شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هدية من السعودية
ـ هذا المقال كتبته الأديبة العربية السورية المبدعة (غادة السمان)، ونشرته بمجلة الحوادث بتاريخ 2/8/1991م.. وحين قرئ عليه هذا المقال، علق قائلاً:
ـ لقد رثتني (( غادة )) في حياتي.. فكان أجمل رثاء!!
* * *
(1)
ـ في الصفحة الخامسة من كتاب ((ذكريات العهود الثلاثة)) ولد الأستاذ محمد حسين زيدان عام 1325 هجرية، أما في الصفحة 305 من الكتاب ذاته، فنجده قد ولد عام 1327هـ، ولكن، هل تعني لنا هذه التفاصيل شيئاً حقاً؟ أن يكون الرجل في مقتبل ثمانيناته، أو أواسطها، أو حتى على ربيع تسعيناته؟ مع رجل عمره سنوات ضوئية من العطاء، يُسقط منطق الأعوام بمعناها الأرضي اليومي الهزلي.. مع رجل في ميعة تدفقه المتجدد - كزيدان - لا يهمنا حقاً عدد الدورات التي قام بها حول الشمس، بل وهج الضياء الذي شعَّ به في حياتنا الفكرية والثقافية..
لقد أقيم حفل تكريمي له في بلده، تحدَّث فيه لفيف من تلاميذه، وعشاق أدبه، وأصدقائه، ومعارفه، منهم: معالي الأستاذ عبد الله بلخير، والأساتذة عزيز ضياء، وعمر بهاء الأميري، وهاشم زواوي، ود. عبد الله الغذامي، وعبد الفتاح أبو مدين، ود. بكري شيخ أمين، وفاتتني فرصة مشاركتهم فرحة الاحتفال بأدبه، وكتب عنه عدد كبير من عشاق الكلمة المضيئة أمثال الأديب: عبد الله الجفري/ الفائز بجائزة الإبداع منذ أعوام.
(والذي زُيِّن صدره منذ أسابيع بوسام النوبة القلبية، مكافأة له على شفافيته ورهافته بمواجهة عالم متوحش، شفاه الله)، والأساتذة: عايض الردادي، ومصطفى إبراهيم حسين، وعبد الكريم محمود الخطيب، وسباعي عثمان، وكمال عبد القادر، وسواهم، وأخط الآن هذه السطور في محاولة للتعويض عن الغياب الشامي، والنسوي، وتقصيرهما في تكريم أستاذ جيل، غمرت نجومه نساء هذا الوطن ورجاله معاً، وفنان مدَّ محبتَّه لأهل الشام جسراً من الضوء والود الصادق العميق، ومبدع في أوج عطائه، وأستاذ من أساتذتنا في أقطارنا العربية كافة، الآسيوي منه، والأفريقي: ألم يكن الأستاذ زيدان ((أول كاتب تحدث عن العلاقات الأفريقية العربية))، لافتاً الأنظار إلى أهميتها، وداعياً إلى دعم الأفريقية مادياً، ومعاونتها على تطوير نفسها، بشهادة تلميذه الوفي الأديب عبد الله الجفري؟!
(2)
ترى هل قصَّرت المرأة العربية في تكريم زيدان، أم قصَّر أستاذنا في تثبيت مشاركتها؟ وكيف تغيب المرأة العربية في زرع الفراشات والنجوم في أفق رجل كرَّمها في كل حرف كتبه؟
حينما عالج أستاذنا زيدان السيرة مسطراً تراجم تاريخية لطائفة من الصحابة، لم ينس ((الصحابيات))، واعتبرهن من بعض أبطال الأمة، وصنَّاع التاريخ الذين أضاءوا الدنيا، ولم ينس: هند أم سلمة، وأسماء ذات النطاقين، وأم المؤمنين خديجة، وأهدى تلك السِيَر إلى الجيل الطالع الذي لم يصنع مستقبله إذا لم يعرف ماضيه وجذوره، ورؤية زيدان للتراث معاصرة، وبالغة العمق.. فهو لا ينفي العلم بل ينادي بالتعايش بينه وبين الإيمان قائلاً ببساطة ثاقبة: متِّعونا بالعلم، ولا تمنعونا من بركة زمزم.
وتكريم زيدان للمرأة لا يقتصر على النساء العربيات التاريخيات، بل يشمل بحنانه واحترامه مبدعات عصريات أمثال: مي زيادة، وعائشة التيمورية، وباحثة البادية، وسواهن.
(3)
عن الهدية من السعودية التي تلقيتها مع مطلع هذا العام سأحدثكم: كتاب ((ذكريات العهود الثلاثة)) لأستاذي زيدان.. هدية يجد فيها المرء الصحو والمطر، والحزن والمرح، والجدية والظُرْف، والتاريخ والأدب، وفن السيرة، والمذكرات، والرحلات.. هدية تنبض نضارة، وحيوية، ولغة، رصانتها طراوة بعيدة عن التكلس السَّمِج المتعالي.. تنوُّع في المعرفة، صدق فيه قول الجفري في زيدان: ((موسوعة تمشي على قدمين)).. هدية تتجلى فيها الشخصية العربية في أبهى صورها، ونموذج لرواج التراث والمعاصرة في أحد تجلياته الراقية.
في كتابه نعيش فرحة الإلتقاء بالينابيع، ومعظم ما ننادي به اليوم من أفكار (معاصرة) نجد جذورها لدى الإنسان الأعرابي النقي، الذي عاش التقشف، وعرف الألم الجسدي، يتجلد مرضاً وعلاجاً قديماً، وكَيًّا بالنار: (لو كشفتم جسدي لوجدتم فيه أكثر من ثلاثين كيَّه)، وعاقر الأحزان الروحية، لكنه روَّضها، وامتطاها حصاناً يركض به براري الإبداع حتى أفق الضوء والمحبة الإنسانية، لا مبالياً بماديات هذا العالم الفاني، نافياً عن نفسه (تهمة) الثراء، مُطْمئناً عاشقي حرفه إلى إفلاسه، مع بيان مفصل بديونه وكيفية سداده لها، معزياً ذاته عن شائعة ثرائه بقوله: ((لأن أكون الرجل المُحسَّد، خيراً من أن أكون الرجل المشفق عليه))!
(4)
لقد آمنت دائماً أن قطع جذور الشجرة لا يساهم في التعجيل بنموها، وبالمقابل فإن التراث لم يوجد لنكرر ما فعله أجدادنا العظام، بل لنتابع الرحلة ونحن نهتدي بتجربتهم.
وكتاب أستاذي زيدان بهذا المعنى، كنْز من المعارف أوالخبرات، وذكرياته خلال عهود تاريخية ثلاثة ليس يوميات ذاتية فحسب، بل صورة وطن عربي في مضائق تحديات العصر، عبر عين مرهفة دافئة بعيدة عن التصوير الفوتوغرافي البارد، وعن التقريرية (الأيديولوجية) المحمومة في آن... وقد نجح في ((تأصيل الانتماء العربي الإسلامي))، ووصل الماضي التالد بالحاضر الواعد، لأن الأمة التي تجهل تاريخها تجهل طريقها.. وهذا الخط العام يتحرك ضمن رؤيا شمولية كلها رحابة، لا يفوتها تثبيت كل ما من شأنه كشف فضل العرب المسيحيين على العربية... وهكذا كان الآباء اليسوعيون، واليازجيون، والمعلوفون، وسواهم: ((عرباً لا طائفيين لم يكن هواهم إلا خدمة العروبة، وخدمة اللغة، كانوا طلائع النهضة))..
ويورد أجزاء من قصيدة مديح (المسيحي) شبلي ملاَّط في شوقي والعرب، وأخرى للشاعر القروي، متبنيِّاً رسالة من الأستاذ زهير الشاويش، ذكَّرنا بأن أستاذ شكيب أرسلان، ((كان شيخ الشيوخ من الآباء المسيحيين عبد الله البستاني)).
وهكذا.. فإن مذكرات زيدان جغرفة للأرض - والمدينة المنورة بالذات - وذكرياته ليس فيها ((الأنا))، وإنما كله الـ ((نحن)) التي تتجه صوب المحبة، وتفسير التاريخ على هديتها، كقوله عن ((وقعة الحرة)): لا أريد أن نحمِّل قومنا في الشام ما فعلناه بأنفسنا، فالتبرئة للعراق، لمصر، وللشام، لا أتبرع بها، وإنما أتورع من ذكر ذلك لأمحو البغضاء)).. فهل أجمل من شعار محو البغضاء؟
(5)
وإذا كان أحد أبناء عمومتي من الجب السعودي من آل السمان، وصديق زيدان قد هجاه في قصيدة أشهرته، لم يُنظمها وإنما نَظمها له غيره (على ذِمة زيدان) فإني لا أحاول في سطوري هذه محو إساءة قبيلتي عن الهجاء الدعابة، بقدر ما أتابع نهجي في تكريم أحباء في أوج العطاء، وأكرر: المرحوم والدي، والشاعر الجواهري الكبير، وزيدان، وندرة من أمثالهم يمثلون لي ذلك الجيل شبه المنقرض من أحفاد الأعراب المتواضعين الأشداء، الذين اقتحموا العالم ذات يوم، وبنوا مجداً روحياً، وحضارياً، وإنسانياً... وهدية زيدان التي استلمتها في ذروة انكساري النفسي، خلال مأساة الخليج، ساهمت في تأصيل ثقتي بمستقبلي، كمواطنة عربية!!
والتفاؤل أثمن هدية في زمننا الرديء.. فهل أبالغ إذا اقترحت تدريس نماذج من عطاء زيدان في الكتب المدرسية العربية؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :698  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 426 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.