شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبد العزيز الرفاعي رجل الأخلاق، وأخلاق الرجال !!
في مرتبة وزير، لكنه لا يشعرك بذلك !!
أهو ((التواضع))، أم ((كاريزما)) شخصيته ؟ أم لأن تكوينه النفسي بصفته أدبياً، وشاعراً ضنيناً (أي مقلاً في شعره) ؟ أم لأنه يعد المنصب مجرد ثوب يتقادم، فيبلى، ويتمزَّق، أو شعار شكلي؟ لهذا، فهو لا يرتدي ((المشلح)) إلا في الحفلات الرسمية، أم هو الشعور أن ما يبقى منه، وله، إلا علاقاته الإنسانية مع الآخرين، كبارهم، وصغارهم، أغنيائهم، وفقرائهم، أم، أم، أم ؟
أسئلة لا تنتهي، ويبقى هو كل هذه الأشياء والمعاني الجميلة مجتمعة في شخصه، وسلوكه الراقي، ووقاره الأرقى، التي أستمدها من تربيته، واكتسبها من مجتمعه (( الحجازي )) حيث (( مكة المكرمة )) ـ المقدسة وفيها ((الكعبة المشرفة)) أول بيت لله أقيم على الأرض ((وقبلة المسلمين، و (( المدينة المنورة )) (المقدسة بمسجد خاتم الأنبياء والمرسلين )) عليه الصلاة والسلام، ومدينة الأنصار الذي يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، و ((الطائف )) المأنوس (( وجدة )) (أم الرخاء والشدة) ـ.
هذا ((المربع الاجتماعي)) الذي نشأ صديقنا العزيز، وجارنا في السكن في الرياض وأستاذنا (عبد العزيز الرفاعي)، اكسبه شخصية نموذجية يقتدى بها.
كان صديقه الحميم الذي يأنس له، ولسخريته الأدبية اللاذعة، وظرفه اللطيف الصديق الأستاذ (علي محمد العمير) هوالذي قادني إلى صالونه الأدبي (( الخميسي )) حين نُقل عملي إلى (( الرياض )) عام 1387هـ، لم يجهلني لأن كلينا كان يقرأ للآخر، مع الفارق الكبير في السن، والمكانة الأدبية، والاجتماعية، كنا نتبادل الرسائل حين كنتُ أعمل في جريدة (( البلاد )) على عهد الأستاذ (عبد المجيد شبكشي) رحمه الله حيث كنتُ أشرف على صفحة ((الأدب))، وأحرِّر زاوية يومية بعنوان (( شبابيك ))، قال لي ليلتها كأنه يرحِّب بي بطريقته الخاصة: كنت أظن أنك أكبر سناً بالمقارنة بين ما أقرأ لك، وما أراك عليه !! أجبته: إنني إنسان تساقطت على رأسه كثير من حجارة الحياة والناس، فأكسبتني نضجاً أكبر من عمري الحقيقي !! فعلَّق الصديق العمير ساخراً: يا أبا عمار إنه واحد من أولادي !! فرددتُ على سخريته: في الأدب، والمكانة، بمودة فتدخَّل الرفاعي بمودته وتواضعه، كأنه يود أن يفك الأشتباك بيننا قائلاً: أنتما شقيقا أدب، وشقيقا علاقة حميمة، وتجمعكما ((نسمة الجنوب)) العذب، الحلو !!
كان يرتاد (( صالون الرفاعي )) كثير من الأدباء والوجوه الاجتماعية السعودية، والعربية، وحتى من الأجانب المستشرقين، أذكر منهم مع حفظ الألقاب (عبد العزيز السالم، علي محمد العمير، ماجد الحسيني ـ رحمه الله ـ، ود. عبد القدوس أبو صالح، د.بكري شيخ أمين، د.زهير أحمد السباعي، عبد الرحمن المعمر، د. بدوي طبانة، د.محمد عبد المنعم خفاجي ـ رحمه الله ـ، عمر بهاء الأميري ـ رحمه الله ـ، علي محمد بخش، عبد العزيز الربيعي، وشاعر جازان محمد السنوسي (( رحمه الله )) .. وغيرهم كثر).
