دخول معركة التدريب |
السباق العلمي وخصوصاً في مجالات الطب المختلفة كان حامي الوطيس وكل من أوروبا وأمريكا الشمالية يريد أن ينجز ما لم ينجزه الآخر وخصوصاً في جراحة القلب بجامعة بيرن في سويسرا كان الأطباء في سباق للحصول على مكان للتدريب في إحدى الجامعات الأمريكية أو الكندية فكان لي ما لهم وعلي ما عليهم لأجد نفسي في خضم المعركة وتقدمت بطلب للتدريب في جامعة غرب أونتاريو أو تورونتو في كندا وأمضيت هناك ثلاث سنوات زوّدتني بخبرة جيدة في جراحة القلب ثم رغبت في العمل بمدينة الضباب في المملكة المتحدة لمدة عامين ورغم أنني قد أعفيت من امتحان القبول للأطباء للعمل في المستشفيات البريطانية فإن طموحي في خضم هذه المعركة العلمية دفعني إلى دخول امتحانات عديدة منها بكالوريوس الطب الإنجليزي مرة أخرى وعضوية وزمالة كلية الجراحين الملكية بلندن وجلاسكو ثم عدت إلى وطني الأم. |
تطور جراحة القلب: |
لم يكن أحد، إلى بداية الأربعينات في العقد السابق، يتخيّل أن بإمكان الإنسان فتح القلب البشري وإيقافه عن الحركة وتصحيح أي عيب فيه، وكان ذلك يعتبر ضرباً من الجنون وتم طرد أحد الأطباء من عضوية الجمعية الأمريكية للطب آنذاك لأنه اقترح ذلك. |
في الأربعينات من القرن التاسع عشر قام د. ليلهاي في جامعة مينسوتا بإجراء عمليات قلب مفتوح لتصحيح تشوّهات قلبية لدى الأطفال بواسطة مبدأ الدورة الدموية المعكوسة حين كان يسحب دم الطفل في أنابيب ويضخه إلى دم الأم بحيث يتم أكسدته وتزويده بالأوكسجين في رئة الأم ومن ثم ضخه مرة أخرى إلى الدورة الدموية وكانت تلك الجراحة تحمل نسبة وفيات تبلغ 200% إذ إن الطفل والأم يتوفيان في حالة فشل الجراحة. |
أثناء ذلك ظل الدكتور جيبون يعمل لمدة 20 عاماً على الكلاب على تطوير جهاز قلب ورئة صناعية يستطيع به أكسدة الدم وضخه في مضخات كهربائية خارج الدورة الدموية. |
حتى يتمكّن الجراح من فتح القلب وتصحيح أي تشوّه أو تغيير أي صمام تالف وحصل بعد ذلك الجهد على اعتراف العالم بجهوده في تطوير تلك الدورة الدموية الخارجية وانطلقت جراحة القلب المفتوح إلى آفاق جديدة بسبب تلك الجهود التي استمرت لعشرين عاماً. |
في عام 1969م، قام د. فافولورو الأرجنتيني بإجراء أول جراحة توصيلات شريانية لضيق شرايين القلب التاجية في مستشفى كليفلاند العالمي بأمريكا باستعمال أحد الأوردة السطحية للساق كما قام الدكتور جرين في نيويورك باستعمال شريان الثدي الداخلي كتوصيلة شريانية وبذلك فتح الباب على مصراعيه لهذه الجراحات التي ساعدت المرضى وخلصتهم من آلام الذبحة الصدرية وحسنت من نوعية حياتهم. |
ولادة مركز القلب في جدة: |
عملت لمدة ستة أشهر في برنامج جراحة القلب مع جامعة لوما ليندا الأمريكية في خميس مشيط ثم لمدة عام ونصف مع الفريق نفسه في مستشفى القوات المسلحة الجديد بالرياض ثم دعاني الأخ الزميل معالي الدكتور حسين عبد الرزاق الجزائري وزير الصحة آنذاك للبدء ببرنامج عمليات القلب المفتوح والمقفول في مستشفى الملك فهد بجدة وبدأ البرنامج والحمد لله بنجاح واستمر إلى اليوم على مدى خمسة وعشرين عاماً بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بدعم من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ودعم متواصل من أخويه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمين حفظهما الله ـ ثم بدعم من أخي معالي الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام السابق ورئيس مجلس إدارة جمعية أصدقاء القلب الخيرية ودعم المواطنين الذين أحبوني وأحببتهم فصمموا على إجراء عمليات القلب بأيدٍ وطنية رغم وجود إمكانية لدى عدد كبير منهم للسفر خارج المملكة. |
الانطلاق إلى خارج الوطن: |
في عام 1984م، تلقيت دعوة من الحكومة الموريشية لبدء برنامج القلب المفتوح لأول مرة في المحيط الهندي وبعد إجراء أول ثلاثين جراحة كسر الحامل المعدني للرئة الصناعية التي تتم أكسدة الدم بها وتعرضنا لخطر توقف البرنامج فطلبت أن يحضروا لي نجار المستشفى وسألته إن كان يستطيع أن يصنع حاملاً خشبياً على غرار ذلك المعدني فأجاب نعم سيدي سيكون جاهزاً في السابعة صباحاً وبالفعل كان ذلك الحامل الخشبي معلقاً على الرئة الصناعية في الصباح وبعد تجربته أعلن الفني الرئيسي لجهاز القلب والرئة الصناعية أخي وصديقي العزيز الأستاذ حسين صدقة بأنه يمكن استعماله وقمنا بإجراء إحدى وعشرين عملية ناجحة بالحامل الخشبي ونشر بحث في دورية طبية ألمانية تعنى بجراحة القلب باسم التروية المرنة نالت تقديراً من قبل المختصين. |
القلب والثلج: |
وفي إحدى جراحات القلب المفتوح بالخرطوم في السودان أخبرونا أن فخامة الرئيس جعفر النميري سيدخل غرفة العمليات لرؤية الفريق الطبي السعودي السوداني ودخل فخامته مرتدياً الرداء الأخضر مباشرة فوق بذلته العسكرية ذات النياشين المتعددة وهكذا يدخل الرؤساء ورآنا نضع الثلج فوق القلب أثناء فتحه لتبريده لتقليل حاجته للأوكسجين فسُر وابتسم ضاحكاً وقال إن هذا يثلج الصدر فعلاً. |
رحلة كوكبان: |
في برنامج القلب في أرض الملكة سبأ ذهبنا في رحلة يوم الجمعة إلى مدينة كوكبان في الجبال والتف حولنا أكثر من ثلاثين طفلاً وبمجرد الفحص المبدئي بالسماعة تبين إصابة اثنين منهم بما يسمى القناة الشريانية تم بعدها نقلهما إلى المستشفى التعليمي لدراسة حالتهما بالموجات فوق الصوتية وإجراء جراحة القلب المقفول لهما وقد قمنا بإجراء ثلاثمائة جراحة قلب مفتوح في مركز القلب بصنعاء من خلال أكثر من عشرين زيارة متتالية حتى عرفني جميع أعضاء أطقم طائرات الخطوط الجوية اليمنية وقد ترك ذلك البرنامج أثراً رائعاً في قلوب اليمنيين وقام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز رئيس المجلس السعودي المشترك آنذاك بدعم ذلك البرنامج أدبياً ومادياً من جيبه الخاص. |
الإبداع والابتكار: |
في العقد الأخير من القرن السابق أصبحت مراكز القلب الرائدة في سباق في مجال الإبداع والابتكار لتطبيق تقنيات جديدة في علاج أمراض القلب المستعصية مثل الفشل القلبي الحاد والمزمن ونقص التروية الشديد لعضلات القلب. وحيث إن عملنا في جراحة القلب في المملكة وبدء خمسة برامج للقلب المفتوح خارج المملكة في دول يصعب فيها ذلك أدى إلى تبلور خبرات الفريق في مركز الملك فهد لأمراض وجراحات القلب بجدة، دفعنا وبكل فخر كأطباء عرب ومسلمين للمشاركة في هذا الركب العلمي. |
زراعة القلب وزراعة الرئة: |
نظراً إلى وجود أعداد كبيرة من المرضى الشباب الذين يعانون من الفشل القلبي المتقدم فقد قمنا ببدء برنامج عمليات زراعة القلب المنفرد في المنطقة الغربية وزراعة القلب المزدوج لأول مرة في الشرق الأوسط والقارة الآسيوية بمركزنا.. بعد التدرب في مركز زراعة القلب بجامعة كامبردج في بريطانيا وزيارة مراكز أخرى رائدة في زراعة القلب في جامعة باريس وجامعتي ستانفورد وتكساس بأمريكا. |
وقمنا أيضاً بالبدء ببرنامج زراعة الرئة لمرضى الفشل الرئوي بنجاح لأول مرة في الشرق الأوسط. |
القلوب الصناعية: |
ثم كان لا بد من التدرب على زرع القلوب الصناعية المعدنية نظراً إلى وجود بعض حالات الفشل القلبي الحاد والذي قد يؤدي إلى الوفاة لعدم توافر قلب بشري لزرعه فوراً فتدربنا أولاً على زرع صمامات معدنية على البقر والقرود في مشرحة قديمة تم الاستغناء عنها وجعلت مركزاً للتدريب على الحيوانات حيث تم إجراء ثلاث جراحات قلب على بقر وثماني جراحات على القرود وزرع صمامات معدنية بها، ما اضطرنا لإطعامها أدوية منع تجلط الدم حول الصمام وخلطنا تلك الأدوية مع العلف الذي تأكله البقر والموز الذي تلتهمه القرود. |
ومن ثم كان التدريب الفعلي للفريق على زرع القلوب المعدنية في البقر بمعهد القلب في تكساس في دورة خاصة والحصول بذلك على تصريح بإجراء تلك الجراحات المعقدة خارج الولايات المتحدة الأمريكية. |
الزواحف وقلوب البشر: |
عمل جراح القلب الإيراني مير حسيني لعشرين عاماً في جامعة ملواكي بأمريكا على تطبيق استعمال شعاع الليزر لإعادة تروية عضلات القلب بالدم حيث إنه درس قلوب الزواحف كالثعابين والسحالي وغيرها ووجد أن تروية قلوبها لا تتم عبر شرايين تاجية مثل قلوب البشر وإنما عبر قنوات دقيقة بين خلايا العضلات ممتدة ما بين الطرف الخارجي للقلب وتجويف القلب الداخلي وطبق ذلك بنجاح في ملواكي، ما جعل العالم يطبق الجراحة نفسها في أغلب المراكز وتعلمناها في جامعة كامبردج وعلى يديه وقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد يرحمه الله بتأمين الجهاز من جيبه الخاص وقمنا ببدء البرنامج كثالث دولة في العالم بنجاح وإجراء أكثر من مائة جراحة من هذا النوع وتقدمت لنا فرق طبية من كوريا وسنغافورة للتدرب لدينا على هذه الجراحات وقمنا بعقد دورة لمدة أسبوع شارك فيها كل أعضاء الفريق، كما دعينا لبدء هذه الجراحات في المستشفيات الجامعية في برلين بألمانيا وزيوريخ بسويسرا ومعهدي قلب كبيرين في مدراس نيو دلهي بالهند ولاهور بباكستان. |
مكة المكرمة والقلب المفتوح: |
جوهرة برامج القلب المفتوح التي بدأناها كان برنامج القلب المفتوح في أم القرى بمكة المكرمة والذي بدأناه المستشفى النور مع الأخ الزميل الدكتور خالد الإبراهيم وقد حظي ذلك البرنامج بدعم كبير من الدولة ومن عدد كبير من أهالي مكة المكرمة وهو مستمر منذ أربعة عشر عاماً حتى الآن وساهم في مساعدة أعداد كبيرة من مرضى القلب من أهالي مكة المكرمة وضيوف الرحمن بأيدي أطباء وجراحي قلب سعوديين. |
غسيل القلوب: |
في عام 1985م، راودتني فكرة غسيل بعض قلوب المرضى في نهاية الجراحة بماء زمزم الطهور بعد تعقيمه احتياطياً بالأشعة فوق البنسفجية وبعد غسيل القلب والتجويف الصدري بمحلول كلوريد الصوديوم وتم ذلك لقلوب عشرة مرضى سبعة رجال وثلاث نساء ومنهم من تم له غسيل ليس فقط تجويف الصدر وإنما التجويف القلبي أيضاً بالزمزم الطهور بعد إخبارهم وأخذ موافقتهم على ذلك وعبروا عن رغبتهم في ذلك. |
نشرت جريدة المسلمون الخبر تحت عنوان غسل القلوب بماء زمزم وتوالت الردود ما بين مؤيد ومعارض ومحب وكاره ولتفادي الفتنة تم التوقف عن ذلك ورغب الأديب الكبير الأستاذ عزيز ضياء رحمه الله في ذلك أيضاً عند إجراء جراحة شرايين القلب له، لكننا اعتذرنا له عن ذلك وقد زارني رجل وامرأة ممن تم غسل قلوبهم بالزمزم بعد عام وقالوا إنهم يشعرون بسعادة وطمأنينة غير عادية منذ تلك الجراحة. |
قمت بذلك آنذاك عن اقتناع وتوقفت عن ذلك عن اقتناع |
|