شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثاني: المثقَّفة!
في هذا السكون الذي أعقب إنزال سماعة الهاتف من يد ((سارة))... تلفتت حولها في المكان، وقد سقطت في حيرة السؤال: ماذا تصنع الآن؟!
لا بد لها أن تتحرك، أن تقوم وتفعل شيئاً.
ـ لماذا أنهت حوارها مع ((فارس)) بهذا البرود الذي افتعلته في قمة دفء حديثه وحماسه؟!
لا تدري... ربما أرادت أن تكبح اندفاعته.
ربما قصدت أن تغضبه ليثور عليها.
فهل هي في حاجة إلى رجل: يثور عليها، ويصرخ في وجهها... ليكبح هذه اللامبالاة التي تصبغ أيامها الحالية؟!
تعرفه جيداً... إنه شديد الحساسية، ربما غضب منها الآن، لكنه لا يقدر أن يقاطعها... هي وحدها التي تقدر أن تقاطعه، ثم تعود إليه وقت ما تريد!
ارتسمت ابتسامة غرور على شفتيها.. وهي تهمس لنفسها:
ـ لكني لا أقصد تقزيم شخصيته أمامي... فقط يحلو لي أن أشاكسه، فهل أنا عدوانية؟!
لا.. لا.. لا.. أظن، فقط: استفزازية، وهو في استفزازي له يبدو كطفل يحتاج إلى حنان أم! و..... ماذا عنها هي الآن؟!
منذ ((سنة الطلاق)) - كما سمتها - وهي تحاول أن تتمرد على ما حولها.
كانت قد عزلت نفسها في داخلها.. وانطلقت من هذه العزلة تتفرج على الناس والحياة، كأنها خارج طقس هؤلاء الناس، أو خارج اللعبة كلها.
راحتها التي استقرت فيها أخيراً: أن تتأمل، وتُصغي أكثر مما تتكلم.
لعبتها: أن تتفرج، وتقترب من المكان الذي تعتقد أنه يستهويها، وتقفل الباب بإصرار وعنف أحياناً في وجه أي ((رجل)) تشعر أنه جاء ليقتحم حياتها الجديدة ـ راحتها، ولعبتها - ليستحوذ عليها، ويمتلك مشاعرها، ويأمرها فتطيع، أو ((تنخَّ)) ويُخضعها لرجولته!
قالت لها أقرب صديقاتها إليها، وقد صارت تنتقي كل من تُقرِّبه منها:
ـ هذه عزلة... لا، بل سجن لعاطفتك، وربما لعفويتك كإنسانة!
أجابتها: لا أشعر بهذا السجن الذي تصفينه.. أحياناً يكون السجن الأقسى في خوض الناس لخصوصيتك، ولاستقلالية تصرفك أو فكرتك!
ما زالت قوية في التمسك بتمردها.. لكن قوّتها هذه المرة صاغتها من جديد: امرأة أخرى مختلفة عن ((النسوة)) اللواتي عاشرن فكرها... وعاطفتها في داخلها تنثر الأسئلة الحادة على امتداد سنوات عمرها.. ولا أحد منهن استطاع أن يشير لها إلى إجابة واحدة تفسر هذا التدجين الملحوظ لدورها كامرأة يسمونها: نصف المجتمع!
عندما كانت في سن المراهقة.. تتقافز من الخامسة عشرة إلى العشرين، كانت الحياة تبدو في نظرها: ضحكة، وسهرة، وأغنية، ورقصة، ومحادثة هاتفية تعتبرها دائماً ((للتنفيس)) عن أشياء كثيرة معتقلة في رأسها، وبين ضلوعها!
وعندما نضجت قليلاً بعد نهدة العشرين.. بادر أهلها إلى تكبيلها بلا استئذان من عقلها، وبلا استفتاء لخفقات قلبها... فزوّجوها، لأنه لا بد لها أن تتزوج، أو هكذا بنات العائلات، والبنات الجميلات!
وعندما ضمتها غرفة واحدة مع عريس الغفلة، في أول ليلة من شهر ما يسمونه العسل.. سألَتْه بجرأة مستمدة من رفضها لكل السيناريو (المعتاد) في مجتمعها:
ـ من أنت؟!
ـ وبعفوية، وبقهقهة ساذجة فارغة بلهاء.. أجابها: أنا رجُلك... زوجك!
قالت له بدون أن تستهدفه بالاستفزاز، أو تحط من قيمته؛ لكني لا أعرفك... فهل تعرفني أنت؟!
قال: أعرفك جداً... فأنت ابنة أحسن الناس وأطيبهم، وأكثرهم فروسية برجولته وبمواقفه.