هؤلاء الذين أذكرهم الان لأنني بعد أشهر من هذا اللقاء الأول معه شُغلت بالعمل، والصحافة والأدب والدراسة الجامعية نهاراً، وليلاً، فلم أتمكن من مواصلة الذهاب كل خميس مساء الجمعة إلى صالونه الذي بدأ يستقبل فيه المفكرين والأدباء في بداية السبعينيات الهجرية بعد القرن الثالث عشر على ما أذكر، والعهدة على الذاكرة، والتقادم الطويل !!
لكن صداقتي بالرفاعي لم تنقطع، إنها أشبه بعلاقة التلميذ بأستاذه، أما صداقته بالعمير فهي أعمق، وأكثر متانة، وكان العمير يشجِّع نشر أخبار الصالون بصفته مديراً لمكتب جريدة ((البلاد)) في الرياض، بل هو ـ أي العمير ـ الذي أطلق على ذلك التجمع صفة ((صالون ومنتدى الرفاعي)) وفاء لصديقه الرفاعي وتشبهاً بصالون (( العقاد )) ، وصالون (( مي زيادة )) مثلا، والصالونات، أو المجالس الأدبية في قصور الخلفاء والولاة ببغداد، والأندلس.
ولكي تعرف معادن الرجال، وأصالتها، أو العكس فأتخذ السفر وسيلة لمعرفتك، لأن السفر بحكم الاحتكاك الدائم، وفي ظل كل الظروف الإنسانية المتقلبِّة، يكشف هذه المعادن، ويجسِّد سلوكياتها، وتصرفاتها!!
لهذا فقد قدِّر لي أن أسافر مع الأستاذ الرفاعي إلى تونس، ومن حسن المصادفات أن سفرنا كان في طائرة واحدة، فوصلنا تونس قبل بداية الندوة التي جئنا من أجلها بثلاثة أيام.
كان يتنازعني شعوران: (أحدهما) هل سألتقي مع ((الرفاعي)) الذي يكبرني سناً ومقاماً، رغم أنني يومها رئيساً لتحرير مجلة ((الفيصل)) ومع مزاجه، ووقاره؟
(والآخر) أن الرفاعي في ظاهره جاد، فهل سنقضي الوقت محكومين بمشاعر الرسميات، لا العلاقات الإنسانية؟
ومن طبيعتي في رحلاتي الذهاب إلى المتاحف لأتمكن من الكتابة عنها في المجلة في باب ((من متاحف العالم))، والمكتبات القديمة بحثاً عن كتاب نادر، كما أحب زيارة المؤسسات الثقافية، والأحياء العتيقة للمدينة لشعوري بأن معرفة الإنسان الطبيعي الفطري لا تتحقَّق من خلال الشوارع الرئيسة، أو من خلال الجلوس في أبهاء الفنادق الفخمة التي يضيق صدري بالجلوس فيها، ومشاهدة الداخلين والداخلات، أو الخارجين والخارجات لشعوري بأنهم كالممثلين في الأفلام السينمائية الأرستقراطية، في الوقت الذي أميل فيه إلى البساطة، والناس البسطاء !!
فهل شخصية وزير تميل إلى ما أميل إليه؟
حيث سألتُ نفسي فوجئتُ بجرس الهاتف يرنُّ في غرفتي، فإذا به الأستاذ (الرفاعي) يسألني عن برنامجي، ولأن شرط المرافقة في السفر الموافقة، كما يقولون في الأمثال، رددتُ على سؤاله تأدباً، كما تشاء !! فقال لي أستعد لأنني سآخذك إلى أعتق مكتبة في تونس، فتهلَّلت أساريري، وشعرتُ أن البداية تبشِّر بخير، والليالي تزينهن النجوم، والرفاعي في فكرته كان نجماً أضاء ظلمة أسئلتي الخاطئة، لأنني خشيتُ أن تضيع عليَّ أيامي الثلاثة التي تسبق الندوة وعدم اللقاء بوفودها الكثر لاستكتابهم للمجلة.
