المفاجأة |
عادت الحياة والحركة إلى هذا العش الذي أخذ يتسع بوجود طفلين يملآنه حيوية، وضجيجاً، وحباً. |
كان ((خالد)) يتلفَّت بعد أن عاد بأسرته، واحتوت نظراته أرجاء البيت، والجدار والأثاث. خيل إليه أن الجماد يتحرك. ابتسم.. فقد كان عليه أن يفعل هذه الخطوة بعد يومين إثنين من خروج زوجته وطفليه من البيت، لكن العناد، وعدم تنازل طرف للطرف الآخر، والمكابرة.. كلها أسباب كادت أن تقوِّض هذا العش، وأن تعصف بالمحبة داخله. |
استبطأ ((خالد)) زوجته. فكَّر أنها- كعادتها- لا بد أن تعيد ترتيب البيت الذي أحاله إلى فوضى طوال بقائه وحيداً فيه. |
لكن الوقت متأخر في هذا الليل. لعلّها تهيّئ طفليها للنوم. |
قام إلى الحمام، وحلق ذقنه التي طالت وغيَّرت ملامح وجهه. حدَّق في المرآة.. وجهه ممتقع يميل إلى الصفرة، تماماً مثلما قالت له زوجته وهي تراه بأول نظرة بعد فراقهما. |
ـ ترى.. هل هو مريض بالفعل،؟ كما توجَّست ((إلهام)) فسألته؟! أم هو الشوق لها، ولطفليه.. أم السبب يرجع إلى وحدته داخل البيت وانشغاله بالتفكير؟! |
أنهى حلاقة ذقنه، ومعها الأسئلة المزعجة هذه. |
دفع باب غرفة النوم بهدوء كأنه يتسلَّل.. فاكتشف المنظر الذي فاجأه! |
لقد كانت ((إلهام)) تغط في نوم عميق، كأنها لم تذق طعم النوم من فترة طويلة! |
ـ قال لنفسه: لعلها مثلي.. أنا أيضاً لم أهنأ بنوم عميق مستريح، بل كنت أتقلَّب في نار الحيرة، والوحدة، والشوق. |
ترك غرفة نومه، واتجه إلى غرفة ((فارس)) فرآه هو الآخر نائماً، ومثله كانت ((عهد)). |
حتى الأطفال.. شعروا بالأمان والاستقرار في البيت، فناما قريرين. |
أخذ ((خالد)) يطوف أرجاء البيت.. ما بين مشاعر الفرح والشوق. كان يريد أن يحتضن طفليه وقتاً أطول، ويضم إليه زوجته فيعيد إليها السكينة، ويغتسل هو بقربهم إليه. |
واستلقى بعد ذلك فوق سريره بجانب زوجته، وسرقه النوم العميق. |
في الصباح.. عادت الحركة إلى العش الصغير.. واستيقظ على صوت ((إلهام)) يوقظه للفطار، استعداداً للذهاب إلى العمل. |
ابتسم في وجه زوجته وهي توقظه.. أمسك بيدها وأخذها إليه، ثم هدأت بجانبه مثل طير. همس في أذنها: |
ـ وحشتيني. شعرت أنك غبت عني عاماً كاملاً. |
غيبت وجهها في صدره، وتشبثت به وهي تهمس: |
ـ لا تفعل. ذلك مرة أخرى. صدقني لا أحتمل غيابك عني.. حتى لو أخطأت عليك أن لا تتركني! |
دفع ((فارس)) باب الغرفة، وهو ينادي على أبيه بضجيجه: |
ـ بابا.. اصحى يا كسلان.. بعدين يفصلوك من العمل! |
ضمه ((خالد)) إليه، وقبَّله. سأله عن أخته ((عهد))، فأخبره أنها ما تزال نائمة. معلقاً على ذلك: |
ـ البنات يناموا أكتر من الأولاد! |
طفرت دمعتان من عيني ((خالد)) و((إلهام)). وقاما مع ابنهما إلى خارج الغرفة. |
أخذ ((خالد)) طريقه إلى غرفة ((عهد)) التي كانت نائمة في سبات طويل. زغزغها في قدميها. تطلَّعت إليه.مبتسمة، وألقت بنفسها على صدره، تقبِّله. |
كان ((خالد)) يحيا هذه الفرحة، وهذه الحياة التي عادت إلى بيته. |
جمع زوجته وطفليه حول مائدة الفطار. سأله ((فارس)): |
ـ إنت ما لبست ليه.. ناوي تزوِّغ من العمل؟! |
ضحك ((خالد)) سعيداً. أجاب ابنه: |
ـ لأ.. اليوم عيد. |
ـ قال فارس: عيد إيه يا بابا.. العيد راح. |
ـ لأ يا حبيبي.. كل لحظة نجلس فيها مع بعض هي عيد. |
لم يفهم ((فارس)) مغزى إجابة والده. قام. يركض إلى غرفته ليلعب، ودلق كوب الشاي في طريقه، فهو لا يمشي ثابتاً أبداً، ولكنه يتقافز دائماً، ويصدر حركات مثل لاعبي الجمباز، ورأي أمه فيه أنه سيكون من أمهر لاعبي الجمباز، فهو نحيل، وخفيف الحركة، ومطواع الجسم. |
نظرت ((إلهام)) إلى زوجها بحنان. أمسكت يده تضغط عليها برفق. سألته: |
ـ صحيح عندك إجازة؟! |
ـ صحيح.. أخذت إجازة إضطرارية لمدة أسبوع، ابتداء من يوم أمس. |
ـ يعني بعد ما قرَّرت إنك تصالحني؟! |
ـ هذا سبب، والسبب الآخر مفاجأة! |
ـ مفاجأة إيه.. أنا ما أقدر أصبر، با الله قول. |
ـ بعدين.. بعد الظهر، أما الآن.. فأنا رايح مشوار مهم. |
ـ على فين.. ما هو أنت في إجازة، والثلاجة مليانة.. إنت ملأتها أمس؟! |
ـ صحيح.. إنما خليني أروح مشواري، ولما أرجع أقول لك التفاصيل. |
قامت ((إلهام)) إلى أعمال بيتها، بعد أن ودَّعت زوجها، ولكن ((المفاجأة)) التي ألمح إليها زوجها تشغلها. |
كانت تتساءل في نفسها وهي تنظِّف بيتها: |
ـ هل اقتنع بطلبها، وذهب يستأجر شقة؟! |
إنها لا تظن صحة هذا التوقع، فهي تعرف ((خالد)) عندما يصر على رأيه برغم حبه الشديد لها. |
إذن.. ما هي المفاجأة؟! |
رن جرس الهاتف، فأسرعت تجيب. كانت ((أمها)) على الطرف الآخر تطمئن، استغرقت المحادثة أكثر من نصف ساعة.. حكت لها أمها في خلالها أخبار الجيران، لم تترك شيئاً مما سمعته. |
وما كادت ((إلهام)) تضع سماعة الهاتف، حتى رنَّ جرسه من جديد.. هذه المرة صديقتها ((سامية)). عرفت من أم ((إلهام)) خبر عودتها إلى بيتها، وقالت لها: |
ـ المفروض أن أزورك، وأهنئك بعودتك إلى بيتك.. أصله يا أختي مفيش أحسن من بيت المرأة مع زوجها، ولا حتى بيت أبوها.. إسأليني أنا، تركني أبو عصام مرة مدة نص سنة في بيت أهلي بعد ما اتخانقنا.. راح موديني لبيت أهلي، وسافر. تعرفي يا أم ((فارس)) عمل إيه؟ درس لغة إنجليزية في لندن طول الستة شهور، وقال بعد ما رجع: فرصة.. فراقكم يا ستات فيه فايدة.. أهو، أتعلمت إنجليزي. إنما برضه أبو فارس أرحم.. يعني تركك كم يوم وما طول.. وبعدين يا أختي....! |
ـ قاطعتها إلهام قائلة: كفاية يا سامية، أعرف بقية الأسطوانة! |
ـ أسطوانة إيه، وي؟! |
ـ أقصد أني أعرف الحكاية دي منك، وبعدين ((خالد)) ما سافر، ويعرف لغة إنجليزية، و... بس! |
ـ وي.. باين زعلتي يا إلهام.. المهم الله يوفق الحال. |
وضعت ((إلهام)) سماعة الهاتف متذمِّرة تزفر بضيق، وهي تخاطب نفسها: |
ـ ده اللي بنستفيده من التلفون.. ما عندنا غير الرغي، والوقت ماله حساب! |
قرع جرس الباب. تقدمت الخادمة ((عائشة)) تفتحه، وإذا بوالد ((إلهام)) أمامها يبتسم، ويسأل عن ((فارس)) و((عهد)). |
ـ قالت إلهام: لحقوا يوحشوك يا بابا؟ |
ـ لحقوا إيه.. دول خلّوا البيت فاضي وموحش. |
ـ زعلان يا بابا؟ |
ـ بالعكس يا بنتي.. الله يوفق حالكم. أنا جيت أقول كلمتين بيني وبينك الآن تسمعيها وأعصابك هادئة، والحب يملأ قلبك لزوجك ولبيتك. ترى حياة المرأة يا بنتي في بيت زوجها، خصوصاً إذا نجحت في نشر الوئام والمحبة. أنا ماراح أبقى لك طول العمر. وزوجك يحبك وبرهن على كده لما جاء وصالحك.. خلاص لازم نعقل، وإنت عندك طفلين حلوين ولمضين! |
اندفع ((فارس)) إلى حضن جده، يعبث بذقنه، ويقول: |
ـ أجلس أتغدى معانا يا جدو. |
ـ وجدَّتك.. أخليها لوحدها في البيت؟ |
ـ نروح نجيبها. |
ـ معليش.. مرة تانية يا حبيبي. المهم لا تزعِّل أمك. |
ـ أزعلها ليه.. المهم بابا ما يزعِّلها. |
ـ بابا يحب ماما. |
ـ خلاص.. ياخدها معاه الشغل. |
ـ وأنت إيه اللي عرفك بالكلام ده؟! |
ـ سمعت يوم الخناقة.. بس ماما ما هي رجل علشان تشتغل. |
ـ قالت إلهام متدخلة في الحوار: وبعدين يا ((فارس))؟! |
ـ قال فارس: سكتنا.. لما ندافع عنكم تزعلوا، ولما ندافع عن بابا تزعلوا.. احترنا معاكم. |
ـ قال له جده: هذا كلام الكبار.. إيه أخبار ((مايكل جاكسون))؟! |
ـ ما عرفت يا جدو؟ حرقوا له شعره! |
ـ أحسن.. أنت لي بداية العام تدخل المدرسة، ولازم تصير شاطر: |
ـ مدرسة بالعربي؟! |
ـ ليه نحن في أمريكا.. طبعاً يا حبيبي بالعربي، نحن عرب ومسلمين. |
ـ بس أنا بدي أتعلم كلام الأفلام! |
ـ كلام الكتب أحسن. |
ركض ((فارس)) إلى خارج الغرفة يتقافز كعادته. والتفت والد ((إلهام)) إليها قائلاً: |
ـ ها.. خلاص؟! |
ـ خلاص يا بابا. إنما ((خالد)) وعدني بمفاجأة ما أعرف عنها شيء. |
ـ أنا أعرف، لكن أترك إعلانها لخالد. |
ـ طمني يا بابا. |
ـ اطمئني.. يمكن تفرحي. المهم أنك مع زوجك وأولادك. |
ـ أنا منتظرة عودة ((خالد)).. وعدني إنه يخبرني بعد الظهر! |
* * * |
|