الدخول إلى الملل! |
الوقت يملؤها. ولا تستطيع هي أن تملأه! |
كانت في جلستها المسائية تحدِّق في قرص الشمس القاني الذي أخذ يميل إلى الغروب.. ولا تدري ماذا تقول لنفسها!؟ |
في نفسها أسئلة تلوب وتتكاثر.. بينما شعرت أن قلقاً يساورها! |
منذ عدة أيام، وهي تعاني من مزاجها المتعكِّر.. إنها تعرف الأسباب، ولا تعرفها أيضاً! |
لم تكن حالتها ((سرية)) بينها وبين نفسها.. الملل يطفح بعض الوقت من ثنايا ملامحها. |
كانت تعرف الأسباب التي قلبت مزاجها.. فسرَّت ذلك باكتشاف أنها تحولت من أنثى متعلمة، وجميلة، ولها أفكار كانت تمور في داخلها قبل أن تتزوج.. إلى مجرد زوجة تطبخ، وتدير أعمال المنزل. وتنتظر عودة ((شهريار)) من عمله، وإلى مجرد ((أم)).. ولدت طفلاً وسيماً، وحيوياً، كان فرحة عش الزوجية هذا، ثم أردفته بطفلة جميلة أخذت تكبر مع الأيام.. تمشي، وتتكلم، وتقلِّد أمها، وتعاند حين الإصرار على أخذ ما تريده! |
وتساءلت ذلك اليوم وهي تسترجع موقفاً لابنتها ((عهد)): |
ـ لماذا لا أكون مثلها.. أعاند، وأصر على أخذ ما أريده؟! |
عندما كانت طفلة.. تبلورت من شخصيتها طباع بارزة. روت لها أمها أنها في طفولتها غضبت يوماً. لأن والديها لم يحضرا لها فستاناً شبيهاً بفستان صاحبتها، وعاندت، وبكت، وامتنعت عن الطعام، وفي اليوم التالي أحضر لها والدها فستاناً آخر، أجمل من فستان صاحبتها، فما قنعت.. بل احتدت أكثر، ومزقت الفستان الجديد! |
يومها.. ضربها أبوها، وخاصمها بعد ذلك عدة أيام لا يكلمها! |
تذكَّرت ((إلهام)) هذا الموقف من طفولتها. |
تذكَّرت أيضاً كلمة زوجها ((خالد)) قبل عدة ليال: |
ـ ابنتنا ((عهد)) تبدو عنيدة، وأكاد ألاحظ أنها تصر على ما تريد مهما حدث! |
ـ أجابته: لقد اختلف الزمن، أو لعله اختلاف الأجيال، وطابع الحدة والتوتر في عصرنا. |
لم يجبها زوجها، ولكنه في تعالي بكاء ((عهد)) التي كانت تصر على طلب خاص بها.. قال لزوجته: |
ـ خليها تنفلق.. ما عندي استعداد ألبي لها كل شيء تطلبه، وإلا.. فإنها تتعوَّد على ذلك، ويتضخم هذا الطبع حين تكبر! |
ابتسمت ((إلهام)) وهي تسترجع ما حدث، وتمزجه في داخلها لحظة تأملها في هذه الاسترخاءة، وتتذكر طفولتها. وطرحت سؤالاً من أعماقها إلى أعماقها: |
ـ هل كان آباؤنا يدلِّلوننا.. أم أنهم كانوا قساة علينا، باعتبارهم كانوا من جيل يربط التربية ومفاهيمها بالضرب، وبالزجر، وبالقسوة أحياناً؟! |
جيل أبنائنا يختلف عن جيلنا، لأننا نحن الآباء والأمهات نختلف في مفاهيمنا ووعينا عن جيل آبائنا وأمهاتنا.. ورغم الوعي والنضج والعلم، فهناك اتهام موجه إلى آباء وأمهات الجيل الجديد.. بأنهم يتهاونون في التربية، ويوظِّفون مقولة الوعي والنضج بأكثر من معطياتهما وحدودهما.. إلى درجة التسيُّب أحياناً، والإهمال وعدم الرعاية أحياناً أخرى! |
لذلك.. فإن صفة ((الإصرار)) قد اختلفت وتفاقمت، فأصبحت تعني التمرد، والعصيان، والخروج عن طاعة الوالدين، ثم الخروج عن العرف والتقاليد.. وتكبر أكثر لتكون في حالات متطوِّرة وفاجعة: خروجاً عن السلوك المنضبط! |
الآباء مشغولون بركضهم في مشوار الحياة، والماديات، والإثراء.. والقلة منهم بات يعاني من انشغال الأبناء أنفسهم بصرعات العصر، وبالنوافذ الجديدة التي تهب منها رياح متلاحقة. حتى الأب الذي التزم برعاية أبنائه وبناته، والإشراف على استذكارهم.. يكتشف في حصيلة العام الدراسي أن ابنه قد رسب في مادة أو اثنتين، برغم عنايته الفائقة ومتابعته لدراسته.. فالانشغال هو واقع عصري، ولكنه انشغال يتسم بالمبالغة، أو الضياع.. سواء في تفكير الأب، أو في تفكير الابن! |
والأمهات منشغلات بالعمل، أو الترف والأزياء، أو بالفقر وطموحات البشر، أو بغياب الأب عن البيت، والخوف من التحول عن استقرار الأسرة إلى عبث الفحولة! |
واضطربت الأفكار في ذهن ((إلهام)) بعد تكثف هذه الصور، وتداعي الأمثلة، والمواقف والمخاوف، وقالت لنفسها في حوارها الداخلي المتواصل: |
ـ والغريب.. أن هناك من الأزواج من ينجب أربعة وستة أطفال، وتصديرهم بعد ذلك لمدرسة الحياة، وللتجارب، وللصدمات المتلاحقة!؟ |
ـ ولكن... ما الذي يقلقها بالتحديد؟! |
في الشق الأول.. عرفت أن أسباب قلقها ترجع إلى هذا الملل الذي أخذ يصبغ حياتها الرتيبة.. فهي لا تبرح البيت، تؤدي وظيفتها كزوجة وكأم وكمديرة منزل، وإن تخلل ذلك بعض اللقاءات مع صديقاتها وأهلها.. ليكون الحديث ممعناً في الملل عن مواضيع معادة وسمجة.. مما يلاك في مجتمعات مغلقة، محددة بنظام لا يتغير! |
وفي الشق الآخر.. لم تكن تعرف أسباب توالد هذا الملل، وكيف تخرج عن طوقه وتجتازه!؟ |
البارحة.. فتحت النار على زوجها ((خالد)). كان يبدو على ملامح وجهه الاندهاش. سألها: |
ـ لماذا تتحدثين بحدَّة وبتوتر؟! |
ـ قالت: لا أعرف.. أشياء كثيرة بت لا أعرفها في حياتي. |
ـ سألها: ومن تلك الأشياء.. أريد أمثلة؟! |
ـ أجابت: أيضاً لا أعرف.. روتين قاتل رهيب. حتى وجهك أصبح روتيناً في أيامي. |
ـ قال غاضباً: ماذا تقصدين.. هل تودين أن تغيِّري وجهي، أو تغيِّري حياتك؟! |
ـ قالت: أيضاً لا أعرف.. أنت لا تتجدد، وأنا مثل المدجنة.. مثل دجاجة تجلس فوق بيضها حتى يفقس، ثم تراعي ما فقسته البيضة. أريد أن أشعر بآدميتي، بإنسانيتي. |
ـ قال: حسناً.. ماذا تريدين بالضبط؟! |
ـ قالت: أيضاً لا أعرف.. قد أريد أن أعمل.. يكون لي عمل، والتزام، ومسؤولية، وإنتاج، وإبداع، وابتكار. |
ـ قال: أنت تفعلين ذلك كله في بيتك ومع أولادك! |
ـ قالت وهي تصرخ: أنت متخلف. |
ـ قال ببرود مفتعل: شكراً.. ولكن، لماذا؟! |
ـ قالت: ليست وظيفتي أن أنجب لك الأطفال، وأطبخ، وأغسل فقط. أنا متعلمة، وكنت متفوقة في دراستي. أشعرني من فضلك بآدميتي. خذني من داخل هذا القمقم، واجعلني أنطلق.. |
ـ أعيش الحياة. |
ـ قال: حسناً.. وما هو العمل؟! |
ـ قالت: درست الديكور والرسم.. في إمكاني أن أفتتح مكتباً للديكور. |
ـ قال: هنا.. كيف؟! |
ـ قالت: نعم.. هنا. أما كيف؟.. فالمسألة ببساطة أن تستأجر شقة ونجعل منها مكتباً للديكور! |
ـ قال: أليست عندك فكرة أحسن؟! |
ـ قالت: فكر معي!.. طرحت فكرتي، فما هو البديل عندك؟ |
ـ قال: أنت متوترة الآن.. لنؤجل مناقشة هذا الموضوع إلى وقت آخر. |
ـ قالت: بل الآن.. إنني أختنق. |
ـ قال بحدة: ولكن ما تفكرين فيه جنون، أو على الأقل غير منطقي. |
ـ قالت: إذن.. عليك أن تتخلى عن مساعدتي. |
ـ قال: كيف؟!. |
ـ قالت: سأقترض من أبي مبلغاً، وأنفذ فكرتي. |
ـ قال: ولكن ذلك يتطلب موافقتي، وأنا غير موافق. |
ـ قالت: تريدني إذن خادمة في منزلك؟.. لقد سئمت هذا الركود والملل.. سئمت! |
ـ قال: افعلي ما تشائين.. ولكن، ليس في منزلي. |
في الصباح.. جمعت ملابسها في حقيبة واحدة، واصطحبت ابنها وابنتها، وذهبت إلى بيت أبيها! |
كان الأب والأم في حالة ذهول. لم تفهم أمها ما قالته ابنتها، بل ردَّت عليها تقول: |
ـ عمل إيه، ومكتب إيه يا بنتي؟ والله زوجك سُكَّرة وابن حلال ويحبك. |
ـ قالت: كل اللي قلتيه لا يكفي. |
ـ سألها والدها: وما هو الذي يكفيك؟ |
ـ قالت: أن أنفذ رغبتي. |
ـ قال والدها: حتى لو وافقتك على فكرتك، وساعدتك على الخروج عن طوع زوجك.. هل يقول الناس عني إنني عاقل.. هل أخدمك أم أجني عليك، وعلى طفليك؟! |
ـ قالت: سأنفذ رغبتي. |
ـ قالت أمها: تذكري يا بنتي حكاية الفستان اللي مزقتيه وانت طفلة؟.. ما في فايده منك! |
طلب منها والدها أن تهدأ الآن، وتفكِّر بهدوء مع نفسها، ولكل حادث حديث! |
ولكن ((إلهام)) لم تهدأ، وإن كانت قد غرقت طوال النهار في موجة حزن غامر. كانت تفكِّر حتى أحست أن رأسها سينفجر. كانت تسمع أسئلة ((فارس)) و ((عهد)) عن أبيهما: |
ـ بابا متى يجي علشان ياخدنا البيت؟! |
لا ترد عليهما. كفكفت دمعة حائرة بجبروت قاس منها لئلا تبكي. |
ولماذا تبكي وهي التي اختارت تفجير الموقف بهذه الحدَّة؟! |
لم تتناول طعام الغداء. لم تشعر بالهدوء في أعماقها.. ولكنها ظلَّت تدور في أرجاء البيت بشعور الحبيس المختنق. حتى بيت أهلها يبدو غريباً، ومملاً، وخانقاً! |
قالت لنفسها: ترى.. هل صعَّدت الموضوع أكثر مما يحتمل؟! |
لم تجد إجابة.. لأنها لا تريد أن تعترف لنفسها بأنها فعلت ذلك التصعيد! |
واستهواها منظر الغروب في نهاية النهار.. حين تكثف الشعور عندها بأن الوقت يملؤها، وهي عاجزة أن تملأ الوقت! |
كان قرص الشمس القاني الذى ينحدر بطيئاً ليسقط خلف البحر، هو التعبير الملاصق لحالتها النفسية، ولشتى الأسئلة، ولزحام القلق والحزن معاً في صدرها! |
تساءلت بعد مرور وقت طويل وهي في جلستها تلك: |
ـ ترى.. ألآ يأتي ((خالد)) ليعيدها إلى البيت؟! |
ليته يأتي.. فيحتضنها، ويكفكف دمعتها، ويحتويها لتنام! |
إنها تريد أن تنام.. بعد هذا التعب الشاق! |
* * * |
|