ـ قالت: إنك تثبت بإجابتك هذه أنك تجهلني تماماً.. فأنا لم أسالك عن أبي، ورجولته ومواقفه.. بل عني أنا التي ستعاشرها، (والمفروض) طول العمر... من أنا في فهمك لكياني ولشخصيتي؟!
قال: أنت التي اخترتها لتشاركني مشوار الحياة، و... تملأ بيتي أطفالاً!
ـ قالت: فقط... لا شيء غير هذا، أولاً يهُمك في شخصي إلا ((الإنتاج)) لك، كمعمل تفريخ؟!
قال مندهشاً: ما هذا.. ما هذه اللهجة.. ماذا تقولين وتقصدين؟!
ـ قالت: ماذا تفكر أنت.. ماذا أفكر أنا.. ما هي الصفات التي نتَّحد فيها، أو حتى يتقارب بها كل واحد منا من الآخر.. ما هي مفاتيح شخصيتك، وشخصيتي؟!
قال: يبدو أنني تزوجت فيلسوفة، أو مُحاضِرَة في مدرَج الجامعة!
ـ قالت: أرجوك... بدون أن تسخر، ففي إمكان كل واحد أن يسخر، ولكن ليس في إمكانه أن يُقنِع.
قال: ولكن... لماذا كل هذا التعقيد، ومن الليلة الأولى التي يضمنا فيها عش واحد؟!
ـ قالت: تٌسميه الآن ((عُشاً))... وبعد سنة قد يعلو صوتك وأنت تصف هذا العش بالسجن؟!
لقد أردت بأسئلتي من البدء: أن يفهم كل منا الآخر.. فلا نختلف، ولا نجد بيننا فيما بعد ذلك: الجدار السميك الذي إذا قام لا نستطيع أن نهدمه!
* * *
لم يثمر حوار الليلة الأولى من شهر العسل تقارباً... بل ذلك الحصر لاهتمام الزوج/ البعل في (التمتع) بزوجته الجميلة، الشابة، النضرة... قبل أن تنتفخ بطنها، وتنشغل بأمومتها عنه!
ولم تَرْضَ بهذا الواقع الذي فرضته أسرتها عليها، وسمّته لها بأنه: حياتها الجديدة.
ولم تكن - في ذلك السن - قد تحولت إلى: امرأة قوية.. ترفض، وتتمرد، وتُشكِّل حياتها كما تريد.
استمرت الحياة بينهما، أو حولهما.. لكنها لم تكن تشعر يوماً: أن الحياة في وجدانها، ولا في معايشتها ومعاشرتها لهذا الزوج/ البعل.
وعندما تفتحت مداركها أكثر، وتراكمت تجاربها، وتمدّد اختناقها بحياة زوجية تطفح بالمعاناة... أدركت أن الحياة ليست كما تعيشها، وليست كما قبلتها ذات يوم.
مع انحدار دمعة كانت تفرُّ من حدقتيها، وتُخضِّب كالدم وجنتيها المازالتا نضرتين.. همست لنفسها:
ـ الحياة أكبر بالتأكيد، وأكثر اتساعاً، وجمالاً، وانطلاقاً، وبهجة، و... عفوية!
الحياة كما استلهمتها من معاناتها الطويلة: أن يجد إنسان نفسه في الآخرين، ويجد الآخرين في نفسه!
أما هي... فلم تشعر بذلك كله، ولم يتحقق لحياتها... بل بقي محبوساً في نفس واحدة!
وحاولت - بعد سنوات ذلك الحبس أو الانحباس - أن تفتش عن ((لحظة)) من الحياة الأكبر والأكثر اتساعاً، وبهجة، وانطلاقاً..... وأن تباشر الحياة بقناعتها، وباختيارها.
لم تكن تريد أن تفقد ثقتها بالرجل... تمنَّت ذلك في مرحلة أخرى من حياتها.
وحانت لحظة الطلاق.. بكل خميرة الذكريات، والماضي، والطفل الوحيد الذي ملأ حياتها في كل ما تشعر به من تفريغ مؤلم لها، و.... تلك الأحلام التي أحبت بها وفيها، وحاولت تجسيدها: حياة أخرى/ خارج الطقس، وفوق العمر.. وأبعد من اعتيادية الصحو، والنوم، والطبخ، واللبس.. وأشمل من انتظار الزوج في مخدع النوم، فلا يأتي طوال الليل.. ويبقى في مجلسه الخاص ساهراً مع أصدقائه، والساهرين من أجله.. وتبقى هي بين جدران كل غرفة من هذه الفيلا الأنيقة، ذات الأثاث الغالي أو الباهظ ثمنه: وحيدة، ملولة، شاردة الذهن.. وتستيقظ جوانحها بكل شراسة الوحدة في هذه الأصداء التي حولها.
استرجعت لحظة الطلاق تلك الآن، بعد مرور أكثر من عامين عليها.
تلك اللحظة المهولة التي تبدو بشعة، مزلزلة.
ثم.... التي صارت بعد هولها، وبعد وضوح جوانب وزوايا الأشياء التي بدت غامضة أو صعبة في حينها: لحظة مريحة، ساكنة، مسكونة الآن بتأملها، وبفتح ((ألبوم)) حياة، واستعراض صور عمرها، منذ أن شبَّت عن طوق طفولتها/ عمراً، وتمسكت بطفولة نفسها وروحها إحساساً حتى الآن.... فوجدت أنوثتها تفرع بجسدها الذي يطول!
* * *
قرَّرَتْ بعد ((تجربتها)) أن لا تنبس بكلمة حب لرجل، حتى حين تصرخ خفقاتها في عطش الروح، وأنين الوحدة... حتى لو كان الرجل ((فارس)) هو الذي أحبها يوماً ما، وما زال يمحضها صدق نفسه من عمقٍ استقر حبه لها فيه!
أرادت أن تُجرِّب عطاءً من نوع آخر، ولكن... لنفسها فقط.. لذاتها:
ـ أن تعطي لنفسها ولذاتها ما يريحهما ويبعدهما عن ((وجع القلب))، وهموم الحب، وقلق الشوق، وتقلُّب الرجل أو سأمه!
صارت صامتة في حوارها مع الرجل عندما يبدأ معها حديث الحب.. حتى ((فارس)) الذي صارت تثق في صدق عشقه لها، وإشراقة شموسه كلما تربعت في سمائه.
وأحياناً تخرج من هذا الصمت بعبارة، أو بكلمة واحدة.. لا يهمها أن تكون جارحة له، أو متصدية، أو مانعة لتسلله إلى قلبها، أو... قاتلة لمشاعره نحوها.
وعندما أراد هذا الرجل أن يلفت انتباهة مشاعرها إلى خفقاته التي عادت تمطر على أرضها من جديد.. فوجئ بحدِّة في صوتها، وهي تحذره ضاحكة عابثة بوجدانه:
ـ إلزم حدّك من فضلك... أراك الآن رجلاً متطلباً، تستزيد ولا تكتفي.. تتدفق ولا تقحل أبداً، تماماً كما عثرت عليك أول مرة.... كأنك لم تنس أبداً!
بالنسبة لي.. أقول لك أيضاً: لقد تغيرت، وكثيراً!
صرت ارفض أن تقتحمني عواطف رجل، وأن تقودني وتسيِّرني.. كأنه زوجي المتسلط!
الآن - في هذا النضج الذي بلَغْتُه من العمر - أرفض أن يتحكًّم رجل في خطوتي، ودخولي، وخروجي، وحتى رغبتي في البقاء مع نفسي وحدي.
أرفض مطاردته لي، وتفتيشه في تلافيف عقلي، وفي خزانة نفسي، وفي زوايا قلبي... حتى لو (فكرت) أن أحبه عشقاً!!
لم أعد أطيق أن أمنح هذا الحق لأحدٍ مهما كان..... غيري ((أنا))!
نضوت عن قلبي، وعقلي، ولحظات حياتي: عباءة التبعية لرجل... حتى لو كان أنت.
أي رجل يريد كل أشيائي.. وحتى شرودي فيه وحده بأنانية مطلقة!
تقول الحب؟!!
حسناً... إنني لا أرفض الحب، ولا أقف سلباً من الرجل.. لأنني بكل ما سمَّيته: مواقع وحواجز في حياتي.. فأنا لا أبني سياجاً يفصل بيني وبين الرجل!
ممكن أن أشعر في لحظة دافئة مشتاقة: أنني أحبك، وأنني أريدك فوراً..... فتأكد أنني سوف أجدك (!!)
ليس غروراً - صدقني - لكنني أحاول أن أنسج إحساساً مختلفاً، بدون اعتساف، ولا حِدة، ولا مطاردة من طرف للآخر.. هو هذا الإحساس العفوي، وربما المباغت، والآتي بأنانية الحب.
* * *
شرد بها صمتها وراء صدى صوتها... وقد قصدت أن تُبلغ هذا (الفهم) لخفقات قلب ((فارس)) التي تلهج باسمها منذ زمن بعيد.
واسترجعت أصداء صوته أيضاً... كأنه يطلب منها أن تواصل الكشف عن ما في سريرتها، وعن عاطفتها نحوه، فقال:
ـ إذن... لم يبق لديك ((الحب)) الذي كان يشكل حياتك؟!
ما تريدينه، أو تخضعين له في بعض الوقت.. هو بالتحديد: استجابة الاحتياج لديك كأنثى للرجل.
إنه وقت للتفريغ العاطفي الذي يتبلور ممارسة!
ـ قال: أنت تشتمني يا فلان... ومع ذلك أعرف أنك ستغضب مما قلته لك، وترفض بإصرارك المعهود ما تسميه أنت أحياناً: لا مبالاة مني بك، أو ما تصفه في أسلوبي العاطفي معك، بأنه: قسوة عليك، بل.... واتهمتني بالسادية التي أمارسها معك لأتلذذ بتعذيبك في حبي!
لقد جرَّبت مجتمعاً آخر.. عشت فيه، واندمجت، وشدُّتني ثوابت لا بد أن تتوفر في العلاقة الإنسانية.. ومن أهمها: الإبقاء على الشخصية الذاتية، حتى لو أدميت عيني بدلاً من الدموع دماً... إنه سلوك حضاري اقتبسته من مجتمع نسميه متطوراً، والمهم فيه: آدمية الإنسان!!
ومن أهمها أيضاً: الوضوح في العلاقة.. بمعنى: لا تحاصرني ولا أطرد وراءك، طالما أنك تثق في حبي لك، وطالما أريدك وتريدني!
ومن أهمها: الانطلاق في زحمة الناس.. لا تغار من دخولي وخروجي إلى هذه الزحمة ومنها.. لا أسألك: ماذا تفعل إذا وجدت الثقة.. لا تسألني: أين كنت، ومن هو الرجل الآخر الذي ضحكت معه؟!
لم أعد أطيق أن يحاسبني أحد على ممارسة حريتي الشخصية.
أعرف أنك ستقول: إنني أخرج بك أو بنا من مجتمع محافظ وربما مغلق.. إلى مجتمع منفتح، وقد لا يكون محافظاً في حكمنا المُلْزِم..... رغم أن هذا العالم قطع أشواطاً بعيدة على درب الحضارة، وشملت إنجازاته العلمية العالم.
وأعترف: أنني لا أنكر طبيعة النفس البشرية وذاتيتها... لكنني بقيت عدة سنوات في غمار أو زحام تلك المجتمعات.. أنطلق، وأفْرج عن إنسانيتي وحريتي من قيودهما ومن المحظورات التي كبَّلتها حتى البلادة... وذلك في حدود التزامات تقرها سلوكيات، ولا أتنازل عنها.
سألها: ولكن... ألم تُصابي بالملل من هذه (الميْكنة) في المجتمعات المتحضِّرة.. من الزحام، وضغوط الماديات، والواقعية المباشرة إلى درجة استفزاز الروح في داخلك، واستجابة الاحتياج التي تنتهي بالرغبة؟!
ـ أجابته: أنت تسميها ((ميْكنة)) لأنك ما زلت تحافظ على ما حفره المجتمع في أعماقك... برغم استجابتك للانطلاق، و... العبث كرجل: تمارس، وترفض حق الطرف الآخر!
ومع ذلك... أقول لك: لقد بقيت في تلك السنوات: أقرأ، وأقرأ، وأقرأ..... وكان البعض من صديقاتي هناك اللواتي تعرفتُ عليهن في الزحام، يُطلقن عليَّ صفة: (المثقفة!).
ولعل هذا الشعور المحفوف بالغرور انتابني في بعض اللحظات، لأنني تنبهت إلى حُسْن حواري ونقاشي، وسهولة توفير الأدلة، وبراعة جدلي لو أردت!
فرحتُ بحياة جديدة.. فررت بها خطوات بعيدة عن هذا الترصد لحرية الإنسان الشخصية، وحتى عن: التلصص على أفكار الإنسان، وعلى خفقة قلبه.. ومَنْ يحب، ومن يكره، ومن يعاشر؟!
خرجتُ من مجتمع.. ليست مشكلته: الانغلاق، أو المحافظة... بل مشكلته الأساسية تكمن في تفريغه من المنطق، ومن الحرية الشخصية، ومن عفوية التصرف بدون اعتداء على حريات الآخرين، ومن حوافز الإبداع... حتى تشويه العاطفة الإنسانية الأنبل، وذلك حين يرمونها بالخطيئة، أو بالانحراف... كأنَّ هذا المجتمع أدخل كله في فرن لإنضاج شَجْبه الدائم لكل تلك الأساسيات لقيمة الإنسان، وإصابة عواطفه بالعُقَد من كثرة تحذيره من الحب، ومن الفرح، ومن الابتسامة، ومن الترفيه عن نفسه!