ذهبنا معاً إلى المكتبة العتيقة التي ذكر لي اسمها فذكرته في أحد كتبي الصادرة وعرفتُ منه أنه زارها عدة مرات، ويأتي إليها في كل زيارة له إلى تونس، وبدأ البحث عن الكتب التي كان يغطِّيها الغبار !!
كانت مكتبة صغيرة لا تزيد مساحتها عن (3x4م) تقريباً، عبارة عن متحف غير مكشَّف، ولا ((مؤرشَف)) بحيث لا تستطيع أن تطلب كتاباً بعينه، بل عليك أن تبحث بنفسك والغبار يملأ يديك، وملابسك، و ((خياشيمك))، وصاحبها رجل مسن يقبع بزيه التونسي التقليدي، يجلس وسطها كأنه تحفة من تحفها !!
وقد أنشغل عني صديقي (الرفاعي) منهمكاً في البحث بجدية، كأنه نسيني، ومن حين لآخر يخرج كتاباً من أسفل، أو من بين الأرفف، ويمسح عنه الغبار بيده، في الوقت الذي كنتُ أقف متفرجاً يعرف عشق الكتب، وامتلاكها، وقراءتها، لكنه لم يصدف أن رأى مكتبة كهذه، ولم يعرف أكثر عشقاً منه للكتب، وإدراكاً لقيمة بعضها كالرفاعي، ولأن لديَّ حساسية موروثة من الغبار فقد بدأت أعطس، وأعطس، فإذا بالعطاس يتحوَّل إلى زكام، فأخرجتُ منديلي لأضعه على أنفي !!
مضت أكثر من ساعة، وصديقي (الرفاعي) كأنه يعيش لحظات عشق نادر، ومزمن، ولم أتمكن أمام حساسيتي من الغوص في غبار الكتب، هذا الغبار الذي كان كالتحفة، وفجأة لمحتُ في يد أستاذي (الرفاعي) كتاباً أثارني عنوانه (( قصة تاريخ الكتاب )) !! وحيث طلبتُ من صاحب المكتبة نسخة أخرى منه، ردَّ بأنه لا توجد نسخة أخرى غير هذه النسخة التي مضى على طباعتها نصف قرن، وإنه ربما لم تطبع بعدها !!
وجلستُ أقلِّب صفحاته، وأقرأ الفهرست فوجدت أنه كتاب مترجم عن الإنجليزية، وأنه كتاب قيِّم، ثم أعدته إلى الكتب التي أختارها الرفاعي الذي توقف عن البحث مراعاة لحساسيتي !!
ولأن وقت تناول الغداء قد حان، فسأل صاحب المكتبة عن قيمة الكتب التي اختارها أستاذي (الرفاعي)، فألقى على عناوينها صاحب المكتبة نظرة عجلى، لأنه لا توجد على الكتب أقيامها فهو يقدِّرها من خلال قراءاته المسبقة لها، يقضي أوقات فراغه في قراءتها، ولأن زبائنه قليلون، ومحدودون ومعينون، يعرفهم ويعرفونه والرفاعي واحد منهم، كما عرفتُ من الترحيب به، وسؤاله عن طول الغياب، وحركة سوق الكتب في المملكة، فكان الرفاعي رسول المملكة في الأدب وشؤونه، وشجونه، وهمومه، وقد نقده (الرفاعي) المبلغ الذي طلبه صاحب المكتبة دون مساومة كأني به يردِّد ما قاله الشاعر (( ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر )) ، وحسناوات الرفاعي هن الكتب التي يختارها انتقاء، فما كل حسناء تمتلك الأصالة، والجاذبية، والافتتان !!
ولولا الحياء لضحكتُ لأن رموش عيني أستاذي الرفاعي كانتا مكحَّلتين بالغبار، وربما كانت رموش عيني ليست أفضل من رموش عينيه، ورغم أنني لم أشتر كتاباً لحساسيتي، إلا أنني كنت أشعر بالسعادة، وبخاصة أن المكتبة تقع في سوق شعبي حيث تمكنتُ من التجوال في أرجائه بعد أن قرأتُ في معروضاته، وفي وجوه الباعة والمشترين لإشباع فضولي، وكيف تتم عملية البيع والشراء، وقرأتُ ملامح مصغرة للمجتمع التونسي الطيب، وما دروا أن هذا السائح الذي يمر بهم هو من المدينتين الإسلاميتين المقدستين في العالم، والتي يحلم كل واحد منهم أن يسعد بزيارتهما، كما أنهم ما دروا أن أسراً تونسية استوطنت هاتين المدينتين، وأستقر بها المقام، وبعضها ما يزال إلى اليوم يحمل في نهاية اسمها صفة (( التونسي ))، أو (( المغربي ))، أو (( الجزائري ))، وأصبحت جزءً من نسيجها الإجتماعي.
بعد أن عدنا إلى الفندق، وغسلنا ما على وجوهنا وأيدينا من الغبار، أتفقنا قبلها على اللقاء في المطعم الذي فاجأني فيه أستاذي (الرفاعي) بنسخة الكتاب الوحيدة التي معه مزهرة باهدائه النبيل، لأنه أدرك بحاسته السادسة حرصي على إقتناء نسخة منه !!
شكرته ووعدته لقاء هديته أن أكتب له موضوعاً عن الكتاب في مجلته الدورية (( عالم الكتاب )) التي يصدرها مع الصديق العزيز (عبد الرحمن المعمر)، وقد وفيت بوعدي، بعد أن أخذتُ منه وعداً بكتابة زاوية في صفحتين لمجلة (( الفيصل )) فسألني: أجئت من أجل حضور الندوة، أمن من أجل ((الفيصل)) ؟ فرددتُ عليه من أجلهما معاً، وسوف أستكتب أكبر عدد ممكن من الأدباء والشعراء والباحثين والدارسين الجادين، سألني هل يعلم الأمير خالد الفيصل بذلك ؟ قلت له خالد الفيصل رجل حضاري لا يعلم أنني في تونس، لأنه أعطاني حرية الحركة والتحرك كما أشاء دون أخذ إذنه، لمعرفته جيداً أن الصحافة التي تدار من وراء المكاتب، هي صحافة التثاؤب، والنعاس، والوجبات الجاهزة، والمعلبة، ولو لم أجد فيه هذه الصفات الحضارية، وغيرها من الصِّفات النبيلة التي يعاملني بها لتركتُ العمل في المجلة من الشهور الأولى !!
إنه يشعرني دائماً أنني صاحب المجلة، لهذا فهي بالنسبة لي تحظى مني بالعناية والجهد، والسهر، أكثر مما يحظى به أبنائي، وهذا وحده يكفي، قال: نعم، نعم لقد عرف أين يضع أمانته، وأفلح في اختيار من يتحمَّل مسؤولية هذه الأمانة الكبيرة !!
ورغم مسؤولياته المتشعبة في (( دار الرفاعي للنشر والتوزيع ))، إلى حد أنه قال لي: تصوَّرت إنني بعد التقاعد عن عملي الرسمي الوظيفي سوف أجد بعضاً من الوقت الذي لم أجده في العمل، لكن تصوري كان خاطئاً، فقد أتسعت أعمال وهموم الدار ليلاً ونهاراً، فوقعتُ في ((حيص بيص)) كما يقول الحريري في مقاماته.
ومع ذلك صار يكتب لمجلة (الفيصل) زاوية شهرية تحت عنوان (( وللحديث شجون ))، ولم يتوقَّف عن كتابتها إلا حين تركتُ المجلة، وقد جمع ما كتبه في هذه الزاوية الرشيقة بأسلوبها، الجديدة بموضوعاتها، بالعنوان نفسه في كتاب أهداه لي، وما تزال مسودته لديَّ، لأن (( دار الصافي للثقافة والنشر )) التي أمتلكها توقفت عن نشر الكتاب بسبب الناحية المادية.
في صباح اليوم الثاني من وجودنا في تونس حين قابلته سألني: هل أنت على استعداد للسفر ؟ أجبته: والندوة ؟ قال: سفرنا لن يستغرق أكثر من يوم واحد، سألته: وإلى أين ؟ أجاب: إلى (( مالطة ))!! وعرفتُ منه أن مدة الرحلة إليها لا تزيد عن نصف ساعة، وقد هيَّأ كل شيء، إلى حد الحجز بالطائرة ذهاباً في الصباح، والعودة مساء، وسيوجد في مطار ((مالطة)) من يستقبلنا، ويتجوَّل بنا طوال اليوم لمشاهدة أهم معالم الجزيرة، فسألته أهي جزيرة ؟ قال: بل مجموعة جزر !!
وأغراني، بل شدّني حين قال لي: ستجد فيها ما يثير فضولك الأدبي والصحافي، والكاسب في الأخير من هذه الرحلة هي مجلة ((الفيصل)).
فرحتُ قائلاً له: وما الأمر إذا حصل لنا شيء ؟ ألا تذكر المثل الذي نعرفه جميعاً القائل ((فلان كمن يؤذِّن في مالطة؟)) لأنه لن يسمعه أحد، فابتسم للنكتة.
وفعلاً سافرنا إلى (( مالطة فوجدتها جزيرة اسمها بالعربي (( بلاد العسل )) .. ولكن لم نجد عسلاً !! وقد طغى اسمها على غيرها من الجزر التي تمثَّل ارخبيلاً من الجزر هي (( مالطة )) ، و (( غوزو )) و (( كومينو )) وهناك جزيرتان غير مأهولتين بالسكان هما: (( كومينتو )) ، (( فلفلة )) ، ولا تستغرب اسم (( فلفلة )) لأن فئة من سكان (( مالطة )) من العرب، واللغة المالطية مزيج من العربية، والمالطية، وتستطيع أن تتقنها في ثلاثة أشهر !! وهذه الجزر تقع جنوب جزيرة (( صقلية )) في البحر المتوسط.
وبعد جولة طوال اليوم في جزيرة ((مالطة)) وحدها، شاهدنا أهم معالمها ولم نعد منها إلا بعد أن ذهبت إلى إحدى المكتبات بحثاً عن كتاب مصوَّر بالألوان ليكون مرجعاً لنا في المجلة، فكان بالنسبة لي من أهم مكاسب الرحلة، إذ أستطعنا عن طريق مترجم المجلة (الدكتور فوزي الأحدب) أن ننشر عنها استطلاعاً صحافياً مناسباً للقارئ العربي الذي ربما يجهل (مالطة) في باب ((في بلاد الله)) بعنوان لافت للنظر هو (في بلاد العسل) في العدد (61) إصدار شهر رجب 1402هـ الموافق مايو 1982م، وحين أطلع عليه استاذي (الرفاعي) مبدياً إعجابه بالاستطلاع، قال: ألم أقل لك بأنك ستعود بصيد للمجلة ؟
قلتُ: له: إن أجمل ما في الرحلة هو وجودك معي لأنني لا أحب ((الوحدة)) في الأسفار، وكما يقول الشاعر: ((إن الغريب للغريب أنيس))، فقد كُنْتَ أنت من وراء الرحلة، وكنتَ المؤنس الذي لا يمل الإنسان صحبته، لأنني وجدتك أقرب إلى القلب من كل تصوراتي، ولهذا لن أترك صحبتك حتى نعود إلى الرياض.. فردَّ عليَّ بأطيب مما قلت له.
وحين عدنا في المساء إلى تونس، ذهبنا إلى فندقنا، إذا بموظف الاستعلامات يقول لي بلهجته التونسية: سي العلوي، أرحامك اتصلوا بك ((بَرْشَةْ)) يعني كثيراً، سألته كم مرة أتصلوا ؟ قال: حوالي ثلاث مرات، وطلبوا أن تتصل بهم حالاً، وسألني: أين كنت طوال اليوم ؟ قلت له في شغل، ثم سألته: متى كان آخر اتصال لهم ؟ رد قبل ساعة: شعرتُ بالإزعاج، وقلتُ بصوت شبه مرتفع: اللهم أجعله خيراً.
كل هذا وأستاذي الكبير الرفاعي واقفاً بجواري يسمع حواري مع موظف الاستعلامات، فأنتقل إحساسي بالإزعاج والقلق إلى نفسه الكبيرة فسألني: هل عوَّدت أهلك على هذه الاتصالات ؟ فرددتُ بالنَّفي، حاول أن يطمئنني قائلاً: إنني أتصل بأمي كل ليلة، وإذا لم أتصل بها لا تنام !! قلت له هذا شعور طبيعي لأم نحو إبنها، أما بالنسبة لي فقد حُرِمت من معرفتها لأنها انتقلت إلى رحمة الله، وأنا في الثانية من عمري، حتى صورتها لا أعرفها لأنه على أيامها لا توجد ((كاميرات)) !!
لكن حنيني الإنساني الداخلي نحوها يورق كلما رأيت أماً تحتضن إبنها !! عموماً أطمئن يا أستاذي، ألم أقل لك عند أول لقاء بك في الرياض إنه نزلت على رأسي حجارة كثيرة، كان أكبر هذه الحجارة هو حرماني من روح الأمومة، ودفء صدرها، ومن ثم لحق بها أبي تغمدهما الله بواسع رحمته.
تأثَّر الأستاذ الكبير (الرفاعي) من كلامي فقال لي بصوت مشروخ: إذهب إلى غرفتك، وأتصل بأهلك، ولا تنسى أن تخبرني في أي وقت لأنني سأظل بانتظار مكالمتك لي، وصعد كل منا إلى غرفته، وحين وضعتُ يدي على سماعة الهاتف شعرتُ بشيء من الخدر يقيِّدها عن الحركة، فقرَّرتُ الاتصال صباحاً رغم القلق الذي كان يسكن نفسي، والتوتر الذي يشد كل أعصابي، ألقيتُ بنفسي على السرير واضعاً يدي تحت رأسي مُطْلِقاً لتصوراتي وتخيلاتي العنان، كان كل تفكيري في أبنائي وبناتي وزوجتي، تطاولت أشجار مشاعر الأبوة بحيث أصبحت لها عشرات الأفرع.
لأول مرة أشعرُ بمعاني الأبوة الواسعة كالمحيط، العنيفة كالأعاصير، لا أدري كم مضى من الوقت قبل أن أسمع طرقاً خفيفاً على باب غرفتي، نهضت منهكاً.. أتجهتُ إلى الباب، سألتُ من الطارق ؟ ـ كما هي عادتي في الفنادق ـ ردَّ الصديق الحبيب الوفي عبد العزيز الرفاعي، فتحتُ الباب سألني لماذا لم أتصل به ؟ قلت له سأتصل غداً بالأهل لأنني غير مهيأ في الوقت الحاضر، أخذ مني رقم الهاتف. وقام شخصياً بالاتصال، والتحدث مع أهلي متسائلاً عن أسباب كثرة اتصالاتهم، وهل هناك ما يوجب كثرة الاتصال ؟ وبروح الأب سألهم عن صحة الاولاد فعرف منهم أن كل شيء على خير ما يرام، وأمام حالتي النفسية قال لهم إنني في اجتماع، فهل بالضرورة أن يتصل بكم إذا عاد ؟ فطمأنوه أن الجميع بخير، وأن الأمور طبيعية، وكل ما في الأمر أن ابنه (صافي) يبكي، ويريد سماع صوته، فلا تزعجه بشيء، ولا تقل له عن اتصالاتنا، وسنعاود الاتصال به غداً، وفرأيتُ ارتياح أسارير وجهه المشرق، وطلب مني أن نخرج في نزهة على الأقدام خارج الفندق، في الهواء الطلق !!
شعرتُ، كم هو عظيم هذا الإنسان، ورقيق، وشفَّاف، ولم استغرب عليه هذه الخصال، فهو أب، وشقيق روح، وأديب يحمل أطنان المشاعر النبيلة، وشاعر تتموَّج الموسيقى العذبة داخل النفس الكبيرة، قضينا أكثر من ساعة في المشي، وهو يرددَّ على مسامعي أجمل أبيات الشعر المشرقة بالأمل، المعطَّرة بأجمل مشاعره، وأثناء عودتنا قال لي: يا علوي لقد عرفتك في ظاهرك جاداً. و((مسماراً)) قالها ضاحكاً رامزاً إلى كتاباتي الساخنة تحت هذا الاسم ((المستعار)) في شبابي، في الوقت أكتشفتك في هذه الرحلة من الداخل رومانسياًَ شفَّافاً تقطر عذوبة بخلق كريم، لهذا يخطئ الذين يحكمون علي ظاهرك، رددتُ عليه تجدني إنساناً ممزقاً متعَباً ـ بفتح العين ـ ومتعِباً ـ بكسر العين ـ لهذا أشعر أن عمري لن يطول !! فردَّ على العبارة الأخيرة زاجراً.
أنت مؤمن، والأعمار تطول وتقصر بقدرة الخالق، عش حياتك، ولا تهتم بأقوال الآخرين، ولا تكن متشائماً، لأن التشاؤم يؤدي إلى الوهم، والوهم يقتل صاحبه !! فارتاحت نفسي لحديثه الحكيم، النابع عن تجربة طويلة عميقة.
ومرَّت أيام الندوة دون أن يتركني، وزانت أيامنا بوصول الصديق الحبيب الدكتور (محمود سفر)، والصديق الحميم الأستاذ (خالد المالك).. فكوّنا ثلة زاجلة، إذ كان كل واحد منا مكمِّلاً للآخر، وكانت من أسعد رحلاتي، تغمدك الله بواسع رحمته يا أستاذي (عبد العزيز الرفاعي).
ولا أنسى مكالمتي لك من جدة إلى المستشفى بالرياض، كانت قبل ساعات من وفاتك بحيث أنني اسمع دائماً نبرات صوتك ترن في أذني كلما تذكرتك، وعندما أمر بمنزلك المجاور لمنزلي أثناء ذهابي وعودتي من وإلى المسجد، مترحِّماً عليك بصوت فيه شجن الفراق، داعياً لك بالرحمة مردِّداً قول الشاعر:
إن يوم الفراق أفظع يوم
ليتني مت قبل يوم الفراق
والأستاذ (الرفاعي) من مواليد 1342هـ بمكة المكرمة، نال شهادة (المعهد العلمي السعودي)، عمل مدرساً، ومحرراً، ثم سكرتيراً لشرطة العاصمة، فمعاوناً لرئيس المكتب الخاص بديوان النيابة، فرئيساً للشعبة المالية والخارجية بالديوان نفسه، وآخر عمل وظيفي له كان رئيس قسم الشؤون السياسية بديوان رئاسة مجلس الوزراء.
له عدة مؤلفات، وشعر لم ينشر، وله دار نشر باسمه الشخصي صدرت عنها مجموعة من الأعمال له ولغيره، وما تزال تمارس نشاطها إلى اليوم حيث يقوم بالعمل فيها ابنه الكبير (( عمَّار )).
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :588  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 43
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.