شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صوت.. من خارج الزمن!!
هذ الصوت قادم من جديد.. قادم من خارج الزمن!!
عائد هو من تاريخ غرق العشق إلى - تاريخ - النسيان.. إلى الغربة!
عائد من ((إرم ذات العماد)) لحظة ظهورها على وجه الأرض ومعه الأمواج، والرياح، والنسمة، والشراع المثقوب، وخطوات لم تكد تهرع حتى تتباطأ، وحينما تتباطأ تشهد هروب القادمين إليها!
قادم هذا الصوت في بطء الزمن المحصول على حياة قلقة مسرعة الوقفة!!
ضاع الصوت.. اختفى خارج الزمن وهو ينادي على ما في عمق الزمان، واشتعل رأس صاحبه شيباً، ولم يزل القلب متوهج الخفق.. ذائب الوجيب.. مردداً مزامير العشق الغارق، وأناشيد الشراع الساري.. لقد وهنت الخطوة، وازداد اتقاد الآهة، وكان ذلك الاختفاء هو تبرير للذين استعذبوا النسيان له، وكان الاختفاء هو ((الحكم)) الذي أصدره ضد شراعه، وليله وأمواجه، وصوته!
غير أن للنسيان لحظات ذكرى، وللحظات الذكرى خفقة حنين، وفي وقدة الحنين جاء الصوت من خارج الزمن.. عاد من غرق العشق.. ليفرد على أيامنا هذه العبارة للعطش، وللمبتلة شفاههم بلحظة الذكرى.. فقال قبل أن يرحل:
ـ (أنني أقضي أيامي وليالي كالناب في مبركها.. ترقب نشاط الإبل من حولها، ولا تطيق انبعاثاً إلا أن تدور بعنقها، وعينيها)!!
ويستطيل سؤال: ما مدى العافية التي تنشط هذه الإبل؟
وقبل الإجابة.. علينا أن نستعيد العبارة ثانية.. آتية بنبرة هذا الصوت.. صوت الشاعر المتقد آهة.. الواهن خطوة زمن.. الضاج بالحنين.. صوت ((حمزه شحاته))!!
لقد سكب الشاعر حنينه في أنبوبة اختبار ضيقة هي ذكراناً له - نحن الذين نسيناه زمناً طويلاً - مشغولون بالنظرة إلى الداخل.. عيوننا ((كعيون تماثيل الرومان نظرتها إلى الداخل))!.. وتركنا الخارج للعاصفة.. لخطوات تحدي ((جلجامش)).. لقرعات ((أنكيدو)) الذي حاول أن يهزم رفيقه!!
على الشريط الطويل بلا مقاس.. كان تاريخ أدبي، وكانت معارك فكرية قديمة توهجت، توهجت، وتكوّمت رماداً مع الأيام ومنذ أختفى ((شحاته)) بنفسه، غرق العشق وانطفأت جذوة التنافس، وعاطفة الحرف.. بقي فترة - بعده - السرحان، والقنديل، وطغت بعد ذلك النظرة إلى الداخل بعيون تماثيل الرومان!!
والشريط طويل، و ((محنط)) كمومياءات الفراعنة بلا توابيت!!
إن حمزة شحاته يشبه إنسان ((فاليري)) الذي قال عنه في هذه العبارة!
ـ (يتمتع بنظرة معينة تجعله يختفي بنفسه، وبجميع الأشياء، الأخرى، وهي تثبت نفسها في الزمن خارج الزمن)!
إن حمزة شحاته غرق من قديم في تاريخ كان هو غرق العشق؟؟ ثم برز على السطح، وحاول أن يواصل رحلته بشراع ثقبته الأعاصير ومزق أطرافه غلو الحنين.. فإذا هو كحالة - أرم ذات العماد - التي وصفها عبد الوهاب البياتي قائلاً عنها: ((كلما بعدت أبطأ المجدُّون في سيرهم إليها، وكلما اقتربت هرعوا مسرعين إليها))!!
فهل تطرحون الآن الإجابة على السؤال - أعلاه!- .. القائل: ما مدى العافية التي تنشط هذه الإبل؟!
