شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمود درويش توأم القمة الماردة!
إنني أعرفهم.. أعرفهم!!
هؤلاء ((المنزرعون)) فوق أرضهم: نبتة إصرارية، يتحدون رياح الشوك والحنظل، وأعاصير القهر، وفيضانات الحقد!!
أعرفهم - أنا - يا تاريخنا الجديد الذي تكتب سطورك اليوم بدمائهم، وتملأ صفحاتك بكلماتهم المنطلقة من فوهات البنادق.. المنسابة - أيضاً - من صدور لم تنس نعمة الحب في طوفان الكراهية والأحقاد!
أعرفهم - أنا - يا يقظة الإنسان العربي.. معرفتي لهم جاءت يوم ولدت أنت - أيتها اليقظة - فامتلأت الساحات بأعلام الأمل.. غطتها خطوات النضال الراكضة!
انطلق صوتهم مع اللحظة التي تمزقت بأول طلقة من المقاومة العربية فوق ثرى الأرض السليبة.. فلسطين!
لقد خاضوا النكبة وراء أسوار الدخيل المستعمر - خاضوها ولم يعيشوها - وبقي وجههم عربياً، ولسانهم ((مواطناً))، ووجدانهم عاشقاً للنضال حتى يزدهر البرتقال في بيارات يافا، وحيفا بأيديهم.. بعرقهم - إنهم يروون تلك البيارات اليوم بدمائهم!
إنه صوتهم الواحد متحداً، هذا الذي نسمعه.. يحمل عبر تموجاته لحن الحب الكبير للثرى.. للنجم.. للقمر.. لنظرات الأطفال المشرعة ترقب قدوم الأمل:
((يا إخوتي..
أحبكم جميعكم..
أحب كل قبضة مهزوزة في أوجه الأنذال.
وكل جبهة شامخة في ساحة النضال..
وكل كلمة جريئة.. تقال!))
هذا هو الحب الجديد الذي علمنا إياه شعراء النضال.. الذين كانوا يقفون بإصرار على أرض فلسطين رغم الأسوار، والمدافع، والقتل الجماعي!
إن مبدأهم يقوم على الحب، فالكراهية ساقطة من صدورهم .. الحب لأرضهم، ولحريتهم، ولمعتقداتهم..
وأقسى قهر إنساني أن يحاول الظالمون طعن الحب في جوانحنا.
وبهذا المبدأ الكبير، والحافز.. عبر شاعر الأرض المحتلة ((محمود درويش)) فأصدر ديوانه بعنوان: عاشق من فلسطين!!
إنه لم يقل: ((حاقد من فلسطين))، أو ((كاره من فلسطين)) .. بل قال ((عاشق)) وهذه دلالة رائعة على سمو أسباب النضال، وعظمة المقاومة للمستعمر.. المعتسف ذلك الحب!
لقد صرخت - ذات يوم - فدوى طوقان، وقالت:
ـ لقد علموني الكراهية!
إنها - بهذه العبارة - تعبر عن حب كبير لقضية بلدها، لأنها قالت هذه العبارة إثر مواجهة ((دايان)) لها!.. لكن أشعارها الجديدة الموفدة من وراء الأسوار، غنية بصور الحب.. حافلة بـ ((آهة)) الألم، ولن يكون انتصار الإنسانية إلا بالألم.. فالحب لم يكن نكتة تنفرج لها الشفاه.. لكنه عصف ألم تتفتح به الجوارح لتحيا الحقيقة، ولتلم أشلاء الكذب والخديعة!!
وأنا أعتبر الفترة التي ولد فيها هؤلاء الذين أعرفهم.. أعرفهم: شعراء الأرض المحتلة.. هي فترة يقظة للكلمة العربية .. فترة صحو للحرف العربي.. فترة ازدهر فيها التعبير بهذه الأماني.. الأماني التي أصبحت - ولا غيرها - في ((نوال)) الحياة الملامسة الصادقة للحقيقة، للألم، للحب.. بهذه المعايشة للمخاص المشرقة بالحب وبالكرامة!
هذه الفترة ازدهر فيها ((الشعر العربي)) مجدداً.. بل هو تعبير إرادة ينبغي نوال معطياتها.. ننالها بالدم، بالأظافر بالزحف على الشوك، والأسلاك الشائكة..
فالصدور التي تجرحها نتوءات القهر.. يضمدها تراب الأرض!!
ولقد ولدا هذ الرعيل الشاب من الشعراء على قوائم، وأسس ذات منهج مدروس، ومثقف، وواعٍ، ووضعوا لأشعارهم وصايا ذكرها الكاتب الفلسطيني ((إبراهيم أبو ناب))، وسردها خمس عشرة وصية نقلها بحذافيرها.. ومنها:
ـ ((حرروا صناعتكم من ((قفانبك، وسائق الأظعان)).. إن عندكم اليوم الطائرات لتسمقوا إلى النجوم)).
ـ ((لا تعصروا قلوبكم كأن تتعلموا رقة الشعور، ولا تعقدوا أفكاركم كأن تتعدوا الغموض والإبهام)).
ـ ((لا تنسوا وطنكم في حبكم الإنساني، ولا تنسوا الإنسانية في نزعاتكم الوطنية!)).
ـ ((ارفعوا للناس وطنكم في حبكم الإنساني، ولا تنسوا الإنسانية في نزعاتكم الوطنية!)).
ـ ((ارفعوا للناس مشاعل الإباء والشرف والقوة والعدل والشجاعة والثبات والأمل والإيمان))!
وهكذا تدفق شعر هؤلاء قوياً.. ندياً.. ثائراً.. عاشقاً، وتخلص الشعر العربي في هذه الفترة - كما قال كاتب عربي - ((من الاختناق في متاهات الرموز وانغلاقات النفوس القلقة، وشطحات الصور الغريبة))!
وجاء - محمود درويش - ليقرر حقيقة الحب في مقطوعة عنوانها ((تحدٍ)):
شدوا وثاقي
وامنعوا عني الدفاتر والسجائر
وضعوا التراب على فمي
فالشعر دم القلب..
ملح الخبز..
ماء العين..
يكتب بالأظافر..
والمحاجر، والخناجر!!
ساقولها في غرفة التوقيف..
في الحمام.. في الإسطبل..
تحت السوط.. تحت القيد..
في عنف السلاسل:
مليون عصفور..
على أغصان قلبي..
يخلق اللحن المقاتل))!!
والقارئ المتأمل لشعر - محمود درويش - يلمس الحزن العميق من خلال صرخات القيد، وتنهدات عشقه لأرضه، ونداءاته لحبيبته المجلودة، المعذبة!
هنا رؤيا جديدة تنفتح.. لمشاهدة المعاناة الممارسة.. هي رؤيا قال عنها دارس لشعر هؤلاء:
ـ ((رؤيا نابعة من معاناة وتطواف واحتراق، وعناق يشف حتى يحيل اللحظة إلى شعر خالص، حيث يزدهر السر الخفي، ويبيح نفسه لمن أراد اجتناءه، واللحظة في الشعر الجديد صوت، والموضوع كشف، والإيقاع نبض، والقافية تيار يتدفق ناراً، وألواناً لم تبصرها العين))!
إن هذه المسافة الممتدة الشخصية.. الموغلة في درب ثائر يرفض الجليد، ويتحدى الصقيع.. هي مسافة خطوات الحب الكبير الذي صنعه الألم في وجدان الشعراء.. كما في وجدان هذا العاشق من فلسطين.. الذي قال:
رأيت جبينك الصيفي
مرفوعاً على الشفق
و ((شعرك)) ماعزاً يرعى
حشيش الغيم في الأفق
تود العين لو طارت إليك
كما يطير النوم في سجني
يود القلب لو يحبو إليك
على حصى الحزن!
يود.. يود، لكني
وراء حديد شباكي
أودع وجهك الباكي
غريقاً فوق دم الشمس
مهدوراً على الأفق
فأحمل فوق جرح القلب جرحين))!
هذه المسافة الطويلة.. ترفض الانكماش، والاختزال.. إنها تمتد.. تمتد على شعاع نبيل من الحزن!
إن هذا الحزن الذي صوره الشاعر لا يعكس - معنوياً - مفهوم الانخذال، والضياع.. بل يعطي ملامح ((المقاومة)) الحقة والاستبسال بالصمود الذي يمنح مقدرة أن يحمل ((فوق جرح القلب جرحين))!
والشعر سلاح حاد، ونافذة، ويؤثر بإصابات مباشرة..
وعن دور الشعر، وعطائه وتاثيره تأتي هذه السطور التي أوردها كاتب عربي:
ـ ((في الهند تقام ليالي - المشاعرة - بانتظام في المدن الكبرى أو القرى النائية على السواء، وينشد الشعراء، ويتطارحون قصائدهم وملامحهم، وتتخللها الموسيقى والغناء، وتستمر طوال الليل، وفي تلك اللحظات يفيض الحنين والأسى، وتنهمر الدموع، وتتحول الليلة إلى مظاهرة إنسانية وقومية تتخطى كل حدود، وفوارق))!
وفي أيام العرب.. يذكر التاريخ دور ((سوق عكاظ)) في تحفيز الشعراء وإيجاد المنافسة بينهم، والإشادة بالمحلقين، والمبدعين، وقد أدى الشعر دوراً كبيراً بلا شك في تاريخنا الطويل!
والشاعر الفرنسي ((بودلير)).. أثار ضجة ذات معترك بالقصائد التي كان ينشرها، والتي قيل إنها كانت من تأثير الشاعر الأمريكي ((بو)) عليه، وعلى آرائه.. حتى تعرض للنقد الساخن، وللشتائم.. وبصرف النظر عن محتوى أفكار شعره، واتجاهه فقد عرفنا أن ((بودلير)) أثار الناس، وأقام حواراً عنيفاً بما صاغه من شعر!!
وليس هنا وجه للمقارنة بين صميمية شعر ((بودلير)) وبين عطاء، ودور شعر هؤلاء المناضلين.. إلا أن يكون مجرد استطراد في حديث عن تأثير الشعر على القضايا، وعلى المجتمع، وعلى الأفكار!
* * *
وألتقط - بعد هذا - انعطافة ارتوائي بما قرأت من شعر محمود درويش.. من خلال ما تنشره الصحف، والمجلات، ثم نهلاً من ديوانه هذا الذي جسد ((حقيقة الشاعر)) الأصلية.. تلك التي تترجم الحزن الجم، والألم السامي المرتفع فوق كل المحن والأرزاء!
انعطافة إلى عطاء هذا الشعر الذي ذكرني بعبارة قرأتها في مقدمة لأحد دواوين ((نزار قباني)) الشعرية.. تقول: ((ما كتب هذا الشعر ليقرأ، وإنما ليشم ويضم)).
أتذكر هذه العبارة، واستل تحويراً مغايراً.. يبرق، ويضوي، ويلمع، وأنا أقرأ لمحمود درويش وهو يقول:
((لأجمل ضفة أمشي
فلا تحزن على قدمي من الأشواك
إن خطاي مثل الشمس
لا تقوى بدون دمي!
تعالوا يا رفاق القيد والأحزان
كي نمشي..
لأجمل ضفة نمشي.. فلن نقهر
ولن نخسر..
سوى النعش!!))
هنا تأتي العبارة المحورة التي أحب أن أقولها:
ـ ما كتب هذ الشعر ليقرأ، وإنما ليغمس بالدم!!
فهو الذي قال في آخر سطور في الديوان:
((لو أني..
أفارق شوك مسالكنا الصاعدة..
لقلت: أدفنوني حالاً..
أنا توأم القمة الماردة!!))
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1724  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 357 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج