ما أدرانا بالحدس؟! |
ـ حين توقف ((الزيدان)) عن إملاء كلماته.. فإنه لم يتوقف عن صياغة الكلمة: يقولها، ينثرها، يجيب بها على أسئلة منهمرة عليه لا تتوقف عن استفتاء رأيه، ورجاحة حكمته! |
كان ((جواهرجي)) كلمة... لا يقدر أن يسكت، فإذا سكت.. كان - كما عبَّر -: يبلور فكرة في رأسه تشغله حتى تضنيه.. وينشغل بها حتى يسبكها مثل عقد من اللؤلؤ! |
ذات يوم.. أجاب في حديث صحافي على سؤال عن: عادات الجيل الذي ولد فيه؟ |
ووجدته يحنُّ، وينسكب كقارورة عطر.. وإذا به يصف ((الليل)) في ((رمضان)) عندما كان فتى، وشاباً.. وينطق شجونه بصوت أفراح الماضي، (ورائحة الفاغية): زهرة الحنَّة، والنمَّام، والثل، ومنظر الأطفال، والفتيان والرجال... وهم يسيرون في الليل جماعات، كل فريق يذهب ليتحلق حول البيوت، وينشدون أغنية جماعية! |
ـ
((
هلَّ هلالك يا رمضان... يا بو الشربة والريحان
))
!
|
ـ إنهم أولئك الأجداد والآباء، الذين مزجوا طعام المعدة بطعام الروح، أو بإستكناه الروح للمعاني، وللألفة.. فحولوا الليالي إلى أفراح، ومهرجانات... في صميم توجههم الروحي إلى استخلاص العبادة. |
ولعلّ من أسوأ ما تفقده الأمم: أن تتخلى عن عاداتها الأصلية التي تميز ملامحها الاجتماعية الدالة على جذورها وطبيعتها. |
لقد فقدنا الكثير من تلك الملامح، ومن ذلك التميز الذي اختص به مجتمع هذه الأرض... فإذا نحن: نقلد ما هو بعيد ويتنافى مع ملامحنا.. وإذا نحن: نبتعد عن هذه الروابط الاجتماعية التي تزيد كل مجتمع تماسكاً ومحبة. |
ولا نريد أن نفقد ما تبقى... فالمجتمعات المفتوحة - كما قال الزيدان - تتعرض للتأثير، وللتقليد اللذين يسلبانها هويتها!! |
* * * |
ـ ذلك هو مدخل التأمل لدى ((الزيدان)).. ينطلق به من: تراثه، وعاداته، وملامح مجتمعه. |
وبجانب ذلك.. كانت الفواصل الزمنية في مسيرة حياته تتداعى: |
ـ الزمن في إحساسه، هو: خفقة وجود. |
ـ الوجود في احتفاله به، هو: الحواس، والمشاعر التي تقود حواسه، ورؤيته، وخطواته وخواطره. |
كان يتوقع ((الفرح)) دائماً... ويطرد الترح من معايشته للأحياء وللحياة. |
ـ سألته: كيف تتعامل مع همومك، ومشكلاتك التي تصطدم بها في يومك، وفي تعاملك مع الناس؟! |
ـ أجاب: عندي القدرة التي نميتها بالإصرار على طرد الأفكار التي تُنَغِّص. |
كنت - في بدء حياتي الناضجة - أشقى بكثافة أفكار تتجمع بمجرد وضع رأسي على الوسادة.. فاسهد، وأقلق، ويعصي النوم عيني. |
وتعاملت مع الهواجس والأفكار بمحاولة طردها... حتى نجحت في ذلك، وحين أضع رأسي على الوسادة.. أبادر بتفريغ هذا الرأس من تلك الهواجس والأفكار.. أقذف بهما على رف غرفة نومي... وأداعب أحلاماً، وأماني حتى يحتل الكرى كل عيني ووعيي، وأنام قريراً. |
لذلك... كان الكثير من المعجبين، أو الحاسدين، يسألونني: |
ـ ماذا تفعل.. حتى تحافظ على حيويتك، وشباب روحك ونفسك، رغم ولوجك لمراحل الشيخوخة؟! |
فأجيب: شيء واحد فقط، وهو: أنني أمتلكت إرادة لا تعجز عن طرد الهواجس، والظنون، والخوض في أمواج التوقع، والتحسب، والخوف من الآتي، أو من الغد... حتى لو فعلت أمراً قد انتظر المصاعب من ورائه.. فلا بد أن لا أدعه يقاسمني الوسادة، ويحتلها مع رأسي بدلاً من الراحة!! |
وهكذا... كان يتوقع الفرحة بدلاً من الترحة، وبين جوانحه صهيل جواد مستنفر! |
ما أدرانا بالحدس؟!
|
ـ كان يسأل نفسه، ويحاول أن يجيب دائماً، وفي إحدى إجاباته قال لي: |
ـ تسأل عن الحدس؟! |
إنه - أحياناً - هو كل هذه الأمور التي تستطرد فجأة في غمرة البهجة الواعدة، في العهد الذي يقطعه الإنسان على نفسه، من قدرته على الالتزام، أو من تشبعه بالحب! |
وتنساق خفقات هذا العجوز بسنوات عمره، الشاب بروحه وبأفكاره.. فإذا الخفقات تطرد وراء ((التلباثية))! |
لكنه يتردد قليلاً، ثم يتحفَّز... ويبدو في معاناته وكأنه: أمي التوقيت، لا يعرف قراءة زمنه... ثم ينبثق - فجأة أيضاً - فإذا هو: صانع لتوقيت جديد بالمعاناة.. وإذا هو ((عالم)) في قراءة زمنه، والأزمان التي سبقت... مشرئباً إلى استطلاع الزمن الآتي! |
وبذلك... يبدد (كله)، وكأنه يرتقب،ثم يصهل متحفزاً، ويدور حول نفسه. |
وكان يحب ذلك الغموض المتناهي في أحشاء الليل.. |
وكان يحب - أيضاً - ذلك التوقُّع اللامتناهي بالفرحة في جوانحه، من أمنياته بسعادة الآخرين، وركضه بالفعل لإدخال السعادة إلى نفوس من يلوذون به، أو يقصدون مساعدته. |
ـ ثم... يواصل بوحه، وإشعاله لحركة الزمن... فيقول: |
ـ عندما يكون الزمن خفقة وجود... فليس من الضروري أن تلتزم حياتك بشروط يمليها الاضطرار، أو القهر على الحياة! |
ومن أجل ذلك.. أراد أن ينسف كل الشروط التي تتلاطم في نفسه. |
أغلق باباً ضخماً كان من الممكن أن يبقى مفتوحاً على: الشكوك، والتوقع، والتحسب... إلى أن يبلغ عند البعض حدود: سوء الظن! |
وأشرع باباً أكثر إتساعاً على: الأسئلة التي تتطلب المعرفة، والاكتشاف، والرؤية، والحقيقة الخالية من شوائب الجدل والسفسطة! |
ـ يقول لي: أشياء كثيرة في انتظاراتنا، في قرارتنا... تبدو أنها معاناة، لكن... تفسيرها أيضاً يبدو أكثر صعوبة من المعاناة نفسها! |
لم يكن يريد أن يخرس ذلك الصهيل الدائم في جوانحه كإنسان.. ولا تلك الأسئلة المتجددة، المتطورة في عقله كمفكر، ومتَّشح بعباءة التاريخ. |
وعندما سأله ((صحافي)) شاب قبل موته بعام: |
ـ تقف في الصباح أمام المرآة.. لترى وجهك، أم لتتزيَّن في خروجك للناس، أم.. لتتأمل تجاعيد السنين؟! |
ـ أجاب: ((لا أدري كيف خطر ببالك هذا السؤال!! |
كيف خطر ببالك أنني أقف أمام المرآة في الصباح، كأنما أتحلى وأتزين مع نفسي، مع أنني لست كذلك!... ولست من أولئك الذين يتباهون بجمالهم، كأنما يعلنون للمرآة وكأنها كل الناس!! |
فأنا لست من هؤلاء، فلم أتعود منذ شبابي أن أقف في مواجهة المرآة.. فأنا غني عنها حتى في كهولتي، ولكن الآن عندما أقف أمام المرآة للحلاقة أو لضرورة تلزمني.. فإنني أضيف إلى ذلك سؤالي لها، وهذا السؤل طرحه الكثير من الصحافيين والناس فقالوا مخاطبين: إنك قد نيَّفْتَ الثمانين من العمر وليس في وجهك أية تجاعيد؟! |
ـ فقلت لهم بكل ثقة: وذلك لأنه ليس في قلبي تعاقيد، فالتجاعيد تكثر في وجه من يحقد، ويكره، ويغضب، ويتسم بكل الصفات الذميمة! |
المرآة ليست حلية نتزين بها، بل حلية نقف أمامها، خصوصاً لأولئك الرجال/الأطفال الذين لا تشبع رغباتهم النفسية إلا بالوقوف أمام المرآة لساعات طويلة، لا لشيء بل للظهور بالزينة))!! |
* * * |
ـ وكنت أحرص كثيراً على ((الإصغاء)) في حضرته.. وصوته ينساب في البدء، مثل تدفق النهر، ثم يتعاظم الصوت بدون أن يعلو على صوتك، ولكنه يتعالى بالإصغاء إليه.. فهو صوت يجسِّد حلاوة اللغة، وينسج بنبراته: شاعرية الضاد. |
مفتون كان بالكلمة. ويعرِّفها بقوله: |
ـ
((
الكلمة: تصنع الحضارة، لكن الحضارة قاتلة للكلمة التي صنعتها
))
!!
|
ـ لذلك... سألته فزعاً من تعريفه للحضارة أيضاً: |
ـ فما الذي تبقى من الكلمة، ومن الثقافة.. وما الذي يمكن أن تعطيه الحضارة بعد ذلك؟! |
ـ قال: يبقى من الكلمة - يا ولدي - صدقها... فصدقُ الكلمة يُشعل ثورة العقل. |
أما أن الحضارة قاتلة للكلمة التي صنعتها.. فذلك بعد توظيف الحضارة لعقل القوة، ولقوة البطش، ولبطش الطغيان! |
* * * |
ـ لقد كانت أحلامه: أسفاراً في حقب التاريخ.. وتحليقاً في سماوات المعرفة.. |
لم يكن يوماً: ذلك الإنسان/ الفرد، النرجسي الذي تستهويه صفحة البحيرة، ولا المرآة... لأن إعجابه الذاتي لم يكن بنفسه، ولا بأستأذيته... بقدر ما كان إعجاباً ((بالكلمة)) التي يطلقها: عميقة في سويداء الحقيقة... أو مجنحة بألوان المعاني، واللغة!! |
ومن خلفية هذا التبصير الذي أضاء به عقلي... حاولت - أيضاً - أن أقرن صوت الزيدان بصوت ((زوربا))، وما كتبه الروائي اليوناني ((كزانتزكي)) في روايته: الموت والحرية... مصوَّراً أبعاد ((الحب)) الذي يربط بين الإنسان/البطل، وبين تلك العين الآخذة التي تنطلق برؤيتها إلى آماد الحرية، والتعبير عنها، والرحلة الإنسانية من داخل أعماق الإنسان إلى صميم نفوس الناس! |
ولقد كان ((الزيدان)): يرقص بكلماته المجنَّحة، وحتى بكلماته الحكيمة.. كما رقصة ((زوربا)) العجوز، الذي وصفه ((كزانتزاكي)) بقوله: |
ـ
((
هو الذي علمني أن أحب الحياة
))
!!
|
ـ أما ((الزيدان))... فقد استطاع أن يمتص توتري، في الكثير من اشتعالات الغضب، وانفعالات المصادمة البشرية... حتى كأنه يوسدني - بكلماته - وسادة من زئبق رجراج.. يمرجح رأسي، وخواطري، وانفعالاتي حتى تهدأ. |
ـ ويقول مستطرداً بعد الحالة: لكي تحسن التفكير... عليك أن تصعد فوق نفسك، وفوق أشيائك الصغيرة، وفوق مبتغى لحظتك، ثم... تنظر إلى الآخرين!! |
الفوقية التي لا تجعلك متكبِّراً على الآخرين... تمنحك فرصة رؤيتهم بنظرة أكثر شمولاً من كل الزوايا.. أما في الغضب والانفعال، فلا بد أن تفقد هذه المميزات!! |
* * * |
|