شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ الدكتور وليد إبراهيم القصاب))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: 4 ـ 5)، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلقه وصفوة أنبيائه.
عميد هذه الاثنينية المباركة الشيخ عبد المقصود خوجه حفظه الله.
أيها الحضور الكرام أيها الأخوة والأخوات والزملاء الأعزاء، أحييكم جميعاً بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإن كل كلام عندي هو أضأل من التعبير عن سعادتي الغامرة وفرحتي الباهرة في جلسة نادرة مثل هذه، التي يكرم فيها العلماء وأهل العلم والثقافة وصناعها في زمان غلا فيه كل شيء إلا الثقافة والعلم ولولا أمثال رجال كصاحب هذه الاثنينية اللافتة للنظر، سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه لاعترى الأدباء والمفكرين ورادة البحث والنظر ما الله أعلم به من الأحباط وخيبة الأمل.
لكن الله رؤوف بالعباد. فها هو ذا جل جلاله ينفحهم بنسمات أهل الفضل ليبرد فيهم قيض الإحباط فشكراً لا ينهض به الشكر لرجل نادر كأنما فصّل على أمثاله قول شوقي :
إنما يقدر الكرام كرام
ويقيم الرجال وزن الرجال
ثم أشكر الإخوة الأجلاء الأفاضل. الذين حضروا محسنين الظن في أخيهم الفقير إلى رحمة الله، وتحدثوا عني بما أسأل الله أن أكون له أهلاً، ولا سيما شيخنا الأستاذ الدكتور: عبد القدوس أبو صالح رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية الذي رضي مأجوراً على كثرة أعبائه وثقل مسؤولياته أن يصطحبني في هذه الرحلة المباركة.
كل الشكر والتقدير لهذا الجمع الكريم في المجلس رجل فذ كريم يعد صنيعه هذا في شكر أهل العلم وتقديرهم ظاهرة إيمانية وحضارية، إذ علمنا رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم، أنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس.
وعلمتنا الحضارة الراقية أن عجلتها لا تقاد إلا بأيدي العلماء ومحبيهم ومشجعيهم. والآن اسمحوا لي مشكورين أن أقرأ عليكم نبذة من سيرتي الذاتية وبعض إنجازاتي المتواضعة التي حسن فيها الظن إخواننا الأفاضل الذين تحدثوا عني.
ولدت في عاصمة الأمويين سنة 1949م وفيها نشأت ودرست وترعرعت وبدأت تجربتي مع الأدب منذ فترة مبكرة جداً من حياتي.
بتشجيع من بعض أساتذتي وبتشجيع خاص من والدي رحمه الله. والذي كان وإن لم يكن عالماً ولا أديباً محباً للعلم والعلماء، والأدب والأدباء، وبدأت بعد قراءات كثيرة منذ المرحلة الابتدائية محاولات في كتابة القصة والشعر في المرحلة الثانوية. وتجرأت يوماً فعرضت قصة قصيرة عنوانها (دع لقاءنا إلى الأقدار) على أستاذ لنا كان أديباً وشاعراً فاحتفى بها احتفاء منقطع النظير، حتى أعطاها لمدحت عكاش، رئيس تحرير مجلة الثقافة الدمشقية، فنشرها لي. كدت أطير من النشوة. فأنا في الصف الثاني الثانوي وتنشر قصتي مقرونة باسمي غير مجرد بل الأستاذ وليد القصاب. وفي أواخر العام 1965 وأنا ابن ستة عشر ربيعاً أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية مسابقة شعرية حول ثلاث قضايا هي: الذرة والإنسان، وعالم الغد، والتسامح. فاشتركت فيها ونظمت يوم ذاك فيها قصيدتين إحداهما عن الذرة والثانية عن التسامح. وكدت لا أصدق أن أكون في جملة الفائزين.
ومن الأبيات التي قلتها في قصيدة التسامح :
أنت إنسان وإنسان أنا
فلماذا نحن خصمان هنا
ولنا في هذه الأرض مدى
أتراها غصت الأرض بنا
أرضنا إن شئت تغدو مسكنا
وإذا شئت استحالت مدفنا
لم تجن أرض علينا
إنما قلبنا المسعور بالحق جنى
يا أخي قصرك قصر شامخ
أكثير أن ترى الكوخ لنا
قصيدة الذرَّه أذكر منها أبياتاً الآن، كنا ندرس مادة الكيمياء في الصف الثاني الثانوي فمن جملة الأبيات التي قلتها.
رباه من مهج البرايا يأتيك مبتهلاً دعايا
رحماك يوشك أن يكون الخلق أيتاماً سبايا
رهن الفناء بذّرة نكراء خافية الخفايا
هي في تقلص حجمها وفراغه دنيا بلايا
يا هولها كرة مثلجة مدججة الحشايا
في كنهها المجهول تسأل نفسها ما محتوايا
ما دفقة الإشعاع والتفجير سرهما قوايا
أنا أوسع الأجرام طاقات وأضيقها خلايا
امتلأت نفسي حبوراً وغروراً، وبدأت تنمو في ثقة كبرى بأني قد أكون شاعراً مذكوراً في عالم الأدب ولهذا ما إن حصلت على الثانوية العامة القسم العلمي ورحت أستعد لألتحق بالجامعة في كلية علمية كما كان يريد أبي، حتى وجدتني متردداً موزع الهوى بين العلم والأدب.
أقدم رجلاً إلى كل منهما ثم أؤخر أخرى، وما كان أمامي ولما يحسن اختياري إلا أن أتزوجهما معاً. فسجلت في جامعة دمشق ـ كلية الآداب والصيدلة. وبقيت زوج اثنتين إلى أن رجحت كفة الأولى كلية الآداب، فطلقت الثانية كلية الصيدلة. وأنا على أعتاب السنة الثالثة منها وهكذا مضيت في طريق الأدب بين ناصح وعاتب وساخر. من يترك الصيدلة إلى اللغة العربية أين الحسناء من الشمطاء كما كانوا يقولون لكنه كان قدر الله ألهمني أن أختار فاخترت ولم أندم على ذلك قط.
تخرجت في جامعة دمشق 1970 وكنت الأول على دفعتي فعينت معيداً في جامعة حلب ثم حصلت على الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة. عملت أول ما عملت في جامعة الملك سعود في الرياض ثم ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية فحصلت على دبلوم صحافة من جامعة وين ستيت. ثم تعاقدت مع جامعة الإمارات وبقيت في الإمارات حوالى 20 عاماً، وعملت في عدد من جامعاتها ثم قدر الله أن أعود مرة ثانية إلى السعودية أستاذاً في جامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.
أتيح لي في هذه الرحلة البحثية التي امتدت حوالى 40 عاماً أن أضع أربعين كتاباً وعدداً قد يزيد على المائة من المقالات والبحوث وإنه من الصعب علي في عجالة لا أريد أن أثقل عليكم فيها أن أتحدث عن تجربتي كلها لذلك سأتوقف باختصار عند أهم حقول خمسة عبرت عنها الكتب والدراسات التي أتيح لي أن أنجزها.
1 ـ الإبداع: مارست نظم الشعر وكتابة القصة القصيرة وأنا أعترف أني منذ أن احترفت الأكاديمية لم أعد متفرغاً للإبداع مثل أيام زمان ومع ذلك فقد أتيح لي أن أصدر إلى الآن ثماني مجموعات شعرية وخمس مجموعات قصصية. وقد طرقت في قصصي وقصائدي جميع الهموم التي عاشها جيلي سياسياً واجتماعياً وعاطفياً. وما كتبت إلا ما أحسست وما كتبته هو تعبير عن شجوني وشؤوني.
غربة عشتها وقلة قاسيتها وهموم أمة موجعة مغلوبة مستباحة ليل نهار تقض مضجعي وتؤرق ليلي كحال كل غيور على أحوال أمته.
وأنا أشعر أن الأدب رسالة والكلمة مسؤولية، أنا أجد في الشعر الذي أكتبه والقصة التي أصوغها تنفيساً وتطهيراً لجروحي إنه نفثة مصدوم وآهة محزون وأنا أكتب من الشعر القصيدة تراثية أصيلة. القصيدة العمودية الأصيلة وقصيدة التفعيلة وأتوخى في ما أكتب البساطة والوضوح وأجنح إلى الرمز، وتوظيف التراث والأسطورة، ويمتد عشقي للقصة إلى نسيج شعري فيبدو النفس الملحمي الحواري واضحاً في ما أكتبه. وأنا أؤمن أن عنصري الفائدة والامتاع ضروريان في كل عمل أدبي أحاول أن أوفرهما ما استطعت وأحاول دائماً الوضوح والاقتراب من الملتقى، فأنا ضد الغموض الذي يقطع صلة الملتقى بالقارئ، أو يغلقه في وجهه كما نجد في كثير من أدب حداثة اليوم.
2 ـ تحقيق التراث: أنا عاشق للتراث العربي الإسلامي أرى فيه كنوزاً كثيرة مضمورة تحتاج إلى أن تستخرج وإن أي متخصص في الدراسات الإسلامية لا يمكن أن يكون مكيناً في تكوينه الثقافي والفكري إذا لم يغترف من التراث غرفات كافية تجعله كالشجرة الباسقة القوية الجذور. اتجهت إلى تحقيق التراث منذ فترة مبكرة من حياتي الثقافية فحققت بعض الكتب التي أشار إليها بعض الأخوة الذين تحدثوا عني. وما زلت أتعامل مع التراث وسيصدر قريباً ديوان شعر (سالم البربري): الذي عكفت على جمعه سنوات طويلة.
3 ـ الدراسات الأدبية والنقدية: لا يخفى على أحد أيها الأخوة من المتابعين لحركة النقد العربي الحديث ما يتقلب به هذا النقد من فوضى واضطراب ومن تخبط واعتساف ومن غموض وانغلاق، ما جعل كثيراً من النقاد والكتاب أنفسهم يشكون في جدواه إذا استمر على هذه الوتيرة من الصلف والاغتراب. ولا يخفى على أحد أن هذا النقد يتكئ اتكاءً يكاد يكون كلياً إلا عند طائفة يسيرة من النقاد على منجزات النقد الغربي الذي هو وليد بيئة مغايرة وحضارة مختلفة.
وإذا كان الكثير أو القليل من الأعمال الإبداعية الحداثية قد أدت دوراً هاماً في تغريب الفكر العربي والثقافة العربية فإن النقد الأدبي الذي يفترض أن يمثل إضاءة على الدرب وكبحاً للجماح الأرعن عند بعض الكتاب أصبح هو الآخر يساهم في هذا التغريب.
إن كثيراً من الكتابات النقدية العربية الحديثة تتعامل مع التيارات الغربية من غير وعي ولا استبصار بل من غير تطويع لهذه التيارات حتى تتناسب مع النصوص العربية التي تتعامل معها.
إن الاطلاع على منجزات الثقافة الغربية في جميع ميادين المعرفة أمر مطلوب بل واجب مفروض، ولكن لا بد من الغربلة الدائمة والتنخيل المستمر، ولا بد من التطويع والتطعيم حتى يصبح المأخوذ متوافقاً مع التفكير العربي والذائقة الغربية.
لا يمكن لأي ناقد عربي أن يستعيد المنهج الغربي كما هو لأن هذا المنهج وليد بيئة حضارية معينة وثقافة مغايرة، لا بد من التحوير والتغيير لأن استعارة منهم الآخر كما هو، ليس أكثر من عملية اغتراب عن الذات وقد تنتهي إلى التماهي في الآخر، والذوبان فيه وفقدان أي هوية فكرية تميزك منه وإن تراثنا الأدبي و النقدي حافل بالنظرات والأفكار الفنية النفيسة ولا يزال كثير منها صالحاً ومتفقاً مع أحدث ما توصلت إليه الدراسات الأدبية المعاصرة ولكن ما يرصده المرء من توجع وحسرة. إن أغلب الدراسات العربية النقدية الحديثة تغترف من نبع الفكر الغربي وحده وهي تولي ظهرها لهذا التراث وتستدبره. وتتجاهل كثيراً من مصطلحاته النقدية والبلاغية، وتحاول أن تستبدل بها مصطلحات جديدة لا لشيء إلا سوى هذا الهوس بكل تغريب وتحديث.
إن تراثنا الأدبي النقدي هو المصدر الأول في التأصيل لنقد عربي حديث، وإن الرجوع إليه ما دام فيه غنى وجدوى للاستعانة بمصطلحاته ولغته هو القادر على هذا التطويع وعلى هذه المواءمة اللذين نتحدث عنهما. وقد حاولت أن أخطو خطوة متواضعة في هذا السبيل فوضعت مجموعة من الكتب الأدبية والنقدية في محاولات للتأصيل لأدب عربي إسلامي أصيل ونقد عربي إسلامي أصيل.
وقد سلكت في هذه الدراسات مسارين اثنين أحدهما نقد المناهج الغربية الحديثة، وبيان إيجابيتها وسلبيتها وما يمكن أن يؤخذ وما ينبغي أن يطرح، وذلك في كتابي الصادر حديثاً وعنوانه مناهج النقد الأدبي الحديث (رؤية إسلامية). وفي كتبي الثلاثة عن الحداثة الغربية والحداثة في الأدب العربي المعاصر التي أشار إليها دكتور عبد القدوس في كلمته، أما المسار الآخر بعد النقد والنقد فهو محاولة التنظير العربي القديم بنقد عربي إسلامي يستمد مشروعيته من خصوبة النقد الأدبي وتراثه النقدي الأصيل، وفي هذه الخطوة وضعت كتابين يشكلان مادة بحث لإنجاز هذا المشروع النقدي الطموح وهو كتاب نصوص النظرية النقدية عند العرب النقد العربي القديم نصوص في الاتجاه الإسلامي والخلقي
4 ـ الدراسات البلاغية: أتيح لي أن أضع ثلاثة كتب في البلاغة هي البلاغة العربية : البلاغة والبديع والبيان وعلم المعاني وكتاب الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم وهو إن مد الله في العمر أحاول أن أتناول فيها جميع الظواهر البلاغية في كتاب الله المعجز، وأصول هذه الكتب محاضرات ألقيت معظمها على طلبتي على مدى سنوات درست فيها هذه المادة، وقد شذبت كثيراً من مسائل البلاغة وقضاياها، وخففت من التقسيمات والتفريعات ما استطعت إلى ذلك، ونبهت في أكثر من موضع على أن عناية الباحث ـ عند دراسة النص بلاغياً ـ ينبغي أن تنصرف إلى النظر في الظاهرة البلاغية التي يتحدث عنها من تشبيه، أو مجاز، أو كناية، أو طباق، أو غيرها ـ من حيث تحليلها، وبيان ثقافتها وفنيتها وموقعها في الكلام، وأثرها النفسي والجمالي في العمل الأدبي، أكثر من انصرافها إلى المظاهر الشكلية من حيث التقسيم والتفريع وبيان النوع.
وإذا كنا لم نهمل هذا الجانب، فتوقفنا عند أبرز أقسام كل نوع بلاغي عرضنا له، فقد كان ذلك ـ بالدرجة الأولى ـ من قبيل استيفاء البحث في الظاهرة البلاغية كما عرفها التراث القديم، والبلاغيون العرب المتقدمون.
إن في البلاغة العربية ـ كما وصلتنا عن الأسلاف ـ كثيراً من الحشو والمباحث التي لا فائدة منها، وقد صرفوا ـ ولا سيما المتأخرون منهم ـ كثيراً من الجهد في التقسيم والتبويب، والتوافر على مسائل كلامية وفلسفية، وتوقفوا أقل التوقف عند بيان مواطن الجمال والتأثير الفني والنفسي للنوع البلاغي الذي يتحدثون عنه، ما ألقى على البلاغة العربية مسحة من الجمود. (وحولها إلى قواعد شكلية باهتة المدلول).
وعلى أن البلاغة العربية قد ظلمت ـ في مقابل ذلك ـ كثيراً على أيدي بعض الدارسين المحدثين، فقد أوشكت أن تغيب من بعض المناهج الدراسية والجامعية، وأن تتحول إلى تابع باهت الظل للنقد الأدبي، ولا تكاد تذكر إلاّ عرضاً، وربما من خلال مسميات ومصطلحات حديثة لا تكاد تبين عن أصلها أو حقيقتها.
إن البلاغة هي فن القول، وهي العلم بجماليات الكلام، وطرائق تحسينه وتجميله، حتى يكون أعمق تأثيراً، ما يجعله أكثر قبولاً في نفس المتلقي، وأشد حظوة عنده، وأقدر على التعبير عن عاطفة صاحبه في الوقت نفسه. وبوساطة هذه الجماليات التي تقدمها إلى الكلام أصول البلاغة يؤدي دوره في إقناع المتلقي، والتأثير فيه، واستنفاد عاطفة القائل.
والبلاغة هي المبحث الأسلوبي من النقد الأدبي، ومن ثم فهي أصل مهم من أصوله، ومعيار ذو شأن من معاييره، فالناقد في دراسته للعمل الأدبي يعتمد على مجموعة من المقاييس والأصول: منها ما يتصل باللغة، ومنها ما يتصل بالعروض، ومنها ما يتصل بالبلاغة. وإذاً، فالبلاغة فرع من النقد، وغصن من شجرته الوارفة، والصلة بينهما صلة الجزء بالكل، لكنها جزء متميز، لأنها تتصل بأهم جانب من جوانب العمل الأدبي المدروس، وهو الجانب الأسلوبي: في جوانبه: التركيبية، والتصويرية المجازية، والصوتية الإيقاعية، وهو ما تتعاور أداءه البلاغة بفروعها الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع. ولذلك كانت معرفتها ضرورية للناقد، فهي جزء من تكوينه الثقافي، ومعيار أساسي من المعايير التي تعينه على الدرس والتحليل، لأنها تغطي ـ كما قلنا ـ الجانب المهم من جوانب الدرس النقدي، وهو الجانب الأسلوبي، أو وجه من وجوهه على الأقل.
ودراسة البلاغة العربية تعني الوقوف على خصائص الأسلوب العربي، وطرائقه في التعبير، وهي تضع اليد على خصائص اللغة العربية، وغناها بمناحي القول، وأفانين الأداء، ثم لها في الدراسات القرآنية ـ بشكل خاص ـ شأن متفرد، فهي أداة لفهم كتاب الله وتفسيره وتأويله، ثم في معرفة إعجازه البياني ـ الذي هو مناط التحدي ـ بشكل خاص.
وقد عولت في دراساتي البلاغية على الشواهد القرآنية بشكل خاص، فكتاب الله هو قمة البلاغة العربية، وهو الذروة السامقة المعجزة في البيان الناصع، والعبارة الخلابة، والتعبير الفني الجميل، وهو مغترف الأدباء وأرباب الفصاحة والبيان، ومن لم يصدر عن نبعه، أو يغترف من معينه، فقد صدر عن ساقية ضحلة، ونهير غائض هزيل.
5 ـ الأدب الإسلامي: بدأت تجربتي مع الأدب الإسلامي قبل التعرف على رابطته والانضمام إليها بسنوات، فقد كان كتابي عن عبد الله بن رواحة شاعر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوائل الدراسات التي كتبتها، كان بحثي للتخرج في جامعة دمشق عام (1970م) وإن تأخر نشره عشر سنوات، وفي هذا الكتاب بينت دور الأدب وقدرته الفذة على أن يكون سلاحاً من أسلحة الدعوة والدفاع عن الحق وفضح الباطل والزيف.
وقد نشرت عن الأدب الإسلامي عدة كتب ودراسات أدبية ونقدية منها كتابي ((النظرة النبوية في نقد الشعر: نحو تأسيس منهج إسلامي في الأدب)) وقد عدت إلى عشرات الأحاديث والمواقف التي أثرت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشعر والشعراء لرسم صورة عن التصور النبوي لنقد الشعر.
ثم وضعت كتابي ((شخصيات إسلامية في الأدب والنقد)) درست فيه أربع شخصيات، وهو جزء من سلسلة أسأل الله أن يعينني على إتمامها، ثم كان تحقيقي ونشري لديوان محمود الوراق، وهو شاعر عباسي من شعراء الحكمة والزهد، وكان شعره كله صادراً عن التصور الإسلامي، ثم وضعت كتابي ((في الأدب الإسلامي)) الذي تحدثت فيه عن نشأة الأدب الإسلامي، وعن هذا المصطلح ومشروعيته ومفهومه، وعن تجربة الأدب الإسلامي، وعن أبرز قضايا هذا الأدب وخصائصه، وهي قضايا ((الأدب والعقيدة)) و ((وظيفة الأدب)) و ((قضية الالتزام)) و ((الوضوح والغموض)) و ((تجربة التحديث)) و ((تجربة الأدب بين الوعي واللاوعي)) ثم عرضت لبعض المفاهيم المغلوطة في الأدب والنقد.
ثم وضعت بعد ذلك كتاب ((المذاهب الأدبية الغربية: رؤية فكرية وفنية)) وهي رؤية انطلقت من تصور إسلامي، وحللتْ المذاهب الأدبية الغربية الحديثة ونقدتها مبيناً ما لها وما عليها في ضوء هذا التصور.
ثم كان كتابي ((النقد العربي القديم: نصوص في الاتجاه الإسلامي والخلقي)) استكمالاً للتنظير للأدب الإسلامي وللنقد الإسلامي، إذ جمعت في هذا الكتاب ما يزيد على ألف نص تثبت حضور الاتجاه الإسلامي في نقدنا التراثي حضوراً باهراً، وينبغي أن تكون هذه النصوص هي العمادَ الأول في بناء نظرية النقد الإسلامي الحديث.
ولقد كانت حماستي للأدب الإسلامي ولا تزال حارة متوقدة، فأنا مؤمن برسالة الأدب، وبأثره الفعّال في النفوس والعقول، وبقدرته الباهرة على التغيير والبناء.
كنا، نعجب ـ ونحن على مقاعد الدرس ـ ببلاغة شعراء النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الإسلام، وكنا نكبر موقف القرآن الكريم وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصويب مسيرة الأدب، وإعظامِ دور الشعر، وأثرِ الكلمة، وبيانِ التصور الفكري الصحيح للأدب كما ينشده الإسلام.
لكننا بدأنا ـ بشكل خاص ـ نحس بأهمية الأدب الإسلامي، وضرورة الدعوة إليه في أثناء الدراسة الجامعية، فقد تبيّن لنا أننا ندرس الأدب في مدارسنا وجامعاتنا بحسب المناهج الغربية، وأننا نحذو حذو الأوروبيين في التحليل والتقويم والحكم، وأننا نتعامل مع المذاهب الأدبية والنقدية الغربية المتناقضة التي ينسف بعضها بعضاً، وكأنها عِلْمٌ مسلَّم به. وعندما مضينا في دراسة أدبنا العربي الحديث وجدنا كيف يوغل هذا الأدب يوماً بعد يوم في الخروج عن جادة القيم العربية الإسلامية، وخصوصاً على أيدي طائفة من الحداثيين. رأينا الأدب العربي يتغرب، يحذو حذو المدارس الغربية، فتغزوه الرومانسية حيناً، والواقعية الأوروبية، والواقعية الشيوعية حيناً آخر، ثم الرمزية، والوجودية، والسريالية وغيرها أحياناً، ثم الحداثة بمختلف منازعها وصورها، وكانت هذه المذاهب تحمل إليه باستمرار عشرات الأفكار والمضامين والقيم التي تخالف كل المخالفة التصورات الإسلامية ـ رأينا الأدب الحديث ـ في غالبية نماذجه التي يقدمها المشهورون، ومن هم في دائرة الضوء ـ يتحوّل إلى أدوات هدم للأخلاق والقيم والعادات، ويدعو إلى الثورة والتمرّد على كثير من المثل الدينية، ويروج لعشرات الآراء السقيمة المنحرفة التي تمثل اعتداء صريحاً على كل ما هو أصيل نبيل في ثقافة هذه الأمة.
وكنا نقرأ ما كان يدور من المعارك بين الأدباء الغُير على الثقافة العربية الإسلامية كالرافعي، والمنفلوطي، وعلي الطنطاوي، وشكيب أرسلان، ومحمود شاكر وغيرهم.
ثم كانت صحوة فكرية تمخضت عنها فكرة ((أسلمة المعرفة)) وتفرعت من شجرتها الباسقة الدعوة إلى أدب يواجه طغيان المدارس الغربية على أدبنا وثقافتنا، وقد بدأت هذه الدعوة الغيور على أيدي الروّاد الأوائل.
ثم أثمرت هذه الشجرة المباركة جيلاً آخر من الدارسين الذين أفادوا من جهود سابقيهم، وأغنوها بما أتيح لهم أن يطلعوا عليه من أصول الدرس الأدبي الحديث وثقافات العصر، فمضت شجرة الأدب الإسلامي تفرع وتشمخ، وهي اليوم فخور أن يتعهدها صفوة من الباحثين والدارسين والأدباء والنقاد اللامعين كنجيب الكيلاني وعبد الرحمن الباشا ومحمد مصطفى هدارة ـ عليهم رحمة الله ـ وعماد الدين خليل، وعبد القدوس أبو صالح، وعبد الباسط بدر، وحسن الهويمل، ومحمد بن حسين، وصالح بيلو، ومصطفى عليان، ومحمد حسن الزير، وحلمي القاعود، ومأمون جرار، وأحمد الجدع، وعبده زايد، وسعد أبو الرضا، وعبد الحميد إبراهيم، وعبود شلتاغ، وإبراهيم سعفان، وكثيرين غيرهم ممن لم يتسع المقام لإيراد أسمائهم، ولا ينكر فضلهم، أو يُغمط حقهم.
أيها الأخوة..
إن الأدب سلاح مؤثر فاعل، وقد فطنت إلى خطورته جميع المذاهب والتيارات، فراحت تجنده ـ بطرق لا حصر لها ـ لإذاعة أفكارها، والترويج لها.
كما أن الأدب فن منحاز، إذ إن فيه روح الأمة التي أنتجته وشخصيتها ومنهجها في رؤية العالم وتصوره. إنه تعبير بأرقى الأدوات الفنية عن موقف فكري من الكون والإنسان والحياة. ولذلك فإن لكل أدب خصوصية تميزه من غيره.
وقد تلتقي الآداب جميعها في بعض الملامح والسمات، وقد تقل هذه الملامح أو تكثر، لأن فيها جميعاً بعداً إنسانياً حياتياً (لا يمكن تجاهله؛ فهي ـ في صور متعددة ـ تتخذ من الإنسان والحياة محوراً لكل ما تنشئ)، لكن القواسم المشتركة بينها ـ مهما كثرت وتعددت ـ لا تعني التطابق التام، أو التماثل الكامل.
إن الأدب فن غير حيادي في تصويره للإنسان والحياة، وفي تعبيره عنهما، ومهما اشترك بنو البشر في المواجد والأشواق، (وفي العواطف والمشاعر والأحاسيس)، ومهما جمعت بينهم هموم ومشكلات واحدة، فإنه تبقى لكل أدب خصوصية معينة حتى في تصوير هذه المشاعر المشتركة، والهموم الواحدة، (بله تلك الهموم الفردية بكل أمة على حدة).
بل نقول: (إن لكل أديب شخصية تميزه من غيره، وأسلوباً خاصاً يعرف به ويدل عليه، بل نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إن لكل أديب في المدرسة الواحدة ملامحه الفردية، حتى قيل: إن هنالك رومانسيات بقدر ما هنالك من رومانسيين، وواقعيات بقدر ما هنالك من كتَّاب واقعيين).
إن من واجب أدباء العرب والمسلمين ونقادهم، وليس من قبيل المستحسن المندوب، أن يعيدوا لأدبهم صورته الأصيلة المشرقة التي لم تفارقه خلال عصوره المختلفة، وإن ضمرت أحياناً، أو شهدت حالة من المد والجزر، أن يحاولوا إعادة صياغته صياغة باهرة مؤثرة تحمل قيم الأمة التي أنتجته وعقيدتها وشخصيتها..
وإن ما قدمته خطوة في هذه السبيل، وهو جهد متواضع مقتبس من جهود رواد الأدب الإسلامي وكتّابه وناقديه الأجلاء، حاولت أن أوضح فيه مفهوم هذا الأدب المرجو سفينة إنقاذ لثقافتنا المعاصرة.
أشكر مرة أخرى راعيَ هذه الاثنينية الحضارية المتميّزة سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه، بارك الله فيه، فنسأله أن يمد في أجله، ويبسط له في رزقه، وجزاه عن الثقافة والعلم كلّ خير..
كما أشكر أخوتي الذين تحدثوا عني، الحاضرين جميعاً على حسن الظن وطيب الإصغاء، وأعتذر عن الإطالة..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :678  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 242
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج