شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
والراحل.. إلى الإدراك
راحل.. راحل.. يبحث عن الضياء الوليد في الزوابع والرياح!!
ينحدر في أودية النفس - زمناً - بعناد، ورغبة، واشتهاء مصير!!
يرتقي مرتفعات من شعاع حس.. هارباً من زمن يضاجع كهفاً!
لا يعترف بالعودة من نفس الطريق.. فكل الأشياء التي سقطت حين البحث، والرحيل، وخلف الخطوات.. ضاعت للأبد!
راحل.. راحل.. خلف هذا الغسق المنقوع في تساؤل مجروح.. مجروح ((برواقية)) سكان إسبارطة؟!
رائعة هذه القصة التي عنوانها: الراحل.. الباحث!
عن الهوى المرهف باحث هو.. تحركه إيماءة من مروحة فتاة إسبانية.. فتاة عتقها التاريخ، ومروحة خرمتها النسمة الغضوب الوافدة من دهور باعدتها حقيقة الوجود!
عن ما يعطي قيمة الترحال.. باحث هو..
باحث عن الخوف، والآلام والرغبة والمودة، والتمرد، والحقيقة، والنبع!!
يرفض هو أن تكون الحياة السرمدية لحظات ودقائق. وأياماً.. حياة محبة، وشجاعة، ومنح وجديد!
أين ذاك الصهر الذي يذيب حديدية أيامه؟!
أين ذاك ((النمر)) الذي ينشب مخالبه الجائعة في إحساسه، وإحساس كل الناس.. ليتعلم - والناس معه - كيف ينهزم النمر، وينطرح، ويموت رغم مخالبه المحاربة؟!.
أين انفعال الذهن، والشعور بمضمون قصة ذلك التلميذ الأسطوري حقاً.. (الذي دخل قاعة الدرس، وهو يخفي تحت ثيابه ثعلباً صغيراً. ولأن الثعلب لم يكن شديد الارتياح إلى تلك الإقامة فقد أخذ يعض بطن الصبي، ثم ينهشه، والصبي صابر جلود.. حتى أغمي عليه من شدة الألم)!.
إنها أقرب إلى الأسطورة، فلو كانت حقيقة لقيل إن الثعلب قفز، وعوى، ومزق ثياب التلميذ.. لكنهم يروونها مثلاً لرباطة الجأش، والشجاعة، وقوة الاحتمال!.
إننا لكي تنفعل بالحاجات مشاعرنا، وبلورة الفكرة الصبوح في أذهاننا.. نتوق جداً أن نمارس مع ذواتنا مرابط ضبط النفس، ورباطة الجأش.
إن هذا أحلى ما يظهر من مقدرة الشجاعة، وعظمة الاحتمال.. تفوقاً على أعصاب تتهور فيصطدم بها كل شيء!
لكنه - وهو يبحث طويلاً - كان يعنيه أن يصطدم بالكثير مما ينتصب أمامه، فهو قوي فكراً، ويقذف بما يعتمل في نفسه لخوض كل تجربة.. وإذا أحس بامتلاك هاتين القوتين فيما يرى، وفيما يشعر.. فهو لا يتحاشى الاصطدام!
فكر مرة أن ((يجرب)) الخوف أيضاً!.
ما باله عنيف الرغبة.. عنيف المودة.. عنيف الارتجاف؟!
وتطلع إلى ((جغرافية)) ومناخ المكان حوله..
أليس هذا مكاناً يصلح للاطمئنان على استمرارية النبض، ويؤكد واقع الرؤية من عينين حادتي النظر، ويعني ((بقاء)) معيناً.. لكيفية ((ذات وجه)) تعطي فرصة البقاء حياء في ذهن إنسان؟!
إنه يعاود الصراخ ثانية.. غريب.. غريب!!.
النبض لا يعني - دائماً - استمرارية الحياة..
النظرة الحادة قد تكون مصلوبة.. مرصودة.. ترتد أبداً، ولا تذاع.
والبقاء قد يكون واقعاً لكسيح.. مشلول يريد أن يمتلك وجوداً يتفاعل فيه!
ذات يوم من شهر يناير عام 1936 صرخ الغريب، وهو يزمع الرحيل.. وهو يمتلك شجاعة الحياة العادية.. صرخ:
ـ ((سجين في الكهف وحدي.. أرقد، وأنظر إلى ظل العالم.. قلب الهواء مليء بالبرودة.. في كل مكان شريط رفيع من ضوء الشمس حتى أنه يمكنك أن تقسمه بلسمة من ظفرك))!
أي انسحاق ((متفائل هذا))؟!
سجين كهف.. يرقد، وينظر إلى ((ظل)) العالم، ويمكنه أيضاً أن يقسم شريطاً من ضوء الشمس بلسمة ظفر؟!
لا أتهمه بجنون المناخ!
ذلك إنسان يستلهم وجوداً من خلف سجف داكنة..
إنه جلود داخل الكهف مع وحدته..
إنه في تلك اللحظة اكتشف وعياً في شعوره.. ولقد واصل متعة جديدة تعطيه جوانب عظيمة من الرؤيا الحقة.
فطفق يفكر:
هل هو شجاع ليرحل.. لينحدر، وليرتقي، ويطير شعاعاً يمتزج بأنفاس الغيم، ويتساقط مذاباً في قطرة مطر؟!
هل هو شجاع؟!
ـ ((من أنا.. وماذا أستطيع أن أفعل.. غير أن أدخل في حركة الأغصان والضوء.. أكون هذا الشعاع من ضوء الشمس الذي يحمل دخان سيجارتي بعيداً؟!.. هذه الرغبة الناعمة الرقيقة التي تتنفس في الهواء))!
لقد أحس أنه يمتزج بهذا الوجود الذي أبصره عبر شريط رفيع من ضوء الشمس.. حينما كان ينظر إلى ((ظل)) العالم!!
* * *
وارتفع إنسان مارد.. رغم وهدة المعايشة..
إنسان عرفه الناس باسم ((البير كامو)).. وحينما امتدت يده لقرائه يصافحهم.. قال لهم: اسمي الغريب!
إنه زخم هائل من المعاناة، والقلق، والخوف، والحب، و((الاحتماء))..
المساحات أمامه لم تكن رحبة، رغم أن الوجود كله مساحات لا تتجزأ، ولا تصبح قطعاً..
أمامه حدود ذات أسلاك شائكة، وهو قد تخلص من سجن الكهف.. فعندما يستطيع المرء أن يعبر، وأن يفهم الناس، ويفهم بهم.. فإنه ينال جانباً من الرؤية الصحيحة بالإحساس بالحياة..
أهم ما يحافظ عليه الإنسان كوجود:
أن يقدر على التعبير.. فإذا استطاع أن يعبر حتى بلسان حيرته، واضطرابه، وتساؤلاته.. فهو ممتزج.. ممتزج، وهو كما يقول ألبير كامو:
ـ ((إذا كنت لا أزال أشعر بقدر من القلق، فإنه من أجل أن هذه اللحظة التي لا يقاس حجمها.. تتسرب من بين أصابعي ككرة من الزئبق))!!
هذه نتيجة، وليست حالة، أو نهاية حالة..
أنها نتيجة الرغبة، والشجاعة حين تتأكد الحياة، وكل الأشياء.. كلها - في نتيجتها - تبدو ككرة من الزئبق.. فأنت كإنسان لا يمكنك أن تحافظ على كل شيء!!
وأهم الأشياء حياتك، وأحلى الأشياء حيويتك وشبابك، وأكثر الأشياء رفاهية: شعورك الذي يشف محبتك.. كلها لا تتمكن أن تحافظ عليها.. لأن النتيجة دائماً ((أن ما يعطي قيمة للترحال هو الخوف))!!
* * *
وثوان تمر..
ورؤيا تطول:
وصمت يتمدد أفقياً على وجه الشعور بالحياة..
وفي الاحتواء.. احتواء الثواني، والرؤيا والصمت لنا.. ثوانينا أحياناً شجاعة فكرة الحياة..
لحظتها.. قد ينساب ((نغم)) من الأعماق.. تلك أغنية الحياة!!
لحظتها.. أنت مضطرب، وقلق.. تتساءل:
هل أنت سعيد حقاً، أم إنها انتعاشة التعاسة؟!
تذكرت كلمة التعاسة التي ولدت لها تاريخاً!!
إجابة الغريب - ألبير - يضعها خلف هذه الصورة، ويقول:
ـ ((لا أعرف ماذا يمكن أن أتمنى أكثر من هذا الحضور المستمر للنفس مع النفس!؟.. ما أريده الآن ليس السعادة.. بل الإدراك))!
الذين يناقشون أفكار ((ألبير كامو)) تذهلهم مفاجأة غير متوقعة:
ـ كيف استطاع أن يقود النتيجة إلى ((الإدراك))؟!
ـ كيف حقق وجود الإدراك وسط صخب الحيرة، والاضطراب، واستمرارية الشعور بهما؟!
إنها سفسطة مرهقة - حين يناور الإنسان بالتحدث عن السعادة كمطلب ((تقريري)) أو كحياة تبتسم بغباء، ونحن نريد لها أن تدوم!
السعادة ليست مطلباً أبداً... الإدراك هو المطلب:
أن تدرك ماذا تفعل، وأن تدرك أشياء واجبة بالفهم وأن تدرك قدرك بأن تقتنع بالتصاق طرفيه - السالب، والموجب - ليصنعا لك الحيوية والاستطاعة!
لقد كان ((ألبير كامو)) يشعر بالسعادة بعض اللحظات حتى وهو في سجن الكهف.. كهف النفس المنغلقة، وكهف ((البلاهة)) البشرية عند افتقاد شجاعة أن نحيا!
لكن ذلك الشعور بالسعادة ماذا أعطاه.. ماذا منحه من حقائق؟!
منحه الكثير من الحقائق التي جعلته في النهاية ((يدرك))!
لكنه لم يعطه شيئاً من خيالات السعادة التي يحلم بها المرء وهو مقدم على حالة يأس!
ينبغي أن تدرك أولاً.. لتستطيع بعد ذلك أن تتقن عملية التصاق السالب والموجب!!
وقامت فلسفة ((ألبير كامو)) على مبدأ الإدراك..
أدرك كثيراً، ورغب أن يحافظ حينذاك على ((الحضور))؛ المستمر بين النفس والنفس..
ودفع بخطواته يسير بعيداً..
الصورة له.. لا تعكس نتيجة إنسان قلق.. تاه، وضاع..
الصورة عنه.. تعطي نتيجة ((إدراك)) احترمه صاحبه!!
وقد توقف دقائق ليعطي فرصة للصوت أن ينتشر، وتسمعه يقول لك:
ـ لقد أدركت الآن...
إنني راحل .. راحل.. أبحث عن الضياء الوليد في الزوابع، والأعاصير.
أليست الزوابع والأعاصير شجاعة وحياة؟!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1809  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 344 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج