تفتح شاعرية عبد العزيز الرفاعي |
تتفتح الشاعرية عند معظم الشعراء في بداية العقد الثاني من أعمارهم أو وسطه، ويكتمل نضجها في مطلع العقد الثالث أو نهايته، وليست هذه قاعدة عامة، وإنما قراءة سير الكثيرين تشير إلى ذلك وبعض هؤلاء الشعراء ينطفىء وهج شعرهم قبل أن يكتمل نضجه، وبعضهم يخبو وهجه بعد النضج، وذلك حين ينصرف الشاعر الى جوانب أدبية أُخرى، يكون أشد حبّاً لها، وأكثر ميلاً للغوص في أعماقها، ومن الأدباء أو الشعراء الذين خَفَتَ صوتُهم الشعري بعد أن أصدر الواحد منهم ديواناً شعرياً واحداً كالأستاذ عبد القدوس الأنصاري مؤسس مجلة المنهل، والأستاذ أحمد عبد الغفور عطار مؤسس جريدة عكاظ والأستاذ احمد محمد جمال - رحمهم الله جميعاً -، فالأول أصدر ديوان "الأنصاريات" ثم توقف عطاؤه الشعري، وأما الثاني فقد أصدر ديوانه الموسوم بـ "الهوى والشباب" ثم تعلق قلبه بالبحوث اللغوية والدراسات الإسلامية، وأما الثالث فقد اصدر ديوانه الوحيد في ريعان شبابه وعنوانه "الطلائع" ثم توقف تدفقه، وبقي الشعر في وجدانه جذوة تحت الرماد، وظلت تلك الجذوة خامدة، فلم يوقظها إعصار يزيح عنها ما تراكم عليها من رماد السنين. |
وأما شاعرنا عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - فقد كان نشطاً في العقدين الثالث والرابع من عمره، فكان يزود الصحف المحلية والمجلات العربية المحلية والخارجية في فترات متقاربة بقصائده، وكان يوقع تلك القصائد لا سيما الغزل منها بتوقيع "شاعر الأغصان" وظل هذا الرمز مرتبطاً به إلى أن بدأ ينصهر في كتابة المقالات والبحوث، والدراسات النقدية فقلَّت إبداعاته بشكل واضح، لكنه لم يقطع صلته بما تعشقه منذ طفولته، وكان لندوته الخميسية التي كانت منتدى أدبياً كبيراً في مدينة الرياض يفد إليها شخصيات كبيرة لها وزنها في المجالين العلمي والأدبي وكثيراً ما حظيت بزيارة رجالات السياسة، وكان حريصاً أن يتعهدها بين الفينة والفينة فكلما أخذ اللهب في موقده يتضاءل أسعفه بعود جزل من مخزونه فأشعل موقد ناره، ليظل متقداً، لذلك نجده لا يخلو عام من الأعوام لا سيما في السنوات الأخيرة من حياته إلا ويقدم لقرائه قصيدة تعتبر من غرر القصائد الشعرية وسنحاول الإشارة إلى هذه القصائد عند الحديث عن غرر قصائده. |
والشعر عند عبد العزيز الرفاعي ليس نظم كلمات كما هو حال الكثير من المتشاعرين وكما كان يعتقده في بداية علاقته بالشعر حيث قال في كتيبه الموسوم "رحلتي مع التأليف" في الصفحة السابعة: "مهما يكن الأمر فقد كتبت أبياتاً في الحكمة، ليس مهماً أن تكون ذات وزن، ولكن المهم أن تكون ذات قافية، وقد يغني عن الوزن استعمال المساحة، ألا يكفي أن تكون الأبيات متساوية من حيث الطول.. ثم أليس المقاسات الطولية داخلة في عالم الأقيسة والمعايير؟".. وليس الرفاعي هو أول من سلك هذا الطريق ولن يكون آخر من سلك، فكثير من الشعراء الذين بلغوا درجة الفحولة إنما كانوا في بداية رحلتهم من الذين طرقوا باب النظم ثم اتخذوه سبيلاً يقودهم إلى رياض الشعر التي لا تفتح أبوابها إلا لمن بلغ من الشعر شأواً رفيعاً. |
ولقد أشار الرفاعي في مقدمة ديوانه إلى أن شعره في العقدين الثالث والرابع من عمره إنما يمثل شعر الغزل شعر العواطف والأحاسيس والذي يمثل في نظره الأغصان التي رمز لنفسه أنه شاعرها، وأن الشعر الآخر يمثل ظلال الأغصان ولنقرأ ما جاء بالصفحة السادسة من مقدمة ديوانه حيث قال: "وكان الترتيب الطبيعي أن تأتي الأغصان أولاً، ثم تزحف الظلال... ولكن أبت صرامة في الطبع إلا أن تحجب الأغصان، وتسمح للظلال، ويوشك أن يكون في الأمر شيء كالمستحيل. ولكن هكذا كان". |
ودعونا نقرأ ما جاء بالصفحة العاشرة من مقدمة الديوان "ظلال ولا أغصان" يقول الرفاعي: "إذن فقد كانت في الغابة أغصان.. وكان لي فيها أشجان أما الأغصان فذوت.. وأما الأشجان فانطوت وقد رأيت أن أحجبها فما عاد لها اليوم مكان إلا في الأعماق، وما كان في الأعماق قلما يطفو. وقد كان للأغصان ظلال ولا ضير أن تطفو الظلال. فهي أيضاً جزء من النفس وحديثها، وهو حديث قد يعجب القراء وقد لا يعجبهم". |
وإذا ألقينا نظرة فاحصة إلى العبارتين لوجدنا أن الرفاعي – رحمه الله – يقول في العبارة الأولى أن صرامة طبعه هي التي حجبت الأغصان لكنه في العبارة الثانية يقول إن الأغصان ذوت ولكنه حجب الأشجان وبين العبارتين شيء من التناقض يبدو للقارئ لأول وهلة، لكن المتمعن يستطيع أن يقتنص الفرق بينهما في الأولى عبر عن شعره العاطفي بالأغصان وهو شعر قاله في ربيع عمره والربيع في حد ذاته فصل الخضرة والجمال والحيوية، والشباب ربيع الأمة، ومرحلة الشباب هي مرحلة الربيع في حياة الإنسان. رغم أن شعره في تلك المرحلة كما يقول: "لا يعدو أن يكون مما ألف الناس من العواطف والأحاسيس، بل هو مما أحبوا منذ عهد امرئ القيس إلى عهد علي محمود طه، ولكني نظرت إلى الأمر نظرة أخرى تقول: "إن معظم هذه الأشعار هو من زهو الصبا، ونضارة الشباب، وأن فيها شيئاً من نفحات ذلك العصر الغض الجديد، وهي نفحات تحمل مع الجدة أشياء من وثبات الشباب. حملتها اليوم بعد الستين وقر وقاري، فقلت لها: قري حيث أنت". |
إذن فالأغصان هنا هي تلك الأشعار المتدفقة حيوية، الطافحة بوثبات الشباب وتطلعاتهم، وأحلامهم، وأمنياتهم حاضراً ومستقبلاً وهي تلك الأشعار التي تحب سماعها، وتحب النفس أن تسبح في ظلالها، والعقل الإبحار في خيالاتها، وتعشق الألسن وتطرب لترديدها، وأنه قرر حجبها بعد أن بلغ الستين من عمره لأنه يرى أن تلك المرحلة جديرة بأن تكون مرحلة الوقار، ولا تسمح لملذات الشباب أن تجاورها، وهي وإن لم تكن بها عبثية أو مجونية أو خليعة، أو تمس الشرف لكن نسبتها إلى الشباب تجعل من غير اللائق في نظر العقلاء من الرجال المرموقين في المجتمع ألاَّ تُرى في منتدياتهم أو مجالسهم العامة والخاصة، لأنها تمثل نقطة حبر أسود في صفحة بيضاء لم يخط بها حرف واحد. وإذا قبلنا هذا التعليل على وجه ما من الصحة فإن الأشعار الأخرى لا يمكن قبولها ظلالاً للأغصان "أشعار مرحلة الشباب" لأن الظلال ليست إلا خيالاً للأصل أو نسخة كربونية له تحمل شيئاً من شكل الأصل. غير أن الأشعار التي اعتبرها ظلالاً في هذه الحالة أشعار ذات أبعاد، وتحليقات مختلفة جداً عن أشعار الغزل وإن كان للعاطفة دخل كبير في كل أشعار عبد العزيز الرفاعي. |
وفي رأيي أن الشاعر الرفاعي قد وفق في تصوره في العبارة الثانية توفيقاً أكثر من تعليله للأغصان والظلال في العبارة الأولى. فهو في العبارة الثانية يصور لنا الدنيا غابة والغابة لا تحمل هذا الاسم ما لم تكن كثيفة الأشجار المتشابكة، والأشجار ذات أغصان والأغصان تحمل الزهور وتحمل الثمار، وقد عبر عنها بالأشجان ثم أصدر عبارات لمَّاحة يحاول بها أن يشحذ تفكير القارئ ليجد ما يهدف إليه الكاتب. فقال: فأما الأغصان فذوت، وهو هنا لا يعني الأغصان التي وردت في العبارة الأولى ثم قال: وأما الأشجان فانطوت. ثم أردف بعدها قائلاً: وقد رأيت أن أحجبها أي أنه حجب الأشجان بعد انطوائها وذلك حرصاً منه على أن تظل سجيتة فخبأها، ثم قال: وقد كان للأغصان ظلال. ولا ضير أن تطفو الظلال. إذن فالأغصان ليست الأشعار الرقيقة العاطفية المحببة إلى النفس بل هي شيء آخر والظلال هنا أيضاً ليست أشعاراً وإنما لها معنى غير ما فهمناه في العبارة الأولى. |
سأحاول أن أحلل هذا النص الذي ورد خاتمة للمقدمة التي كتبها الرفاعي - رحمه الله - لديوانه "ظلال ولا أغصان" إذن فقد كانت هناك في الغابة أغصان" إلى قوله "وهو حديث قد يعجب القراء وقد لا يعجبهم". |
الغابة في النص استعارة للمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، والإنسان في هذا المجتمع يمثل شجرة، وكل شجرة لها أغصان والأغصان هي أعماله. وكل غصن يحمل زهرة أو عدة زهرات، وهذه الزهرات تذبل وتتساقط ويخلفها ثمر، أو لا يخلفها، والزهر والثمر نتيجة أعمال الإنسان شاعراً أو غيره فبعض هذه الأعمال لا تؤتي ثمراً فهي تتساقط زهراً، وبعضها يثمر ثمراً طيباً وبعضها يثمر ثمراً سيئاً. فأعمال المرء هي مصدر شؤونه وشجونه، أحلامه وأمانيه، وحسناته وسيئاته، فقد تُورِّث في قلبه حسرة، وقد تطرب قلبه وتشجيه، وقد تمسح دموعه، وتطفىء لهيب أشواقه، وقد تكون عكس ذلك والأغصان وهي الأعمال تضعف بطبيعتها، فكلما تقدم الإنسان في السن بدأت قواه تنحدر من أعلى إلى أسفل، ومن ثم تضعف طاقته الجسدية والعملية والعقلية ويصبح غير قادر على العطاء وكذلك الأغصان إذا ضعفت وجفت أصبحت غير معطاء تحولت من عالم العطاء عالم الأحياء إلى عالم الأموات وذلك ما قصده الرفاعي، والإنسان إذا مات إما إلى الجنة أو النار قال الله تعالى: فريق في الجنة وفريق في السعير والشجر كذلك إذا مات إما أن يكون وقوداً للنار أو يكون زينة يزدان به العالم الذي ينتقل إليه. ولا يبقى لهما إلا الظلال وهي هنا الذكريات سواء أكانت هذه الذكريات حسنة أم سيئة فهي باقية، وهذا السبب الذي دفع عبد العزيز الرفاعي إلى تسمية ديوانه "ظلال ولا أغصان" ومعنى ذلك "أن هذه الأشعار التي جمعت بين دفتي الديوان ما هي إلا ذكريات لكائن حي انتقل إلى عالم آخر وبقيت ظلاله" واختيار هذا العنوان توفيق من الله ألهمه إياه، ولقد شرق وغرب بعض النقاد في تحليل العنوان لغرابته ولكنهم في نظري لم يصلوا إلى ما هدف إليه عبد العزيز الرفاعي عندما وضع ذلك العنوان. وسأحاول عند الحديث عن عنوان الديوان في باب لاحق أن أتناول الموضوع بشيء من التفصيل. |
|