جيل إلكتروني |
وقف ((خالد)) بالقرب من مدخل غرفة ((الخادمة)) وقد هاله منظر ولده ((فارس)). |
كان ((فارس)) يضحك مع الخادمة، وهي تؤدي أمامه حركات ضاحكة، وتشاركه اللعب وهو يتقافز أمامها، ويشد لها شعرها تارة، وتارة أخرى يمتطي ظهرها وتمثل تحته حركة الحصان. |
ولم تكن هذه المشاهد تثير حنق والد ((فارس)).. فأطال التلصص، حتى رأى الخادمة تجلس ((فارس)) في حضنها، ثم تناولت كأساً مملوءاً منتصفه بالماء، وأشارت إلى الماء وقالت ل ((فارس)): |
ـ آير! |
وردد ((فارس)) وراءها نفس الكلمة باللغة الجاوية، ومعناها: الماء، ثم ضمت أصابع يدها وقربتها من شفتيها بحركة تدل على الأكل، وقالت له: |
-((ممكن))! |
وضحك ((فارس)) وأجابها باللغة العربية: |
ـ أنا شبعان، ما بدي آكل.. تعالي نلعب. |
انسحب ((خالد)) إلى غرفة المعيشة مع زوجته، دون أن يلحظه ابنه، ولا الخادمة، وما لبث ((فارس)) أن جاء إلى والده يركض ضاحكاً، وهو يقول: |
ـ مكن.. مكن.. عائشة تبغي تاكل! |
واحتواه والده في حضنه، وهو يقول له: |
ـ هي عائشة علَّمتك كلام بلغتها؟! |
ـ قال فارس: بابا.. قوم نروخ ال ((بَسَر))! |
ـ سأله: (بَسَر) إيه يا ابني؟ |
ـ أجابه: عائشة قالت لي بالإشارة.. بدها تروح ال ((بَسَر))، وكانت تشير بيدها إلى الباب! |
ـ قال خالد: بدها تروح السوق يا حبيبي.. بس إنت لا تردد كلامها.. إنت لازم تعلِّمها العربي، علشان هي جات من بلدها إلى هنا تتعلم العربي. |
ـ قال فارس: بابا... عائشة فتحت الراديو ووقفت ترقص، ومسكت إيدي وخلتني أرقص معاها! |
ـ عال.. قلبناها ديسكو.. شيء حلو! |
ـ قال فارس: يعني إيه ديسكو يا بابا؟ |
ـ يعني مكان الرقص. |
ـ تعالى يا بابا.. قوم. |
ـ نروح فين يا فارس؟ |
وسحب ((فارس)) والده من يده إلى ((الفيديو)).. وأخرج فيلماً من مجموعة كبيرة من الأفلام. كان يعرف الفيلم، ومكانه، وقال لوالده: |
ـ حط الفيلم. |
ـ فيلم إيه ده.. أشوف! |
ذهل ((خالد)) عندما قرأ اسم ((الفيلم))، واختلط ذهوله بضحكة زوجته، وهي تقول من آخر الغرفة: |
ـ جيل تليفزيونجي يا سيد! |
ـ قال: لأ.. أتخطى المرحلة دي ما شاء الله.. ده جيل إلكتروني، جيل كمبيوتر، يفهم بالتغذية السريعة. كفاية ((سندوتش)) رقص، ويرقص أحسن من ((ترافولتا))! |
ـ قالت إلهام: لازم اختار فيلم ((مايكل جاكسون))؟! |
التفت ((فارس)) نحو أمه في مكانها البعيد آخر الغرفة، وصرخ.. وطوَّح بقدميه في الهواء، وأخذ يرقص، ويردد كلمات أغنية مشهورة لمايكل جاكسون! |
استغرق ((خالد)) في ذهوله، وارتمى فوق أرض الغرفة ضاحكاً، ثم اتكأ على ذراعه، وهو يتأمل ((فارس)) في رقصة المتر الواحد. |
ولم ينتظر ((فارس)) أن يلملم والده نفسه، فتناول الفيلم، ووضعه في جهاز الفيديو، وظهرت صورة ((مايكل جاكسون)) وارتفع صوته.. بينما وقف ((فارس)) في وسط الغرفة يقلد الرقصة، ويشد والده من يده ليقف ويشاركه الرقص، ولما يئس من والده.. جرى نحو أمه، وأخذ يشدها بقوته المحدودة لترقص معه! |
وما زال ((خالد)) في ذهوله الذي تضاعف وهو يرى زوجته تجاري ابنهما وتقف، وتشاركه نفس الرقصة التي يعرضها الفيلم. |
ـ قال لزوجته: ما شاء الله.. ولا ((أوليفيا نيوتن)) مع ترافولتا؟! |
ـ قالت وهي مستمرة مع ابنها: ترافولتا مين يا سيد.. الموضة الآن هو ((مايكل))! |
ـ قال: وليه ما عمري شفتك ترقصي قدامي، والا معايا..ها؟ |
ـ قالت: أنكسف |
ـ قال ضاحكا: تنكسفي؟.. ما هو باين! |
انتهت الرقصة.. فسقطت ((إلهام)) بجانب زوجها تلهث، وهي تضحك قائلة: |
ـ تصور.. ما عندي حيل بعد ما حملت مرتين؟ |
ـ قال خالد: لأ؟.. عيني عليكي باردة.. ما تروحي تصحّي ((عهد)) وتجيبيها ترقص؟ |
ـ قالت: وي.. أنت اتجننت.. دي ما تقدرش تمشي حتى الآن! |
ـ قال: يمكن لما تشوف المستر ((مايكل)) تنفخ الموسيقى في سيقانها وتمشي وترقص، ما هو جيل كمبيوتري! |
وجرى ((فارس)) إلى الفيديو، وأعاد الفيلم من بدايته، ليعيد الرقصة نفسها.. ووالده يتطلع إليه مندهشاً، والتفت إلى زوجته متسائلاً: |
ـ بدي أعرف.. متى اتعلم ((فارس)) يشغِّل الفيديو، ويعيد الفيلم؟! |
ـ قالت إلهام: أنا إيه عرفني.. تلاقيه شاف واحد مننا. |
وشرد ((خالد)) بأفكاره لعدة دقائق، وهو يحدق في وجه زوجته ثم استوى في جلسته، وسألها: |
ـ إلهام.. جاوبيني بصراحة! |
ـ قالت: باسم الله عليك، كأنك تنوي التحقيق معايا؟ |
ـ قال: ريِّحيني.. إنت بتخرجي وبتتركي الولد مع الخادمة.. مضبوط؟ |
ـ قالت: مضبوط.. إنما ما هو دائماً، يمكن لما أروح عند الجيران. |
ـ قال: فعلاً.. لما تروحي عند الجيران، تتركي ((فارس)) مع الخادمة، ولما ما تلاقي الخادمة أحد معاها في البيت إلاَّ ((فارس)) تفتح الفيديو.. محتمل، ها؟ |
ـ قالت: محتمل.. لكن كيف تجرؤ ((عائشة)) على فتح الفيديو؟! |
ـ قال: أنت ما لاحظتي أنها كانت ترقص مع ((فارس)) لما شفناهم في الغرفة؟ |
ـ قالت: لاحظت.. لكن، تلاقي عائشة متعلمة من بلدها.. ما هي بنت شابة، وهذا رأيي من يوم ما شفتها، وحضرتك زعلت يومها! |
ـ قال: ما هو هذا الموضوع.. لا توجهي البوصلة إلى ناحية تانية. الخادمة علَّمت ((فارس)) كيف يفتح الفيديو، وعلمته على الرقص.. دا بيرقص زي ((جاكسون)) بالضبط، وهو حتى الآن ما طلع من البيضة يا هانم.. شايفة إهمالك عمل إيه؟! |
ـ قالت: الله.. رميت المشكلة كلها على كتفي؟.. ما هي كل البيوت فيها. خادمات وأطفال وفيديو؟! |
ـ قال: صحيح.. ومين اللي قال إننا وحدنا نعاني من هذه الظاهرة؟! |
ـ قالت: طيب.. بيع الفيديو، وحط ((عائشة)) في طائرة، ورجِّعها إلى أهلها، وخلاص.. تتحل المشكلة! |
ـ قال: بتسخري يا مدام؟! |
ـ قالت: ما بأسخر.. الحلول ما تجي بالانفعال، أو الغضب!! |
ـ قال: تجي كيف.. إذا كانت الأم تترك طفلها للخادمة توجهه حسب ما تريد. |
ـ قالت: رجعنا للغلط.. ما هو معقول أسمّر نفسي قدام ((فارس)) طول الوقت! |
وارتفع صوتا ((خالد)) و((إلهام)).. كل منهما يلقي اللوم على الآخر، وكل منهما يحمل الآخر مسؤولية التوجيه، وامتد النقاش الساخن بينهما إلى أساليب التربية، وواجبات الأم والأب! |
التفت ((خالد)) بعد دقائق بعصبية يبحث عن ((فارس))، فاكتشف غيابه عن الغرفة.. وشد انتباهه أكثر ذلك المنظر القادم إليه من غرفة النوم! |
فقد رأى ((عهد)) تطل برأسها من باب غرفة النوم، ثم تحبو على ركبتيها. ويديها. وهي تهز رأسها يميناً وشمالاً! |
قال خالد إلهام شوفي بنتك بتعمل إيه؟! |
التفتت ))إلهام)) نحو ابنتها وأطلقت ضحكة عالية بعد ذلك الصراخ والخناق. |
ـ قال خالد: بتضحكي على إيه.. عاجبك منظرها؟! |
ـ قالت إلهام: أنا عارفة؟.. يمكن بترقص وهي في مرحلة الحبو.. |
كل شيء ممكن يا خلدون! |
ـ قال خالد: بترقص براسها؟ حلو.. شيء جميل، كملت، نفتح البيت ديسكو! |
اقتربت ابنتهما ((عهد)) من أمها، واستقرَّت في حضنها، ثم رفعت يديها وأخذت تصفق، وهي تضحك! |
تطلع ((خالد)) إلى زوجته. أطال التحديق فيها. قالت له: |
ـ إيه.. دي كمان الخادمة علَّمتها؟! |
ـ قال خالد: لأ.. لسة بدري، إنما يعني افتكري كده، يمكن...... |
ـ قاطعته إلهام: خالد.. فوق لما تتكلم، بلاش تلبِّخ.. أنا عارفتك! |
جذبها ((خالد)) من يدها لتمشي معه، وهي تمانع، متسائلة: |
ـ على فين.. راح تضربني يعني؟.. احنا الاتنين مشتركين في مسؤولية التربية، بعدين، دي طفلة، بتقلد! |
ـ قال: ما هو أنا عارف إنها بتقلد.. أنا بدي أشوف الأصل في غرفة مقفلة! |
دخل ((فارس)) وهما يتجادلان، ونظر إليهما، ثم قال: |
ـ ما خلصت الخناقة؟.. عيب يا كبار.. تعالوا نرقص! |
* * * |
|