لقد قدم صوت ((حمزة شحاته)) إلينا يحمل عبارته.. فغذا بنا أمام الشاعر هذا وهو ((كالناب في مبركها لا تطيق انبعاثاً)).. كما وصف واقعه في أيامه الأخيرة!
إنه عائد من خارج الزمن لا ليثبت نفسه، وإنما ليجعل الأعناق والأعين تلتفت إلى مكانه - إلى خارج الزمن - وحوله صدى هذه المعاني التي صاغها شعراً ذات يوم فقال:
((من لنفسي بالوهم فيك فألقاك
وتلقينني ألف قرار
فلقد طال بالحقائق للناس
افتقادي وفي الحياة عثاري
ويل لها من حقائق زلزلت
صرح خيالي، وقتلت أوطاري))
* * *
أيها الصوت القادم إذن:
ـ من أتى بك؟!
ـ من أزاح الستر عن مبرك صاحبك بهذا الانبعاث عندنا نحوه.. في اللاانبعاث عنده بسبب الأيام والليالي، والنسيان والحنين، والذكرى والوهن؟!
ـ ما هي تركة الأيام والليالي التي خلفتها لوجدان الشاعر في منتهى رحلته؟!
أكاد لا أطيق التمعن في الأجوبة المنتظرة.. فالشريط الطويل منحط في نفوس الذين يستمعون إلى الصدى هنا.. الذين يصيحون لعمق الصدى للصوت القادم!!
* * *
أيها الصوت العائد بخروجك:
الذي أتى بك هو معنى فلسفته عبارة حملتها منه.. تقول:
ـ (إن المتفقين في الكلمة.. أجدر بالرثاء من المختلفين عليها)!!
لقد جئت - أيها الصوت - ترشي الكلمة هنا.. فالاتفاق عليها لا يعني الفهم لها، أو الاقتناع بها، بقدر ما يعكس الإهمال للكلمة، وسجلها على الورق حتى الطمس!
والاختلاف على الكلمة اليوم أصبح شكلاً، والشكلية ذاتية والذاتية بعد عن استنهاض معاني الفكر، وتلوث بما في الداخل .. بما تراه عيون تماثيل الرومان!.. لم يعد اتفاق، أو اختلاف.. لأنه لم يعد كلمة.. هنا فقط حروف يتم تركيبها غالباً في أنابيب الاختبار، والذين قالوا إن الأدب مزدهر يجاملون ((التجربة)).. يخافون على آلية التوليد!
إن مفتاح الفكر هي الكلمة المليئة بالمعاني.. هي الكلمة التي تشق بطء التطلُّع ورتابة الفهم، وتضرب بلادة الرؤية!
أيها الصوت القادم باختفائك:
الذي أزاح الستر عن مبرك صاحبك.. هو الاحتجاج على حوار صاحبك هذا النافي لشاعريته.. المتبرئ من تاريخ وهج عشقه!!
إننا أمام ((الناب)) في مبركها لا تطيق انبعاثاً، وتاريخ حافل، وكلمة حية حتى اليوم، وشعر نابض حتى الغد.. نتأمل ما قاله ((شحاته)) وهو يتبرأ من شاعريته.. من ((أرم ذات العماد)) التي ظهرت تحت سحابة نسيان مؤلمة.
نتأمل عبارة أخرى كتبها لأحد أصدقائه في رسالة عاتبة.. بابتسامة دامعة، فقال:
ـ (قال صديقي: لماذا لا تعترف بأنك شاعر ما دام الناس يقولون هذا؟!
ـ قلت: أخشى أن يقولوا غداً إني مجنون، أو حرامي!.. ولم يضحك صديقي لأنه لم يفهم)!!
ولم أضحك هنا، ولكني فهمت أن الإحساس اليوم، والمعاني والسمو الفكري تساووا بتصرفات المجنون، وبانحراف اللصوص .. أي أن الشعر في النظرة العامة، أو التعبير الفني، أو الفكري هو جنون، أو سرقة زمن!!
وفي انطباعي.. أن الجنون مادة وليس روحاً، وأن السرقة مسلكاً، أو حالة، وليست شعوراً أو ضميراً!!
واستطرد الحوار عنك بعد هذا.. بأسئلة همشرية متفوقة الغرض.. تقول كلاماً عن الشعر، وعن النقد، وعن المحتوى التاريخي لهذا البلد!!
وأردنا - إمعاناً من أجل الحب والإخلاص والعرفان - أن يمتد نفس الحوار.. فالوقت ليس كارثة، والزمن ليس حدوداً والمعرفة ليست وقفاً على أحد (!!)
وبصوت مسموع جداً.. قلنا كلمة مفهومة مقروءة مدروسة: ((الأزمة ليست قائمة في الشكل الشعري بقدر ما هي قائمة في وجود الشعر، أو عدمه!.. إن الناس لا تفهم الشاعر لأنهم لا يفهمون إلا الحقائق السطحية.. أما الضباب والجليد اللذان يرقد تحتمها زمن كامل فذلك شيء لا يفهمه الناس الذين لا يعترفون إلا بالحقائق الملموسة من قبيل ممنوع التدخين.. ممنوع البصق.. الوقت من ذهب))!!
هذه هي الأزمة في الداخل قريباً من العيون المقلوبة كعيون تماثيل الرومان!!
* * *
أيها الصوت القادم بغرق عشقك:
التركة التي خلفتها الأيام والليالي لوجدان شاعرك، لا تنحصر في البحث عن إطراء وثناء الناس عليه.. إنها تركة موزعة بالقسطاس على العمر، وعلى الشريط التاريخي الطويل للأدب هنا، وعلى الخروج خارج الزمن، وعلى اختفاء الأبعاد في ثواني غرق العشق القديم المتجدد!
التركة مخضت أصواتاً هلامية مغرقة في الجحود، مطموسة بالغرور، محقونة بالرفض الأجوف البعيد عن معنى الرفض احتجاجاً على عنت!
التركة هي هذا التفكك، والاضمحلال، والشيخوخة الذهنية وخواء الروح من معطيات للحياة!
التركة جعلتك أنت كالناب في مبركها لا تطيق انبعاثاً، وجعلت غيرك يقتات الاجترار، ويتناول الشذوذ الفكري، ((يمارس)) تأملاته بعيداً عن الأعين، والأسماع والأذهان الجديدة المقبلة على استيعاب مرغوب!!
وإذا التركة حقيقة هذه الحصيلة التي صورتها في أبيات تقول:
كم سرينا على سناها حيارى
نركب الوعر، والعواصف خرقاً
وانتشينا بها خيالاً من الرا
حة احنى مهدداً وأنضر أفقا
فإذا نحن في كفاح مرير
بين سار على الكلال وملقى!
* * *
فماذا تبقى من تاريخ غرق العشق؟!
هل تبقى هذا الرفض:
لا تقولي أخشى عليك العوادي
أي شيء أبقت عواديك مني؟
أم هل تبقى هذا الاقتناع:
لا تقولي أهواك لست على
صحراء حسي اللاظي سوى ابن سبيل
عاثر الحظ، والخطى يخبط
الوعر بوعر من يأسه والغليل
ماله غاية وما غاية الحيران
تجري بين السرى والقفول
الذي تبقى حقاً، وفي الوجدان عمقه.. ما قاله (( حمزة شحاته )) :
أفلسنا والحب مطلب نفسياً
غريبين في سبيل الوجود
جمعتنا أسبابه مثلما تجمع
ضدين: صائداً بمصيد!
فمضينا على هوى يبطن الغاية
منه بين الظما والورود
وانتشينا بل انتشيت، فقد ضاع
نصيبي بين الأسى والجمود!!
أيها الصوت القادم - الآيب من جديد:
لا أتحدث هنا عن شاعرية صاحبك لأنني مقتنع بما قال: ((إن المتفقين في الكلمة أجدر بالرثاء من المختلفين عليها))!!
إنني أنظم هنا رثاء ((منثوراً!)).
ألمس به بطء الزمن المحصول على حياة قلقة.. مسرعة الوقفة.. يندلق امتلاؤها على فراغها، ويعيد الفراغ ذلك الامتلاء بكل قرف!!
إن تسليط الضوء الفاضح على الشريط الطويل المحنط.. مناسبته الصوت القادم، فالحديث كله عن ((إرم ذات العماد)).. مدينة العشق، وعن تاريخ غرق العشق!
الحديث عن أهل الكهف، وإن كان الاستطراد التاريخي ملحّ جدا!!
ـ حمزة شحاته.. أيها النابض على البعد في عشقنا.. أيها الفراغ الممتلىء..
أقول لك:
ـ دعنا نتفوق عليك مرة بحب كبير كبير.. تعرفه في رغباتك، ولعلّك عرفته الآن فينا!!
إن للنسيان لحظات ذكرى..
وللحظات الذكرى خفقة حنين..
وفي وقدة الحنين جاء صوتك من خارج الزمن.. عاد من غرق العشق، فدعه يغرق ثانية.. دعه، لأن الاستطراد التاريخي هذا لا يكافئه!!
لأن.. لأن دواعي العشق قاتلة ومقتولة!!
المشكلة هنا ليست موضوع الحب، وإنما هي وضع الحب!!
ـ وصال أخير:
يا سيد الكلمة المنفية إلى الأرض:
كانت فرصتك أن تكون شاعراً، فتملكت الفرصة لتجعلنا بها جيلاً كبر بأمانية.. مشى بالبداية.. حمل فوق كتفيه طريقه وسار إلى المستقبل!
أتيت من خارج الزمن.. لتموت في داخل الزمن!
قدم صوتك إلينا بإحساسك.. يدخل بطء الزمن المحمول على حياة قلقة مسرعة الوقفة!!
ومضيت عن هذه الحياة التي يبكينا موتها، ويضحكها موتنا.. لأن طبيعتها أن تأخذنا ولا تعيدنا. أن تأخذ منا ولا تعطي إلا ما متنا من أجله.. بعد أن نموت!!
هذه الحياة تعطيك الآن هذه ((الزفة)) التي يفعلها من أحبوك أو عاشروك أو زاملوك. كلهم تذكروك الآن وقد نسوك زمناً قاهراً. كلهم يردد هذا البيت في تأبينك:
(إذا ضحك الموت في شفتيك
بكت - من حنين إليك - الحياة)
ولم يكن الموت مفاجأة، وإنما المفجأة كانت أننا نعيش الحب.. كل بأسلوبه، وباحتماله، وبطاقته.. بينما أنت لم تشبع من الحب، فبقي صدرك يدور كرحلة السواقي القادرة على غناء الحزن وسط أشجار كثيفة تنتظر الرواء!
تقف في رؤيتي كالنبرة البهية.. كجذع شجرة تضرب عروقه باطن الأرض، وتتقاسم الطين والماء والهواء.
خلفك الظل يستطيل..
أمامك ((الفيء)) يتعاطف مع المحرورين من هجير نفوسهم!
ارتفعت بالحياة إلى حيث يقيم الصمت بيتاً له فوق رأس الخرافة.. فوق هامة الأسطورة، فلا شيء يعطيه الآخرون لنا. لقد أخذوا منك لغة الحنان، وفتيل الشمعة، وتاريخ الليل!
ـ ولقد كانت المشكلة: ليست أن نجعلك تحبنا، وإن كنا نتلمس ناصية نصل عبرها إليك.. زمنها: هذا البذخ في الحزن. هذه الوليمة في المعاناة.. هذا الضوء الباهر من الإصرار والعناد لكي لا يهزم الحب في داخل الإنسان.
المشكلة كانت: معرفتنا لزمن جديد يعيشه إنسان اليوم .. منذ بدأت قرعات ((أنكيدو)) حتى عصر الامتدادات لكل ما هو حاصل نتيجة انهزامات البطش النفسي، وانهزامات القوة المتميزة.. ووصولاً إلى فلسفة الحرص على البقاء، وبقاء الحرص على أصغر الأشياء في حياتنا!!
وكنا نتحدث عن الحب فنذكرك دائماً..لأننا أحببناك فكراً، وأحببناك لوحة أصيلة باهرة بكل ما فيها من صراخ الألوان، وأحببناك عطاء خذله بإعياء الشك في ما حول نفسك. فلو بقيت للشك صحته في داخلك لاستمر عطاؤك، وأحببناك حباً لا يخون، ولا يهون، وأنت تقول:
لست تدري، نعم، ولا أنا أدري
لم تهفو إلى لقائك روحي؟
ولماذا أكون فيك كما ترسف
في السجن فكرة المكبوح؟!
ولقد مضيت، وخلفك - في موكبك - عمر آخر.. ابتعته برحمة القسوة من دمعة الحنان الذي يكون أكبر من جفاف الأغصان الخضراء.. أكبر من شحوب الجمال الذي شوهته الأصباغ!
ولقد كنت أشهد لحظات النهاية. كان الدمع يترقرق في أعين الذين عرفوك معاشرة، وصداقة، والتصاقاً، وفي أعين الذين أحبوك ببيت شعر، وأعجبوا بك وأنت تتسنم غرور ماديات الحياة، وأنت تقاوم المأساة والملهاة، وأنت تنغرز في عمق السخرية عند تسلطه على الكاذبين، وتكون المرارة التي تحز في نفسك.. هي من تكبر الأقزام الذين أردت أن تصنع منهم عمالقة!
كنت لا ترغب أن تنسى كل لحظة مرت في حياتك.. فكان الأرق هو فلسفتك، وهو تاريخ ابتدأ، وكانت الحياة هي مادة هذا الأرق، وكانت المقاومة عندك عراكاً مع العجز المباشر، وكان ما يتحقق لك يختفي وهو موجود.. لأنك قلت:
(إن كل شيء رائع من أحلامنا وأمانينا يختفي عندما يتحقق وجوده)!!
كنت تقتل ما تعطي.. فالقصيدة الجميلة التي تصوغها تخرج لسانك لها بعد ولادتها، والكلمة المشرقة التي تسكبها تطوح لها بعد لحظات مستهيناً.. فطموحك كان أكبر، واعتزازك بنفسك كان يواجه أخطاء الآخرين.. فآثرت العزلة، وأرهقت ذلك الطموح بنفي الموهبة عنك، وبالتنصل من عظمة ما فيك من فكر ومن رؤية، وكان هناك فارق لا بد أن يكون بين من يجد الدعائم لتبرير الغرور، وبين من لا يجد دعامة ترفه عنه من كرب الغرور!!
كان لا بد أن تجد الترفيه عنك من كرب الغرور، وحاولت أن توجده - لا تجده.
وحاولت أن توجده من خلال هذه الكلمات التي تيقنت من معانيها قبل عام عندما قلت:
ـ (إنني أضحك وأقهقه ساخراً بنفسي.. لأنني كنت الغبي الذي يتهمه الناس بالفطنة. والضحك بهذا الأسلوب هو العزاء الوحيد الذي بقي لي)!!
لكن.. لم يكن هذا ضحكك قبل أكثر من عشرين عاماً.. لقد واجهت صراعاً نفسياً بين الوقوف، وبين الانسياب، وكانت قامة فكرك عملاقة.. طامنت بها أعلى خط بياني بين أقرانك. كنت تكتب في جريدة ((صوت الحجاز)) ثم ((البلاد السعودية)) تحت اسم مستعار هو ((هول الليل))!.. تفكر أن تكون الجبار الحنون الذي يحتضن الخوف والطمأنينة في آن واحد!
وكان شعرك ينضح بالأسى كعمق الليل، ويتوهج بالمعنى كالنور المشع في الظلمة، وينسكب في الروح كإيحاء الليل.
وفي هذه اللوحة كانت تتضح ملامح الإنسان المفعم بالدهشة .. النابض بالآهة.. المشروخ بالسعادة عندما تكون أرق الحياة!
إنها صورة دقيقة تذكرني بفلسفتك التي لم تفارقك أبداً حينما قلت:
ـ (إنه انفجار جانبي من القهقهة الساخرة التي تعبر عن التعاسة وهي تتحول إلى شعور بالسعادة بواسطة الهذيان. إن تلمس الشعور بالسعادة على هذه الطريقة لا يقل أهمية عن طريقة برايل.. القراءة بواسطة الأصابع)!!
وكان هذا الهذيان هو أقصى ما يصل إليه الإنسان ليعتقد أنه سعيد، وإن الحياة يمشي دولابها، وأن ((الفطنة)) شيء لا ضرورة له في التعايش المتواصل مع الناس حتى لحظة الموت!
يا سيد الكلمات المتفوقة:
من عرفك حسدك على مشاكسة الحياة لك.. لأنك تبحث في تضاعيف ذلك عن الانتصار وتفرضه، فلقد بدأت عملاقاً، وجعلت رعيلك يلتف حولك مصغياً وأنت تتحدث.. غابطاً وأنت تتألق.. غامطاً موهبتك وأنت تنصهر بالمعاناة، وتصهر في نفسك أسباب ارتباطنا بأشياء الحياة، فتضيئ أكثر، وتحترق في مزيد من اللهب.. لأنك تطلب من كل واحد أن يصبح متفوقاً.. لأنك تخاصم كل عيي محدود التفهم والنظرة.. كل متخاذل الشعور موطوء النفس.. كل العجز الذي يأتي به غباء الروح!
ولم تتخل عن هذا الأسلوب. خاصمت به وخاصموك. حددت به قيمة الإنسان في الحياة، وفهم البعض أبعاد ذلك التقويم والتحديد، وناوأك بعض آخر من أجل هذا، ولكنك استطردت حتى في عزلتك، وحينما سألناك كان صوتك ينفذ إلى داخل الزمن.. إلى رحم الفكر وأنت تردد:
ـ (من المحتمل أني أفكر بطريقة لا يعتبرها الآخرون مستقيمة، ولكن لي ظروفي التي تملي عليَّ نظراتي وأحكامي. عندما يتحمل الإنسان نتيجة خطئه فالمسألة طبيعية، وعندما يحمل أخطاء الآخرين فهذا شيء مختلف)!!
وأنت تعرف أن من أخطائك أنك آثرت العزلة وهي السلامة. لم تكن ترغب أن تحدث ذلك الانفجار الجانبي من القهقهة الساخرة التي تعبر عن التعاسة وهي تتحول إلى شعور بالسعادة. كنت تفضل أن تصمت بدل أن تهذي. كنت تقرأ أنصع الكلمات وأنبلها بضميرك، وبحسك بدل أن تقرأها بطريقة برايل!!
وكان خطأ الآخرين أن نفذوا لك رغبتك. تركوك وحيداً مع كل ما في نفسك، وما في أفكارك، ولم تترك الحياة رغم ترفعك الظاهر عن كثير من مباذل ابتساماتها، ولحظتها كنت بقامتك تتساءل ولا تردد حكمة. كنت كما ((زارا)) تفتش ولا تضع خاتمة. كنت تعرف أنه من المؤكد أن من يفارق الأرض لن يعود إليها إلا ليحاكم على جريمة كبرى.. كأن يقتل إنساناً في أحد الكواكب!.. وقلت: ((إن أية عقوبة لا تبلغ شدة النفي إلى الأرض))!
وهذا قرارك الذي أتخذته مع الناس فأحبوك وهم عاجزون أن يحبوك. وأحببتهم وأنت لا تعرف كيف أحببتهم.. كأي عاشق يتشبث بكل القيود التي تضعه في ارتباطات من يحب!!
أنت الشاعر الذي استوطن الغرابة بسبب الغربة، وزرع فيها حدائق زمن لم يأت!!
كنت تغتسل في نهر الكلمات لتموت كل يوم.. تموت لتطعم الجوع المستمر فيك، وقلت أثناء هذا الشريط الطويل:
كم سرينا على سناها حيارى
نركب الوعر، والعواصف خرقاً
وانتشينا بها خيالاً من الراحة
أحنى مهداً وأنضر أفقا
فإذا نحن في كفاح مرير
بين سار على الكلال، وملقى!
يا سيد الشعر:
القصائد تبكي سيدها، ومنشئها.
كل الجيل الجديد هذا يسمع عنك فقط. لم يقرأ قصائدك. لم يقرأ نثرك.. فإذا ما عكف أحدنا اليوم على تجميع كل شعرك وكل رسائلك، وإذا ما كان أصدقاؤك كرماء على التاريخ.. كرماء معك هذه المرة فقط.. فيمنحوننا هذه الثروة، وستكون الحصيلة دسمة.. نقدم من وراء سطورها فلسفة حمزة شحاته.. عمقه.. كروبه.. مواجهاته.. وأنت أوجزت الكثير من تنفس الحياة حولك في نفس طويل مليء بهذا المعنى:
ـ (إننا لا نعاقب الوحش أو الحيوان وما لا يحس ولا يعقل، على أي خطأ إلا إذا وصلنا إلى مستواه)!!
وأردفت عبارة أخرى لم تشخ بعد.. قلتها قبل عام واحد فقط.. تنضح بالمعاناة، بالصهد.. فقلت:
ـ (ماذا كان يمكن أن أكونه.. وماذا كان ينبغي أن أكونه؟! شيء. وماذا كنت في آخر جولة؟.. شيء آخر هو الذي يبدأ منه القول وينتهي إليه. النهاية هي التي تعطي البداية، أو تسلبها معناها)!!
والنهاية هنا تتمخض عن استعادة الناس لذاكرتهم.. ليجدوك وأنت مسجى، فيفقدك، ويؤبنوك، ويذكروا تاريخك الحزين المضيء.
وأتذكر هنا رأياً قاله ذات مرة الشاعر الرقيق الأمير عبد الله الفيصل حينما سألوه عن الشعر في بلادنا، فأجب قائلاً:
ـ حمزة شحاته، ثم حمزة شحاته، ثم حمزة شحاته، ثم حسين سرحان!!
ـ حمزة شحاته.. أيها النابض فينا فكراً، وإلهاماً، وترسماً، وعشقاً، وتاريخاً:
من أنت.. تركض في ساحات حزننا عليك نحو أعراسك في أعماق الناس.. فتشاهد بقايا أوهامهم، وبقايا قلوبهم؟!
من هم.. داخل تكرار اندماجهم في الطرقات ووراء المسافات المأهولة بالدهشة؟!
رأيتك كالضمير. أبصرتك تحمل حدقتيك وتزرعهما داخل صدرك لتنبت بين ضلوعنا، وتحمل سمعك وتحطمه بين ضلوعك.. لتستجلب غذاء من العشق المسجون في عيني الحياة!!
وينساب عشقك ينساب.. حتى يرتاح وأنت تردد:
لا تقولي أهواك.. فالحب قيد
ودواعي الحياة ضد القيود
وينساب ضياعك ينساب.. حتى يغرق وأنت تردد:
لا تقولي أخشى عليك العوادي
أي شيء أبقت عواديك مني؟!
وينساب اقتناعك الصعب ينساب.. وأنت تستطرد:
لا تقولي أهواك..
لست على صحراء حسِّي اللاظي
سوى ابن سبيل..
عاثر الحظ، والخطى
يخبط الوعر بوعر من يأسه والغليل
ما له غاية..
وما غاية الحيران تجري
بين السرى والقفول؟!
وما تبقى...
ثمة حزن يجهض في أحشاء الكلمات.. وحب يتكوّن في رحم الحزن!
ثمة ((حياة)) تخوض بنا ساحة الغرق، وتأخذنا إلى شواطئ الرحيق.
وهناك في المنتظر... تلوح الصدفة كبيارق القوافل في الصحراء..
هناك.. زمن يأتي، وشعور يتجدد..
ورجل وامرأة يجففان دموع القصائد!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1933  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 363 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.