حتى لو نظرت إلى وجوه الناس في الشارع، في ((السوبر ماركت))، ووجوه المذيعين على شاشات التلفاز، وحتى وجوه المشاركين في الندوات... فلا بد أنَُّ ملاحظتك ستتركز عل ظاهرة: الوجوه العابسة المتجهمة التي نسِيَتْ الابتسامة، كأنها تخضع لحظر على الضحك!!
و ((النسوة)) كما يقول الرجال: أُصِبْن بالاكتئاب من كثافة عبوس رجالهن، حتى داخل البيوت من هذه العدوى المنتشرة!
* * *
فجأة... رنّ الهاتف في غرفتها التي فاضت بالصمت، وبشرودها إلى حياتها في الماضي:
ـ أهلين... كيف وجدت فرصة لتتصل بي بعد منتصف الليل؟!
اشتقتُ لكِ... أنت أنهيت محادثة أول الليل ببرود، فقط... أردت أن أخبرك أنك فشلت في استفزازي!
ـ يا...... برودك، معليش.. ابتسم فأنت في جدة!
ها أنذا أبتسم لك... لكنَّ وجهك أحلى وأنت تبتسمين!
ـ غزلك سخيف هذه اللحظة... فماذا تريد مني الآن!!
لا أرفض ((قُوَّتِك)) التي تحاولين تركيز عدسة الزوم عليها معي كلما جمعنا حوار... ولا أريد ((ضعفك)) الذي تُدارينه عني في تضاعيف نفسك... فلستُ أحب المرأة الهلامية، ولا المرأة النعجة.
ـ حسناً... عباراتك جميلة، ولكن أسرع وأخبرني: ماذا تريد مني بالتحديد؟!
أعرف أنك تتَّشحين أحياناً بعباءة القسوة الظاهرة... فليكن، سأبقى شاخص القلب إليك.. متدفقاً، وأعتذر عن إزعاجك في منتصف الليل.
وضعت سماعة الهاتف، وهي مندهشة من لهجتها معه: لماذا خاطبته بهذا العنف؟!
ـ قالت: ليكن... ماذا أفعل له؟!
* * *
كأنه انسحب من دائرة ضوئها... لم يعد يتصل بها ولا يشاكسها بملاحظاته، وحتى بعفويته التي تتوارب من خلالها: طفولته معها.
اختبأ بعيداً عنها في الصمت، واحتمل غياب صوتها ووجهها عن سمعه، وبصيرته... كأنه بهذا الانسحاب قد صافح عزلتها لنفسها، وانضم معها إلى عينيها وسَمْعِها في رغبة التفرج على الناس والحياة!
ومرَّت أيام على هذه التجربة المضنية له، وهو يسأل نفسه:
ـ حقاً... هل صارت أشواقنا الأصلية خارج لعبة الناس مع الزمن، وعبث الزمن بالناس؟!
لعلها تجيب هي يوماً على السؤال.. بعد أن أهملت الإجابة على الأشواق!!
تحوّل وريده إلى درب يوصله إليها دائماً، وهي لا تشعر........
امتزج تعبها وتمردها بدمائه: بابه السحري الذي يدخله في أي وقت إلى بهائها، وذاكرتها التي تحكَّمت في حبسها وإطلاقها وقت ما تريد!
لا بد أن تعلم من صفات صحرائه، وصبّارها، وحنظلها: كيف يحتمل ((الجَملُ)) فيه العطش؟!
إن هذه المرأة/ الأنثى.. صارت طقوسه، وكل انكساراته.
صارت هي وحدها: انعتاقه من الحنظل ومرارة الأيام.. وهي لهفته الخرساء التي تُشكِّل رغم صمتها: سفره إلى أمان الروح.
تستطيع هي - وحدها أيضاً - أن تسلبه الطقوس، والانعتاق، واللهفة، والسفر إلى أمان الروح، كلما أرغمته على تفريغ العمر.... عمره هو: منها!
وفي انسحابه من دائرة ضوئها، والتوقف عن الاتصال بها، ومشاكستها.. فوجئ بها ثانية: في مساء كان ((يهدهد)) فيه وحدته.. وصَله (خطها) بكلمة واحدة، أرسلتها إليه، تقول له فيها:
ـ وحشتني!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1860  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 150 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج