شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جوابه عن أفضل ما يشغل به الإنسان عمره، وعن السيرة المحمودة
2 ـ وسألتم عن العمل الذي إذا قطع المرء به باقي عمره رجوت له الفوز عند الله عز وجل، وأيقنت له به، وعن السيرة التي أختارها وأحسد عليها من أُعطيَها، من أبواب التخلص من سخط الله في القول والعمل.. وهاتان مسألتان وإن كنتم فرقتم بينهما فهي واحدة؛ فأقول ـ وبالله [تعالى] التوفيق ـ: إني قد أدمت البحث عما سألتم عنه مدى دهر طويل، وفتشت عنه القرآن والحديث الصحيح؛ فلاح لي بعد طلبٍ كثير، وتحصل لي بعد طلبٍ شديد ما أخاطبكم به.. أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته آمين.
وقد كنت جمعت في هذا فصلاً (1) نسخته لكم على هيئته، وهو أن (2) فتشت على مراتب الحقائق في دار القرار في الآخرة ـ وأما الدنيا فمحلُّ مبيت بؤسها منقض، وسرورها منسي كأن ذلك لم يكن ـ فوجدتها عشر مراتب منها ثلاث هي مراتب الملك، والعلو، والسبق.
- فأولها: مرتبة عالم يعلم الناس دينهم؛ فإنَّ كلَّ من عمل بتعليمه أو علم شيئاً مما كان هو السبب في علمه: فذلك العالم والمتعلم شريك له في الأجر إلى يوم القيامة على آباد الدهور؛ فيا لها منزلة ما أرفعها: أن يكون المرء أشلاء متمزعة في قبره أو مشتغلاً في أمور دنياه وصحف حسناته متزايدة، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب ومتواترة عليه من حيث لم يقدِّر.. ويؤيد هذا قوله ـ عليه السلام ـ: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين (3) ، وقوله لعلي: فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك من حُمْر النِّعَم (4) ، وقوله عليه السلام: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة، فذكر عليه السلام ولداً صالحاً يدعو له، وصدقة جارية، وعلماً ينتفع به (5) وقوله: من عمل في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء (6) ، ويؤيد هذا قول الله عز وجل: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة النحل/25]، وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ [سورة/العنكبوت/13] فأسأل الله أيها الإخوة أن يجعلنا وإياكم من أهل الصفة الأولى، وأن يعيذنا من الثانية؛ فبشروا من سنَّ القبالات والمكوس ووجوه الظلم بأخزى الجزاء وأعظم البوار في الآخرة؛ إذ سيئاتهم تتزايد على مرور الأيام والليالي، والبلايا تترادف عليهم وهم في قبورهم (7) ؛ ولقد كان أحظى لهم لو لم يكونوا خلقوا من الإنس، واعلموا [240/أ] أنه لولا العلماء الذين ينقلون العلم ويعلمونه الناس جيلاً بعد جيل لهلك الإسلام جملة، فتدبروا هذا، وقفوا عنده وتفكروا فيه نعمَّا، ولذلك سموا ورثة الأنبياء (8) .. فهذه مرتبة.
- والثانية: حاكم عدل؛ فإنه شريك لرعيته في كلِّ عمل خير عملوه في ظل عدله وأمن سلطانه بالحق لا بالعدوان، وله مثل أجر كل من عمل سنة حسنة سنها؛ فيا لها مرتبة ما أسناها: أن يكون ساهياً لاهياً وتكتب له الحسنات، وأين هذه الصفة؟.. وأما الغاش لرعيته، والمداهن في الحق فهو ضد ما ذكرنا، ويؤيد هذا قوله عليه السلام: إن المقسطين فيما ولوا على منابر من نور على يمين الرحمن (9) ، أو كلاماً هذا معناه (10) .. فهذه ثانية.
- وأما الثالثة: فمجاهد في سبيل الله عز وجل؛ فإنه شريك لكل من يحميه بسيفه في كل عمل خير يعمله، وإن بعدت داره في أقطار البلاد، وله مثل أجر من عمل شيئاً من الخير في كل بلد أعان على فتحه بقتال أو حصور، وله مثل أجر كل من دخل في الإسلام بسببه أو بوجهٍ له فيه أثر إلى يوم القيامة؛ فيا لها حظوة ما أجلها: أن يكون لعله في بعض غفلاته ونحن نصوم له ونصلي (11) .
واعملوا أيها الإخوة الأصفياء أن هذه الثلاث سبق [إليها] الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا السبب في بلوغ الإسلام إلينا، وفي تعلمنا العلم، وفي الحكم بالعدل فيما ولوا، وفي فتوح البلاد شرقاً وغرباً؛ فهم شركاؤنا وشركاء من يأتي بعدنا إلى يوم القيامة، وفي كل خير يعمل به مما كانوا السبب في تعليمه أو بسطه أو فتحه من الأرض.
واعلموا أنه لولا المجاهدون لهلك الدين، ولكنا ذمة لأهل الكفر؛ فتدبروا هذا؛ فإنه أمر عظيم (12) .. وإنما هذا كله إذا صفت النيات وكانت لله؛ فقد (13) سئل النبي [صلى الله عليه وسلم] عن عمل المجاهد وما يدانيه، فأخبر عليه السلام أنه لا يعدله إلا أمر لا يستطاع، فسألوه عنه فقال كلاماً معناه: أيقدر أحدكم أن يدخل مصلاه إذا خرج المجاهد فلا يفتر من صلاة وصيام؟.. فقالوا: يا رسول الله: لا نطيق ذلك.. فأخبرهم أن هذا مثل المجاهد (14) ، وأخبرهم أيضاً عليه السلام: أن روث دابته وبولها ومشيها وشربها الماء وإن لم يرد سقيها.. كل ذلك له حسنات (15) ، وسئل [عليه الصلاة والسلام] عن أفضل الأعمال، فأخبر بالصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد (16) .. وسئل عليه السلام عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل ليُرى مكانه فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو شهيد (17) ، أو كما قال.. وأخبر عليه السلام: أن الأعمال بالنيات (18) .
فهذه المراتب الثلاث هي مراتب السبق التي من أمكنه شيء منها فليجهد نفسه، وما توفيقي إلا بالله عز وجل.
ومن أحب قوماً فهو معهم؛ فقد قال رجل: يا رسول الله [240 ب] متى الساعة؟ فقال له عليه السلام: ماذا أعددتَ لها؟.. فاستكان الرجل، وقال: يا رسول الله، ما أعددتُ لها كبير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله.. فقال له: أنت مع من أحببت (19) ، أو كما قال عليه السلام (20) .
وبعد هذه المرتبة مرتبة رابعة، وهي مرتبة الحظوة والقربة، وهي حالة إنسان مسلم فتح الله له باباً من أبواب البر مضافاً إلى أداء فرائضه: إما في كثرة صيام أو كثرة صدقة، أو كثرة صلاة، أو كثرة حج وعمرة، وما أشبه ذلك، فهذا له نوافل عظيمة وخير كثير، إلا أنه ليس له إلا ما عمل، وصحيفته تطوى بموته.. حاشا من حبس أرضاً أو أصلاً تجري صدقته بعده كما اختار النبي [صلى الله عليه وسلم] لعمر رضي الله عنه إذ شاوره فيما يعمل في أرضه بخيبر (21) ؛ فإن هذا أيضاً تلحقه الحسنات بعد موته ما دامت الصدقة.
ولقد سمعت أبا علي الحسين بن سلمون المسيلي (22) يقول كلاماً استحسنته، وهو أنه قال لي يوماً: من كثرت ذنوبه فعليه بكسب الضياع.
ولَعَمْري لقد قال الحق، فإن الضيعة إذا كسبت من حِلِّ ومن أرض مباح اكتسابها: فقد نص النبي [صلى الله عليه وسلم] أن كل من أكل من غرس مسلم أو من زرعه فهو له صدقة (23) .. وإذا اكتسبت من غير وجهٍ مرضيّ، فهي غل وثقل على من اكتسبها؛ فاعتمدوا على حَضٍّ ما حَضَّ (24) لكم نبيكم عليه السلام، ودعوا كلام الفساق من أهل الجهل الذين يفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون؛ فيحكون عن رجل: أنه وجد ابنته قد غرست دالية فقلعها، وقال: إنا لم نُبعث لغرس الدوالي (25) .. فاعلموا أن هذا الرجل جاهل سخيف العقل، مخالفٌ لرسول الله [صلى الله عليه وسلم]، مهلكٌ للحرث، مفسدٌ في الأرض.. فهذه مرتبة رابعة، وهي دون المراتب الثلاث الاول.
ثم مرتبةٌ خامسة: وهي مرتبة الفوز والنجاة، وهي حالة إنسان مسلم يؤدي الفرائض ويجتنب الكبائر ويقتصر على ذلك؛ فإن فعل هذا فمضمون له على الله تعالى الغفران لجميع سيئاته ودخول الجنة والنجاة من النار؛ قال الله تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً [سورة النساء/31]، وقد نص النبي عليه السلام في الذي سأله عن فرائض الإسلام فأخبره بها فقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص.. قال عليه السلام: أفلح إنْ صدق، ودخل الجنة إنْ صدق (26) ؛ فهذه المراتب الخمس هي مراتب الزلفى والقربى التي لا خوف على أهلها وهم لا يحزنون.
ثم بعدها مرتبتان [241/أ] وهما: مرتبتا السلامة مع الغرور، وعاقبتهما محمودة، إلا أن ابتداءهما مذمومٌ مخوفٌ هائل، وهما حالُ إنسانٍ مسلم عمل خيراً كثيراً وشراً كثيراً، وأدى الفرائض وارتكب الكبائر، ثم رزقه الله التوبة قبل موته.
والثانية: حال امرئ مسلم عمل حسنات وكبائر ومات مصراً، إلا أن حسناته أكثر من سيئاته، وهذان غرَّرا (27) ، ولكنهما فائزان ناجيان بضمان الله عز وجل لهما إذ يقول: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى [سورة طه/82]، ولقوله تعالى: فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [سورة القارعة/6 ـ 7]، ولقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود/114].. ولا خلاف بين أحد من أهل السنة فيما قلنا من هذا.
ثم مرتبة ثامنة: وهي مرتبةُ أهل الأعراف (28) ، وهي مرتبة خوفٍ شديد وهول عظيم، إلا أن العاقبة إلى سلامة، وهي حال امرئ مسلم تساوت حسناته وكبائره، فلم تفضلْ له حسنة ويستحق بها الرحمة، ولا فضلت له سيئة يستحق [بها العذاب].. وقد وصف الله صفة هؤلاء في الأعراف، فقال تعالى بعد أن ذكر مخاطبة أهل الجنة لأهل النار: فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً [سورة الأعراف/44]، ثم قال بعد آية: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ . وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف]؛ فهذه الوقفة لا يعدل همها والإشفاق منها سرور الدنيا كله، ولكنهم ناجون من النار داخلون الجنة؛ لأنه لا دار سواهما؛ فمن نجا من النار فلا بد له من الجنة، وليتنا نكون من (29) هذه الصفة؛ فوالله إنها لمن أبعد آمالي التي لا أدري كيف التوصل إليها إلا برحمة الله، وأما بعمل أعلمه مني فلا.
ثم مرتبة تاسعة: وهي مرتبة نشبة (30) ومحنة وبلية وورطة ومصيبة وداهية نعوذ بالله منها، وإن كانت العاقبة إلى عفو وإقالة وخير، وهي حالة امرئ مسلم خفَّت موازينه ورجحت كبائره على حسناته، فهؤلاء الذين وصفوا في الأحاديث الصحاح: أن منهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من يبقى فيها ما شاء الله من الدهور كما وصف النبي عليه السلام في مانع الزكاة أنه يبقى في العذاب الموصوف في الحديث يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى مصيره إلى جنة أو إلى نار (31) ؛ فيا لها بلية ما أعظمها كما نص عليه السلام أنه سأل أصحابه: من المفلس عندكم؟.. قالوا: يا رسول الله: الذي لا دينار له ولا درهم.. فأخبرهم عليه السلام [241 ب] أن المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة وله صيام وصلاة وصدقة فيُوجد قد شتم هذا، وقتل هذا، وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فينتصفون من حسناته حتى إذا لم يبق له حسنة أخذ من سيئات هؤلاء الذين ظلم فرميت عليه، ثم قذف به في النار (32) ، وهذا معنى قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [سورة العنكبوت/13]، فيبقى هؤلاء في النار على قدر ما أسلفوا.. حتى إذا بقوا كما جاء في الحديث الصحيح جاءت الشفاعة التي ادخرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجاءت الرحمة التي ادخرها الله لذلك اليوم الفظيع والموقف الشنيع، وأُخرجوا كلهم من النار فوجاً بعد فوج بعدما امتحشوا (33) أو صاروا حمماً (34) .. والله أيها الإخوة لولا أن عذاب الله لا يهون منه شيء، ولا يتمناه عاقل: لتمنيت أن أكون من هؤلاء خوفاً من خاتمة سوء، وأعوذ بالله مما يوجب الخلود، ويقتضي جوابَه تعالى إذ يقول: اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون/108].. ولكن يمنعني من ذلك الرجاء في عظيم عفوه عز وجل، وأن النفس لا تساعد على أن تعد شيئاً من عذاب الله خفيفاً ولو نظرة إلى النار أعاذنا الله منها؛ فو الله أن أحدنا ليستشنع موقف [جنا] يته أو موقف قصاصه بين يدي مخلوق ضعيف؛ فكيف بين يدي الخالق الذي ليس كمثله شئ، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ فكيف بنار أشد من نارنا بسبعين ضعفاً (35) ؛ فتأملوا ذلك عافانا الله وإياكم منها في فعل الصواعق في صم الهضاب وشُمِّ الجبال، فإنها تبلغ في التأثير فيها في ساعة ما لا تبلغه نارنا لو وقدناها هنالك عاماً مجرداً، فكيف بجلود ضعيفة ونفوس أَلِمَةٍ؟.. هذا على أن الحسن البصري (رحمه الله) ذكر يوماً موقف رجل يخرج من النار بعد ألف سنة؛ فقال: يا ليتني ذلك الرجل!.. وإنما تمنى الحسن هذا خوفاً من خاتمة شقاء، وأن يموت على غير الإسلام فيستحق الخلود في النار في الأبد؛ فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو الله أن يميته على الإسلام، وكان الأسود بن يزيد (36) يقول: ما حسدت أحداً حسدي مؤمناً قد دُلي في قبره.. وإنما تمنى الأسود ذلك؛ لأنه إذا مات مسلماً أمن الكفر؛ فهذه المرتبة أيها الإخوة مرتبة نعوذ بالله منها، فقد صح عن النبي عليه السلام أن المرء المنعَّم في الدنيا يغمس في النار غمسة، ثم يقال: أرأيتَ خيراً قط؟.. فيقول: لا ما رأيتُ خيراً قط (37) ! هذا في غمسة فكيف بمن يبقى خمسين ألف سنة يجدد له فيها أضعاف العذاب؟.. على أنه قد صح عن النبي عليه السلام [242/أ] من طريق أبي سعيد الخدري: أن آخر أهل النار دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وأقل أهل الجنة منزلة.. رجلٌ أمره الله أن يتمنى فيتمنى مثل مُلكِ مَلِكٍ كان يعرفه في الدنيا؛ فيعطيه الله مثل الدنيا كلها عشر مرات.. وهذا حديث صحيح (38) ؛ فلا يدخلنكم فيه داخلة لبراهين يطول فيها الكلام، ولصغر قدر الأرض وقلته في الإضافة إلى قدر الآخرة وسعتها.. يعلم ذلك من علم هيئة العالم وتفاهة الأرض في عظيم السموات (39) . ولعمري إن هذه فضيلة عظيمة.. لا سيما إذا أفكرنا أنها خالدة لا تنقضي أبداً، ولكن إذا أفكرنا (40) فيما قبلها من طول المكث بين أطباق النيران ـ يتجرعون الزقوم، ويشربون الغِسلين، ولهم مقامع من حديد، والأغلال في أعناقهم، والملائكة يسحبونهم على وجوههم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ـ: لم يفِ بذلك سرور وإن جلَّ، ونسأل الله أن يجيرنا وإياكم من هذه المرتبة آمين؛ فلهؤلاء ذخرت الشفاعة، وفي جملتهم يدخل من لم تكن له وسيلة، ولا عمل خيراً قط غير اعتقاد الإسلام والنطق به، ولا استكفَّ عن شرط قط حاشا الكفر. على قدر ما يفضل من السيئات على الحسنات يكون العذاب؛ فأقله غمسة كما جاء في الحديث المذكور آنفاً، ومن يلج منه عضو في النار كما جاء في حديث جواز الصراط.. وأكثره الذي ذكرنا أنه آخر أهل الإسلام خروجاً من النار في الحديث المذكور آنفاً:
وأما المرتبة العاشرة فهي مرتبة السُّحْق، والبُعد، والهلكة الأبدية، وهي مرتبة من مات كافراً؛ فهو مخلد في نار جهنم لا يخفف عنهم من عذابها، ولا يقضى عليهم فيموتوا، خالدين فيها أبداً، سواء صبروا أم جزعوا، ما لهم من محيص.. اللهم عياذك عياذك من ذلك، وقد هان كل ما تقدم ذكره عند هذه: ((وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي)) (41) .. ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والإيمان واتباع محمد عليه السلام))؛ فهذا جواب ما سألتم عنه من السيرة المختارة التي أحسد عليها صاحبها، وأتمنى أعاليها، وقد لخَّصتُها وفسَّرتُّها، ثم أعيدها لكم مختصرة؛ ليكون أقرب للذكر وأسهل للحفظ إن شاء الله تعالى، فأقول وبالله التوفيق:
إن أَجَلَّ سير المسلم ثلاثة: طلب العلم، ونشره، والحكم بالعدل لمن ولي شيئاً من أمور المسلمين والجهاد.. كلُّ هذا مع أداء الفرائض واجتناب المحارم، وبعد هذا المداومة على الوتر، وركعتي الفجر والضحى، وركعتين في الليل وقبل الوتر [242 ب] في منزله، وركعتين متى ما دخل المسجد؛ فإن زاد فليصل الضحى ثماني ركعات، وليصل اثنتني عشرة ركعة في آخر الليل في منزله قبل الوتر أو في أي وقت أمكنه من الليل.. ولا أحب له الزيادة في الضحى على ما ذكرت، لكن من أراد الزيادة فليطول القراءة والركوع والسجود ما شاء؛ فإني أخاف عليه ما خافه مالك بن أنس [رحمه الله] إذ سأله سائل عن رجل أحرم قبل الميقات، فكره ذلك وقال: لعله يتوهم أنه يأتي بأحسن مما أتى به نبيه عليه السلام فيهلك!.. وأنا أكره لكل أحد أن يزيد على عدد ما كان يتنفل به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لوجهين:
- أحدهما: قول الله عز وجل: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [سورة الأحزاب/21].
- والثاني: أن يخطر الشيطان في قلبه؛ فيوسوس أنه قد فعل من الخير أكثر مما كان محمد [صلى الله عليه وسلم] يفعله؛ فيهلك في الأبد، ويحبط عمله، ويجد صلاته وصيامه في ميزان سيئاته، فيا لها مصيبة ما أعظمها.. أن يحصل في جملة من قال الله تعالى فيهم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ . عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ . تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [سورة الغاشية]؛ فلا دنيا ولا آخرة.. على أن مداواة هذا البلاء لمن امتحن به سهلة، هي أننا نقول له: ليعلم العاقل أن تكبيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عند الله وأجل من كل عمل خير يعمله جميعنا؛ ولو عمر العالم كله؛ فإن أحب المزيد كما ذكرنا فليركع أربع ركعات في منزله قبل الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد العصر (42) ، وركعتين بعد المغرب.. وكل هذه من النوافل؛ فهي في البيوت أفضل منها في المسجد، وركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب: أما في المنزل، وإما في المسجد.. وست ركعات بعد صلاة الجمعة، ويستحب للمرء أن لا يقصر من الصيام عن صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء التاسع والعاشر وستة أيام من شوال مضافة إلى رمضان.. لا يحول بينه وبينها إلا يوم الفطر وحده؛ فقد صح عن النبي عليه السلام أن ذلك يعدل صيام الدهر (43) ، وأن صيام يوم عرفة وعاشوراء يكفِّر عامين وعاماً، وهذا أمر لا يزهد فيه إلا محروم. فإن أحب المزيد فليصم الإثنين والخميس، فإن أحب المزيد فليصم يوماً ويفطر يوماً؛ فإن زاد على ما ذكرنا فهو آثم عاص.. سئل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن صيام الدهر فقال: لا صام ولا أفطر (44) .
وقد روُي عنه عليه السلام ما هو أشدّ من هذا (45) ، وصحَّ أنه سئل عن أفضل من صيام يوم وإفطار يوم قال: ((لا أفضل من ذلك)) (46) فمن [لم] ينته إلى ما حده له نبيه فلا عفا الله عنه.
والحج والعمرة والتطوع كذلك حسن جداً وأجر عظيم، لا جزاء له إلا الجنة بنص كلامه عليه السلام (47) . والصدقة بما تيسر؛ فإن الإكثار منها فيما فضل عن قوته وبما يبقي له غناء، ولا تحل الصدقة [243/أ] بأكثر من ذلك.. وعياد (48) مرضى الجيران، وشهود جنائزهم، فرض على كل مسلم جارٍ على الكفاية.. ولقاء الناس بالبشر والبر وانطلاق الوجه، وهذا كله بعد أدء الفرائض واجتناب الكبائر. ويُستحب من الذكر ما تقدم في أول هذه الرسالة؛ فبهذا يتخلص المسلم من عذاب الله، ويستوجب الجنة بفضل الله؛ فمن عجز عن هذا كله فليقتصر على أداء الفرائض واجتناب الكبائر فإنه فائز، ومع هذا فليخف ربه وليحسن الظن به؛ فقد صح عنه عليه السلام أنه قال: إن الله يقول: ((أنا عند ظن عبدي بي)) (49) ؛ فاعلموا أن تحسين الظن بالله تعالى أجر عظيم، وأنه عملٌ بالقلب رفيع فاضل؛ فلعل ربه تعالى قد حفظ له حسنة لا يلقي العبد إليها باله ولا يذكر علتها، كما أنه أيضاً ربما هلك بسيئة حفظت عليه كان هو يحقرها (50) .. وليدم على فعل الخير وإن قل، فبهذا جاء الأثر الصحيح: إنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله أدومها (51) ولا أحب لنفسي ولكم ولا لأحد من المسلمين التقصير عن هذا؛ فمن ابتلي بالتقصير عنه فليتدارك نفسه بالتوبة والندم (52) والاستغفار فيما سلف؛ فإنه يجد ربه قريباً إذا راجعه، قابلاً له إذا فزع إليه، غافراً لما سلف؛ من ذنوبه كما قال تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [سورة غافر/3]؛ فمن امتحن بتسويف التوبة ومماطلة النفس: فليكثر من فعل الخير ما أمكنه، ولعل حسناته تذهب سيئاته، وليدخل في قوله [تعالى]: وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة/102]؛ ولعله يقل مكثه في النار؛ فقد جاء النص الصحيح بتفاضل مقامهم (53) فمن ابتلي وعجز فليتمسك بالعروة الوثقى ـ عروة الإسلام ـ، وليعلم قبح ما يقول، فلعله ينجو من الخلود، وهو ناج منه بلا شك إن مات مسلماً.
طباعة

تعليق

 القراءات :1250  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 17
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج