شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
7- "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبرَّه. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍ جواظٍ مستكبر" (1) .
فهذا الحديث يبشر الضعفاء بأنهم أهل الجنة.
فكيف أجمع بين الحديثين؟ كيف أجمع بين القوة والضعف فيهما؟.
أحسب أولاً أنه لا تناقض بين الحديثين، لأن الحديثين يقومان على "التوازن" في المعنى. و"التوازن" في التصور الإسلامي -كما ذكرت سابقاً- لا يلغي الشيئين لأن الإلغاء مصادرة للحركة وللمقاومة، بل تتعاقب القوة والضعف على النفس في حركة مستمرة، حتى إن مذهب أهل السنة والجماعة أن يجمع الشخص الواحد الشيء ونقيضه، فيقول "ابن تيمية": "لا منافاة أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويُعذب ويبغض من وجه، ويثاب من وجه ويعاقب من وجه، فإن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران خلافاً لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة" (2) .
إذاً فلا مانع أن يكون الإنسان قوياً من وجه وضعيفاً من وجه آخر، وإنما يتحقق "التوازن" المطلوب في المقاومة التي تعين على ضبط الحركة وتوجيهها بين القوة وبين الضعف كل في مقاومة وبالقدر المطلوب.
فكما يطلب من المسلم أن يكون الإنسان قوياً في أداء ما عليه من حقوق، قوياً مع أعدائه، يطلب منه أن يكون ضعيفاً أمام ربه، متضاعفاً مع الضعفاء ولولا هذا الضعف المطلوب المقدر، لذهبت به قوته إلى الغرور والكبر فأصبح من أصحاب النار.
إذاً فالقوة غير المحفوفة بالضعف تجعل الإنسان عتلاً جواظاً مستكبراً.
فالحديثان ينبثقان عن الدعوة إلى "التوازن" ذلك "التوازن" الذي تتقابل فيه القوة والضعف لاشتراكهما بالإيمان. وهذا التوازن -كما أتصور- أضفى على مضمون الحديثين جمالاً، لأن القوة الطاغية لا تنتج إلا قبحاً. وأي قبح أكثر مما نراه الآن في عالمنا من جرائم تلك القوة الطاغية في الحروب أو في تحدي الطبيعة. كما أن الضعف وحده قبح. وما أكثر ما نرى من مظاهر ذلك القبح حيث المسلمون ضعفاء جسداً أو روحاً، وقد تكالبت عليهم الأمم القوية كل ينهش ذلك الجسد الضعيف من جهة.
أما القوة المتزنة فهي الجمال، وقد جعلها "أحمد حسن الزيات" أهم خصائص الجمال فهو يقول: "إن الطبيعة في حد ذاتها فضيلة؛ ولكنها لا تكون جميلة إلا إذا اقترنت بالقوة. فسقراط في الحكماء وعمر في الخلفاء مثلان ثائران في جمال الخُلُق، ولكنك إذا جردت أخلاقهما مما ينبئ عن القوة وخواصها من الصدق والشجاعة والسمر، ذهب الجمال وبقيت الطيبة " (3) .
فإذا انتقلت إلى الأدب، أجد القوة صفة مهمة للأديب بعامة فبها يستطيع السيطرة على عواطفه وانفعالاته، وكما جعل "الزيات" القوة من أهم خصائص الجمال في الشخصية، جعلها أيضاً من أبرز خصائص الجمال في الأدب فهو يقول: "كذلك الحال في أعمال الذهن، فحل معضلة في الهندسة... ونظام محكم في التشريع، وقطعة قوية التفكير والتصوير في الأدب، كلها أعمال جميلة لأنها تستلزم نصيباً موفوراً من الذكاء، وقوة عظيمة في التفكير، وشعور المرء بالجمال فيها موقوف على إدراك القوة التي تقتضيها" (4) .
ثم يضرب مثلاً على ذلك "بالخطيب الذي يصنع الآراء بقوة كلامه، ويسترق الأهواء بسحر بيانه، ويملك على الشعب نوازع القلوب فيرسله على رأيه ويصرفه على إرادته، وقد أوتي من القوة في الفن والعبقرية ما يحمل النفوس على الإعجاب بقدرته والانقياد لأمره. والشاعر الذي يسبي العقول بقوة أسلوبه وسحر إلهامه كلاهما يعلن الجمال في قوة الفن" (5) .
أما عن الشكل في الحديثين السابقين، فلو ذهبنا نبحث عن سر جمال الألفاظ ظانين أن بها من ألوان الفنون البلاغية ما بها، لأعيانا البحث لأنها تكاد تخلو من الفنون البلاغية الاصطلاحية.
ومع هذا، يبقى جمال كل لفظ فيها. وتبقى عذوبة وقعه في الحس، وأحسب أن ذلك السر هو في أنها جاءت عفو الخاطر، موحية، لها جرس يزيد المعنى إشراقاً، فيبدو متمشياً مع المعاني، "متوازناً" معها.
ففي مواطن القوة أجده رناناً "احرص، استعن، لا تعجز".
وفي مواطن الضعف أجد التصوير بالصوت الذي شخّص الصورة، فجعلها ماثلة أمامي حية مثل لفظة "متضاعفاً"، وما فيها من معنى التظاهر بالضعف.
وفي موطن الكبر والتنفير منه، أجد الألفاظ أخذت صوتاً له وقعه الثقيل على النفس، إيحاءً بصورة المتكبر وثقله على النفوس، لذا كانت الألفاظ ثقيلة: "عتل، جواظ، مستكبر".
هذا التوازن بين جرس الكلمة ومعناها -هو ما ذكرته عند حديثي عن التوازن في اللغة العربية- له جماله الذاتي في الإيحاءات المؤثرة في رسم الصورة باللفظ.
وقد وصف "الرافعي" تناسب ألفاظ النبي (صلى الله عليه وسلم) مع معانيه بقوله: "كأن تلك الألفاظ القليلة إنما ركبت تركيباً على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعته في النفس؛ فمتى وعاها السامع واستوعبها القارىء، تمثـل المعـنى وأتمه في نفسه حسب ذلك التركيب فوقع إليه تاماً مبسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنى جموماً، وهذا ضرب من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة التي تذعن لها النفوس وتتصرف معها، وقلما يستحكم لامرىء إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجة، فهو على حقيقته مما لا يعين عليه الدربة والمزاولة إلا شيئاً يسيراً لا يستوفي هذه الحقيقة" (6) .
وكأني "بالرافعي" يشعر بمعيار التوازن وأنه هو سر البيان الأدبي، فيعبر عنه دون الاهتداء إلى المصطلح.
فإذا كان "التوازن" سراً من أسرار الجمال في البيان النبوي فأحرى بالأديب المسلم أن يتوخاه فيما ينشىء من قصيدة أو مقالة أو قصة، بقدر ما تسعفه قدرته، وترشده قريحته، وكذلك أحرى بالناقد المسلم أن يكشف عن هذا المعيار في أعمال الأدباء ليستقيم الذوق العام، ويبقى للأدب الإسلامي خصوصيته التي يعكس بها التصور الإسلامي للأشياء وللأحياء.
وعودة إلى الأحاديث النبوية وما تحمله من مضامين، تدعوني جملتها إلى "التوازن" المطلوب، في كل انفعال ومع كل سلوك؛ فالانفعال ينبغي أن يكون مقدراً، والسلوك يجب أن يتماشى مع الموقف.
في الحديثين السابقين وجدت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حَرص على أن يحتفظ الفرد بقوته وبضعفه، أن يتغذى بالقوة مع تذوقه طعم الضعف، وإني أحسب أنه ما دعا إلى ذلك إلا ليوجد شعوراً ثالثاً -لا أقول إنه يتولد من امتزاج القوة مع الضعف- بل هو شعور ينمو ويستقر في ظل القوة وحنان الضعف.
هذا الشعور هو: "الرفق". وقد دعا إليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أحاديث عدة منها قوله:
8- عن عائشة زوج النبي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (7) .
فالرفق -كما أرجح- هو التوازن في المعاملة، فيه تتحكم الإرادة وتختفي الحدة ويبين الصواب، وبالرفق يستطيع الإنسان أن يتعامل مع المواقف، فيعطي كل موقف حقه من الانفعال أو السلوك دون زيادة أو نقصان، وبهذا تصبح النتائج مرضية في أغلب الأحيان، إلا أن تشاء إرادة الله فيحدث ما يغير تلك النتيجة ومع ذلك يعيش الإنسان في سكينة، لأنه يعلم مسبقاً أنه لم يدخر جهداً إلا صرفه في ذلك الموقف.
ويعتقد بعض الناس أن الرفق يكون نتيجة الضعف، وهذا خطأ كبير، فالرفق لا يكون إلا مع القوة، لأن القوة المضبوطة هي التي تتحكم في تصرفات الإنسان وانفعالاته فتعطي رفقاً، أما الضعف وحده فلا يمكن أن ينتج عنه رفق وإن أحدث رفقاً في موقف فهيهات أن يطرد في جميع المواقف التي يحتاج فيها إلى الرفق إذاً فالرفق يحتاج إلى الاثنين معا: القوة واللين، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقدم لنا درساً عملياً في الرفق يبيّن فيه كيف أن نتيجته دائماً تعود بالخير على صاحبه:
"فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقلت: يا رسول الله! أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله: قد قلت وعليكم.
وفي رواية أخرى: أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ (8) .
وهكذا نجد قدوتنا محمداً (صلى الله عليه وسلم) يقدم لنا الدرس العملي في الرفق وضبط الانفعال، وكيف لا يكون كذلك وقد قال الله عز وجل فيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (9) .
ومضمون الحديث إذن يدور في فلك "التوازن" الذي جاء هنا في معنى: الرفق. والأمر المعجب حقاً كيف ربط الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بين الرفق والجمال، بحيث أصبحت الدعوة إلى الرفق هي دعوة إلى الجمال، والدعوة إلى العنف هي دعوة إلى القبح، ألم يقل: "الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شأنه"؟ وهكذا استنبطت القيمة الجمالية المقصودة من وراء "التوازن" والرفق، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يريد أن يعلم المسلم كيف يحرص على جمال أخلاقه.
أما شكل الحديث فإن "توازن" فيه مرعي من عدة جوانب:
- فمن حديث ألفاظه: كان التناسب بين اللفظ والمعنى تناسباً تاماً فناسبت كلمة "يكون" بهدوئها ورزانتها موقع "الرفق". وناسبت كلمة "ينزع" بشدتها وصعوبتها موقع "العنف".
- أما عن جمله فقد كان التوازن بين المقطعين "توازناً" ساعد على إيجاد إيقاع رتيب ونغمة جميلة موحية بالمعاني، وهذا النوع يسمى "الازدواج"، وهو من الفنون البلاغية التي تقوم على "التوازن" بين الفاصلتين، وقد كان الازدواج طبيعياً غير متكلف كما لم يكن على حساب المعنى.
ويفضي بنا الكلام السابق إلى أصالة معيار التوازن وارتباطه فنياً بالجمال في هذا الحديث، سواء من حيث المضمون أم من حيث الشكل إذ الرفق من حيث هو قيمة شخصية أو اجتماعية ملاك الحسن كله، لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شأنه. وما أجدر الأديب -لا سيما القاص- أن يجعل هذه القيمة معياراً لاستواء الشخصية الراضية المرضية القوية وأن يجعل التناسب بينها وبين جمله وتراكيبه وألفاظه مستهدياً بمثل هذا الحديث.
الأحاديث السابقة -كما أتصور- كانت تدعو إلى التوازن في مفهوم القوة. فالقوة في المفهوم الإسلامي ليست قوة تخبط خبط عشواء، ولكنها قوة متزنة مهيمنة على جميع تصرفات المسلم وانفعالاته، فبعد أن أدركت قيمة القوة في الرفق، إذ بي أجد لها أمداداً أخر تمدني بها أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن أمداد تلك القوة قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
 
طباعة

تعليق

 القراءات :671  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج