبة الطويلة والصداقة التي امتدت مع الدكتور عبد الرحمن خلال هذه الفترة، التي تُعتبر في الواقع حياة جيل بكامله، ربما لا يرى الصديق صديقه.. وهو متعود أن يراه كل يوم، وأن يتحدث معه في أمور كثيرة، منها: أمور كلية الآداب والجامعة، ومنها أمور ربما لا تمت للبحث العلمي بصلة؛ ولكنني شعرت بأن الدكتور الأنصاري - وأنا أسمع لأول مرة بعض جوانب من النشاط الَّذي قام به في هذه الفترة المجيدة - شعرت بأن هذا الجيل الَّذي ينتمي إليه الدكتور عبد الرحمن الأنصاري لم يذهب سُدى، وأنه قام بعمل كبير جداً؛ وإذا ذكر هذا الجيل فلا بُد أن يذكر الدكتور عبد الرحمن الأنصاري في مقدمته. |
- ثم تأملت في هذه القائمة الطويلة، التي أتاحت للدكتور عبد الرحمن أن يتجول شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكان تقليداً حميداً في جامعة الملك سعود وفي الجامعات الأخرى، أن تُتاح الفرص العظيمة لأعضاء هيئة التدريس، لكي يسهموا بإنتاجهم، ولكي يحتكوا بالعالم، ولكي يطَّلعوا.. ويُطلعوا العالم على ما لديهم؛ فنحن - مع الأسف - في هذه الجزيرة العربية التي ننتمي إليها، وفي المملكة العربية السعودية دائماً نُتهم بالتخلف وبالبداوة وبالتأخر، فإذا ذُكر السعودي إنما يُرسم بجانبه جمل وخيمة. |
- فهذا العطاء المتدفق الَّذي ربما لا يضاهيه عطاء - حتى في أكثر الدول تقدماً - لا شك أنه قد أتيح للدكتور عبد الرحمن الأنصاري بجهده، لكن أيضاً بجهد الجامعة التي كانت تتيح لمنسوبيها أن يستفيدوا ويفيدوا، وأن يرفعوا رأس بلادهم عالياً أمام الدول الأخرى، فمن اليابان إلى بلجيكا، إلى باريس، إلى لندن، إلى النمسا...، في الواقع هذا شيء كبير، أنا أعتقد بأن الدولة لو صرفت على الإعلام.. مهما صرفت لا يمكن أن يكون الإعلام إلاَّ من خلال العلماء، من أمثال الدكتور عبد الرحمن الأنصاري؛ وقلت في نفسي أرجو أن تعيد الجامعة هذا التقليد الحميد، وأن تُتيح للأجيال التي بعد الأنصاري - أنا أعتقد أن الأنصاري كان وجيلي أيضاً - كان محظوظاً أن أتيحت له هذه الفرصة، ولكن المسيرة تسير والقافلة - أيضاً - لا تتوقف؛ وهناك شباب كثيرون لم يتح لهم - في الواقع - ما أتيح للدكتور الأنصاري؛ فأنا لا أغبط الأنصاري على هذا، وإنما أعتز بكل ما قام به، ولكني أرجو أن ينتقل هذا الاعتزاز وهذا النشاط إلى الأجيال التي بناها الأنصاري وساعد في صنعها. |
- أعرف الدكتور عبد الرحمن الأنصاري منذ كنا ندرس في إنجلترا؛ كان هو يمثل الدفعة الثالثة من المعيدين، الدفعة الأولى كانت اثنين فقط، هما الدكتور رؤوف عبيد والدكتور عزت خطاب؛ والدفعة الثانية أربعة، كنتُ واحداً منهم؛ أما الدفعة الثالثة، فقد ضمت فيمن ضمت الدكتور عبد الرحمن الأنصاري، فهو من الدفعة الثالثة، وهناك في إنجلترا تعرفت على الدكتور عبد الرحمن، ولا أدري لماذا نذهب إلى إنجلترا؛ فالأجيال التي جاءت بعدنا تذهب للولايات المتحدة هاربة، ويبدو أننا - أو الأساتذة الَّذين أرشدونا إلى الذهاب إلى خارج المملكة - السبب الآن الفرصة لم تكن متاحة - في الواقع - في ذلك الوقت للدراسة في دولة عربية، فذهبت هذه الدفعات الأولى إلى المملكة المتحدة، الدكتور عبد الرحمن الأنصاري في جامعة ليدز، وأنا في جامعة لندن، وآخرون في جامعات إنجليزية مختلفة..؛ ويبدو أن النظام الإنجليزي يُعلِّم كثيراً من الصبر والتأمل والحنكة، ولكنه - أيضاً - يورث نوعاً من الكراهية للإنجليز، لا أعرف لماذا؟ يعني إذا ما عدنا لم نكن - في الواقع - مبهورين بالغرب، ربما لو ذهبنا إلى أمريكا ربما بُهرنا، ولكن الدكتور عبد الرحمن وأنا وغيرنا كنا في الواقع نستفيد. |
- لا شك أن جامعات بريطانيا كانت في ذلك الوقت تعتبر من أهم الجامعات، ولا سيما في الدراسات التي اختارها الدكتور عبد الرحمن الأنصاري - الدراسات الأثرية - وربما لا أذيع سراً إذا قلت: إن الدكتور عبد الرحمن الأنصاري أصلاً ينتمي إلى قسم اللغة العربية، وليس إلى قسم التاريخ أو الآثار وهو يعتز بهذا دائماً.. ويردده ولا يخفيه، لأنه عندما ذهب إلى: "ليدز" كان يدرس الأسماء اللحيانية، وعندما عدنا إلى قسم اللغة العربية عام 1966م، كنا نعد له مادة في علم اللغة، ولكن تشاء الظروف - في ذلك الوقت مع أزمة أعضاء هيئة التدريس في قسم التاريخ - أن يُطلب إلى قسم اللغة العربية أن يعير بعض أساتذته لقسم التاريخ، فكان الأنصاري من المتطوعين والمبادرين، وكان الدكتور أحمد خالد البدلي - أيضاً - زميلنا، وهو قد درس في إيران لمدة 4 سنوات، ولديه خبرة في التاريخ المغولي وتاريخ المنطقة الإسلامية بشمالي إيران؛ انتُدب - أيضاً - لقسم التاريخ، لكي يدرس هذه المادة. |
- الدكتور أحمد خالد البدلي.. عاد إلينا مسالماً، وفرحاً بعودته، أما الدكتور عبد الرحمن الأنصاري، فقد هرب من قسم اللغة العربية، ولعل هذا كان خيراً للجامعة، لأنه عندما ذهب إلى قسم التاريخ، فكر في أن يُنشئ شيئاً جديداً تحتاج إليه البلاد، وهو قسم الآثار، فخطط - وهو في قسم التاريخ - أن يُنشئ هذا القسم الَّذي أحبه، وربما كانت دراسته في الأسماء اللحيانية، واشتراكه في بعض الحفريات التي سمعتم عنها قد شجعته لأن يتخصص في الآثار، وأنا أعتقد أن أهم عمل - بل أهم إنجاز - بالنسبة للدكتور عبد الرحمن الأنصاري، هو اتجاهه إلى قضية الآثار، وانهماكه هذه المدة الطويلة في حفرية أو في حفريات كثيرة في موقع واحد.. وهو الفاو، وهي منطقة مهمة جداً. |
- ومن يزر جامعة الملك سعود وكلية الآداب - المتحف - متحف الآثار، سيجد أن هناك مكتشفات مهمة جداً جداً، اكتشفها الدكتور الأنصاري بمساعدة تلاميذه، وبانهماكه في هذه الحفريات المتوالية؛ وأنا أعتقد أن هذه المكتشفات ستسهم إلى حد كبير في وصل الحلقات المفقودة، التي لا نكاد نعرفها عن تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام، لأن تاريخ الجزيرة العربية - كما تعرفون - غامض - في الواقع - قبل الإسلام؛ فلعل هذه الحفريات، وأنا أعتقد أن نتائج وجهود الدكتور عبد الرحمن الأنصاري لن تتضح حالياً، ولكنها ستتضح بشكل كبير في الأجيال القادمة. |
- كما أعتقد أن البحث الميداني هو ما ينبغي أن تتجه إليه الجامعات، الدكتور عبد الرحمن الأنصاري - في الواقع - اتجه إلى البحث الميداني، وكان قد تعود في إنجلترا - وقد تعود بالحفريات - أن يُشمر عن ساعده، وأن يلبس الخروق والبنطلونات ويذهب بنفسه ويحفر مع طلابه، ويعاني مشاق الصحراء، في وقت كانت فيها الفاو - في الواقع - في حالة تختلف عما هي عليه الآن؛ والفاو منطقة على أطراف الربع الخالي، من الصعب جداً المكوث فيها مدة طويلة كما يفعل؛ وأعتقد أن الدكتور عبد الرحمن الأنصاري هو أول باحث ميداني خرج من قاعات الدراسة، ومن العلم الَّذي في الكتب، إلى الأشياء التي قد لا يحصل عليها الإنسان بمجرد القراءة. |
- الشيء الَّذي أذكره - أيضاً - أن الدكتور عبد الرحمن الأنصاري كوَّن له تلاميذ يوجههم في تخصصات الآثار بالذات، وعندما يعودون يشعرون برابط قوي يربطهم بأستاذهم، وهنا لدينا الليلة تلميذان من تلامذته، هما: الدكتور سعد الراجحي والدكتور أحمد زيلعي، عندما عادا - أيضاً - تخصص في الآثار؛ وقام الدكتور عبد الرحمن الأنصاري بتوزيع المملكة العربية السعودية إلى مناطق أثرية، تلاميذ توجهوا إلى العلا، وتلاميذ توجهوا إلى الربذة، وتلاميذ توجهوا إلى مناطق أخرى..؛ ومن هنا - أعتقد - أن العالم والباحث لا يمكن أن يعيش بمفرده، لابد أن يبث العلم من خلال تلاميذ له، فهذه الميزة لم نستطع أن نصل إليها، ولقد سألت الدكتور عبد الرحمن عن الطريق التي يستطيع أن يُؤثر بها على تلاميذه بحيث يتجهون إلى هذا العلم. |
- والدكتور عبد الرحمن الأنصاري، هو أول عميد سعودي في جامعة الملك سعود، ولهذه - أيضاً - قصة طريفة، عندما عدنا عام 86 هجري (66 ميلادي) كان أعضاء هيئة التدريس من الأخوة المتعاقدين، والأخوة العرب لهم الفضل الكبير في أنهم كانوا يملئون فراغاً كبيراً جداً في رئاسة القسم وفي عمادة الكلية، ولكن الكلية - الجامعة بصراحة - عندما عدنا، كانت لا تختلف عن مدرسة ثانوية، وحاول كل واحد منا أن يعمل عملاً؛ وكان عميد كلية الآداب في ذلك الوقت، الأستاذ عزت النص (يرحمه الله) وبقيت العمادة منوطة به مدة طويلة لعدم وجود منافس له؛ وعندما رجعنا بعد حصولنا على المؤهلات العليا كنا - في الواقع نعرف أقدارنا ونعرف أقدار أساتذتنا - وسمح لنا بأن نكون أعضاء في مجلس الكلية بدون أن نعطى حق التصويت، بهدف أن نعرف بعض ما يدور في هذا المجلس؛ ثم قيل لنا: انتخبوا واحداً منكم ليكون عميداً لكلية الآداب؛ فاجتمعنا أنا والدكتور عبد الرحمن الأنصاري، والدكتور أحمد الضبيب، والدكتور أحمد خالد البدلي - أظن في بيت أحدنا - وتآمرنا على الدكتور أحمد خالد البدلي، لأنه كان أحق بالعمادة، لأنه قد وصل قبلنا؛ بانتخاب الدكتور عبد الرحمن الأنصاري عميداً، لا أدري ربما وعدناه بأن يكون هو العميد بعد الأنصاري، ولكن العمادة راحت منه.. لأني جئت بعد الأنصاري. |
- فعلى أي حال، الذكريات كثيرة جداً مع الدكتور عبد الرحمن الأنصاري، صديقاً وأخاً وزميلاً وإدارياً ناجحاً، وأستاذاً كبيراً؛ ورجلاً قد تحدث عن بلاده بالعلم ولم يتحدث بالدعاية، والأوساط الأكاديمية في خارج المملكة تعرف الدكتور عبد الرحمن الأنصاري، وهذه مهمة جداً، لأن الإنسان قد يكون مشهوراً في بلاده وليس معروفاً خارج بلاده، وهذا شيء طبيعي؛ لكن الدكتور عبد الرحمن الأنصاري - في الواقع شهرته في خارج المملكة أكثر من شهرته في داخل المملكة، وهذا هو المحك الَّذي يدعو إلى الاعتزاز وإلى الفخر؛ وفي الواقع، إن الحديث عن الدكتور عبد الرحمن.. شيق طويل، وسوف يستغرق مني وقتاً، لذلك سأكتفي بما قلت؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|