شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقط...وجودها!
مضت لحظات بطيئة.. كانت تحمل في أصدائها وقع خطوات الزمن القادم!
هو.. يحدق إلى عينيها المشعتين كهالة ضوء، كأنه يقرأ أعماقها وخلجاتها في هذه اللحظات التي شملهما فيها الصمت..
وهي.. شاردة الذهن، لا تتطلع إلى وجهه.. لكنها تحب وجوده بجانبها. هو.. يسترجع في هذ التحديق ما قالته له قبل الصمت:
ـ لا تنظر إليَّ هكذا.. نظراتك العميقة إلى عيني تخلخلني.. فأضطرب.
ـ لماذا.. هل أنا ساحر، أم ترينني كما راسبوتين؟!
لم تجبه حينذاك. انطلقت نظراتها إلى البعيد.. كأنها تحاول أن تقرأ المستقبل. وتمددت بينهما لحظات الصمت البطيئة. حاول أن يبدد الصمت، سألها:
ـ هل يزعجك وجودي الآن؟!
لم ينجح في إنهاء سيطرة الصمت عليها، أعاد المحاولة بلا يأس. قال لها وهو يشرح اللحظات البطيئة تلك بصوت هادئ:
ـ وجودك بجانبي.. هو عمري الحقيقي.
ـ التفتت نحوه تتأمله. ابتسمت.. لكنها لا تريد أن تبوح بشيء.. لا تريد أن تحكي.
غمر كفها في كفه.. لعلها تتلمسَّ في دفء كفه خفقات قلبه.
لم يطل صمتها هذه المرة. تكلمت بصوت كأنه أصداء وجوده. قالت:
ـ وجودك بجانبي.. هو أيضاً زمني الحقيقي، لكني......
وهربَتْ من جديد إلى اللحظات البطيئة. أعارها وجهه ليمتزج بوجهها. ألح.. يتساءل:
ـ لكنك ماذا؟!.. لا أحب وأد العفوية. قولي فكرتك.. لا تتردَّدي.
ـ أحكي لك، ولا تزعل؟!
ـ وهل تعتقدين أنك ستقولين شيئاً يغضبني؟!
ـ لا أحب أن أغضبك، ولكنك أنت سريع الانفعال، وما أفكر فيه هو رأي فيك أحياناً.
ـ طالما هو رأيك.. فأنا أعرفك شُجاعة.
ـ أنت تحرضني عليك، ولكن بخبث.. لأنك تريد أن تعرف رأيي!
ـ ليكن.. وحتى لا يكذب أحدنا على الآخر.
ـ إذن.. فأنا أشعر أحياناً أنك تلاحقني، وتفرض عليّ هذا الوجود.
ـ ذلك لأنني أحبك، ولا أطيق الابتعاد عنك، أما أنت بهذا الشعور فكأنك تحسسيني أن رغبتك في وجودي ليست دائماً، وإنما أحياناً، وأنا لست مزاجاً يا عمري!
ـ أنا لا أحب أن يفرض أحد أي شيء علي، حتى الحب. أكره أن تقول لي: لازم، ومفروض، وينبغي، ولا بد. تصبح شخصاً مملاً لو قلت ذلك.
ـ لكني لا أعتقد أنني أفرض وجودي عليك. أشعر بذلك منك أحياناً عندما تكونين حزينة، أو شاردة. أيضاً.. أنت لا تفرضين وجودك، كلانا يريد الآخر. كل واحد منا أمام الآخر يعثر على زمنه.. يجسد الوجود الحقيقي للعمر. فلماذا غضبت؟!
ـ لم أغضب. إفهمني.. إنه مجرد شعور تلقيته منك في كلمة، أو لفتة، حسبتهما قراراً تفرضه. ليس هناك في قاموس حياتي أي شيء يسمى: لازم، بل هناك ما يسمى: طبيعي!
ـ هذا كلام له خبيئ!
ـ لا تحاصرني باللغة الفصحى. أحس كأنك معلم. أتوقع أن أصاب بالعدوى منك!
ـ (ضاحكاً): في كلامك؟!
ـ لا أدري.. وصفتك يوماً بأنك مقتحم، أرجوك يا ((بايخ)) لا تؤثر علي. خليني طبيعية، والكلام الذي تصفه بأن له خبيئاً.. هو صوت نفسي.. هو حواري مع نفسي ومعك، ومعكما معاً. صرت أمزجك بنفسي، أو أحسك نفسي.
* * *
لفهما الصمت ثانية..
هي.. تعبث بالقلادة المدلاة على صدرها... وتتطلع إلى وجهه بين لحظة وأخرى، وتبتسم.
هو.. يسترخي داخل ((الكنبة)) الوثيرة، يعبث بأزرار ثوبه، وقد بدأ وكأنه يستعيد وقفة من الزمن القديم الذي جمعهما معاً.. فلا يصدق أن من الممكن تشابه الأيام:
كانت ((هي)) في مشارف العشرينات من عمرها، وقد جُنَّ بها، وتمنى أن يقترنا.
لكن الأمنيهّ في ذلك الزمن القديم.. بدت من المستحيلات..
كان ((هو)) في مطلع الثلاثينات من عمره، والحياة في كفاحه مشوار صعب ومعقد.
ولكن حبه لها قد فاض، وانشغالها ((هي)) بنهدة العمر والحياة قد سرقها منه.. لتنطلق بشبابها بعيداً عنه.
وفي الوقفة تلك، وهو يفيض.. قال لها:
ـ تذكري دوماً أنني أحببتك وعجزت أن أجعلك تحبينني بمثل ما أفيض. وقد نلتقي يوماً، وهذا إحساسي الذي لا يخون، ولكن.. أين، وكيف؟ لا أدري!
وفي الوقفة تلك، وهي لاهية عنه.. لا تسمح له أن يتعمق فيها ولا تتعمق فيه.. قالت له:
ـ الآن.. لا أحبك بمثل حبك لي. عندما أشعر أنني لا أستطيع أن أحب غيرك، فإنك ستجدني، وسأجدك.. أصر أن أجدك حينذاك!
فرك عينيه.. كأنه يحاول أن يلغي تلك الوقفة القديمة. شعر بالخوف يضخم الوقفة في حاضره الآن. وحاول أن يستفتي نفسه:
ـ هل تراها الآن قد وجدتني، وأنني وجدتها، وها هو الإحساس لا يخون بالفعل.. أم تراها حائرة في الاستفتاء الصعب؟
* * *
ـ هيه.. وين سرحْت يا تهمتي؟!
تنبه إلى صوتها. جذبه هذا النداء الغريب المبتكر: يا تهمتي!
ـ سألها: ماذا قلت تصفينني؟!
ـ أيوه.. أنت تهمتي.
ـ حسناً.. هل تعترفين بها، أم تنكرينها!!
ـ أنا أحبك.. صدقني.
ـ أنت أنا منذ الزمن القديم، فأخبريني ما الذي يسرقك مني ويجعلك تطردين خلفه؟!
ـ تريد أن تعرف كل شيء عني، وهذا مستحيل. لي أسراري الخاصة.. لي همستي، ودمعتي التي أجففها أمام الناس.
ـ وهل أنا مثل كل الناس؟!
ـ هناك أشياء لا أرغب أن تعرفها. ها... حاسب، لا يشط تفكيرك بعيداً، فليس في حياتي ما أخجل منه.. كل ما نفعله بتفكيرنا قد أردناه.. فقط أنا أتحاشاك أحياناً!
ـ ولماذا تتحاشينني؟!
ـ لأنك كما تصر أن تقول: أنت ضميري. لأنك نفسي. الإنسان أيضاً يهرب من نفسه في بعض. الوقت حتى لا يتعب، أو لا يتذكر، أو حتى لا يبكي.
ـ أنت حزينة هذا المساء.
ـ وأنت دائم الحزن. في عينيك بحر من الحزن، أنت ترفض أن تحكي لي!
ـ لقد فتحت لك قلبي.. فهل أغلق الأشياء الأخرى، وليس عندي أهم من قلبي وعقلي... وأنت استحوذت على الأهمين، أو الأغليين، وسكنتهما، وانحفر وجهك في عمقهما إلى لحظة موتي.
ـ ولكني أشعر بالدهشة.
ـ ولماذا الدهشة... ألا تكفّين عن ظنونك وحيرتك؟!
ـ لأنك تدعي أنني فرحك وسعادتك، ورغم ذلك تبدو أمامي حزيناً، كأنك تشعرني بفشلي في إسعادك.
ـ ليس بهذا المعنى.. وجودك هو النافذة التي تمنحني الشمس والهواء والقدرة على التنفس.
ـ صارحني إذن.
ـ حزني يتكثف كلما رأيتك.. لأنني أفكر أن زماننا هذا مؤقت، يحكمه عقربا الساعة.. في اللحظة التي نلتقي فيها، وفي اللحظة التي نفترق.
ـ وماذا تريد أكثر من هذا؟
ـ أريد امتلاك الوجود بك، وفيك.
ـ بل تريد امتلاكي والاستحواذ علي.
ـ أريد أن نتوج هذه العاطفة التي تتعمق يوماً بعد يوم بغرسة تكبر فتصبح دوحة. وفيئاًَ.. فلا نكون كالمهاجرين.
ـ أنت من كوكب آخر.
ـ وأنت؟!
ـ هوّ فيه شيء في الجو؟!
ـ شيء أكبر من مجرد وقت.. إنه الزمن، والعمر، والخوف، والأماني، والأحلام، والواقع، والوجدان، وصكوك الحياة.. كل المتناقضات المرهقة لك ولي، كلّما خلا كل واحد منا مع نفسه واسترجع اللحظة المضيئة والرواء والامتلاء بكل الحس.
ـ تعرف؟.. أرغب أحياناً أن تكرهني.
ـ هذا هو المستحيل.. كنت كرهتك في الوقت الفراغ ما بين الزمن القديم الذي تلاقينا فيه، والزمن الحاضر الذي توحدنا فيه، إذا أردت.. فاكرهيني أنت!
ـ تعتقد أن هذا هو الأسهل؟!
ـ فلماذا تطلبين مني الأصعب؟!
ـ أوه.. لا أدري.. شيء أثّر على دماغي، فجعلني أحس بالعقل إلى درجة الحزن.
حينما أفكر كثيراً- فيك وفي حياتي والرموز العظيمة فيها- أقول لنفسي: إن العقل تعاسة ومأساة.
أقول لك شيئاً آخر عني اليوم؟!
شعرت أني تميزت بالعقل. عقلت لدرجة الجنون. وأخذت أردد: آه.. تخيل أن ((كلي)) آه!
أنا متعبة جداً. لكن.. صدقني أنني أحبك.. آهْ يا حبك!
ـ كأنك نادمة، أو معاتبة لقلبك؟!
ـ لا أدري.. أرجوك إكرهني. أريدك أن تكرهني.
ـ ولكنك تحبينني.. فهل تطيقين كراهيتي لك؟!
ـ لا تسألني.. الحب عذاب. بعض اللحظات أفكر فيها بضرورة خروجك من حياتي.
ـ ولكنَّ وجودك.. فقط وجودك هو: زمني الحقيقي.
ـ ولكنك كما قلت أنت عشت زمناً مزيفاً في فراقنا، فكيف احتملت؟ إذن.. عد إلى ذلك الزمن، واتركني وحدي.
ـ إذا تركتك.. لن تكوني وحدك. لقد احتملت زيف العمر، وليس في استطاعتي الآن أن أضرب في الغربة من جديد، خاصة بعد أن أصبح وجودي في حياتك هو زمن عمرك الحقيقي، وبعد أن صار وجودك في حياتي هو خبزي، وارتوائي وشمسي، وفيئي، وأنفاسي!
ـ آه.. أنا تعبانة جداً.
ـ إذا صممت فسأرحل. من حقك أن تمارسي نفيي عنك من جديد، ولكن... ليس في استطاعتك أن تفرضي نفيك من أعماقي. قرري إذن.. هل ترغبين أن أخرج من حياتك بالفعل؟!
* * *
ساد الصمت مرة أخيرة...
امتلأت عيناه بعينيها، وفاضت جوانحه حزناً.
أمسكت يده. قبلتها.. وفاضت دمعة دافئة من عينيها. أصبح الصمت بوحاً!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1587  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 128 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج