سطر...بدفء شجن! |
(1) |
● ذلك المساء لم يكن عادياً... في أعماقه حشد من الشجون، والأصداء.. |
على حفافي نفسه تتناثر تلك الأسئلة التي تكثفت في داخله.. منذ أوغلت الشجون بين الضلوع! |
لكن الأسئلة كانت تتكرر.. تثور بعد أن تهدأ! |
حين يدعي الإنسان تطيب جروحه.. يكتشف أنه لا يحيا بدون جراح. |
الجراح.. ذكريات الإنسان، وشجوه، وأصداؤه، وأحياناً، هي طموحاته. |
وها هي الجراح.. قد أصبحت عقولنا! |
ذلك المساء.. لم يكن بارداً، ولا باهتاً.. |
الليل من حوله يضج بالأصوات المنبعثة من البعيد.. |
كان يعاني من الشجن.. كأنه مسدس كاتم للصوت، وأطلقه كرصاص من خارج صدره إلى تخيله، وتأملاته.. لعله يرتاح! |
أن تتحول أشجاننا إلى رصاصة تقتلنا.. ذلك هو السقوط في الحطام. |
لعله الآن - كنتيجة - يفتش عن شجن جديد.. يضعه مكان الشجن القتيل، والقاتل! |
ابتسم بمرارة وسخرية.. إنه "يهوجس" فيحادث نفسه: |
ـ الطب الحديث نجح في استبدال القلوب وأعضاء الجسم.. بينما الإنسان الحديث أيضاً، نجح - بالمقابل - في استبدال العواطف، وتولى قتل كل ذلك.. إما بأسئلته التي لا يجد لها أجوبة، وإما بتقبله لأجوبة لم يطرح من أجلها أي سؤال! |
(2) |
ترى.. هل يمكن أن يحل شجن بديلاً عن شجن، أو في مكانه؟! |
يشعر الآن أن الصور الجميلة في عينيه تضطرب، وإحساسه يتموه ما بين الكذب والصدق.. ما بين الحقيقة والزيف.. ما بين الأصل والتقليد! |
آلمه كثيراً هذا السؤال المسدد إليه من نفسه كرمح: |
ـ لماذا تضطرب الصور الجميلة، أو التي كنا نحسبها لا أجمل منها ولا أنضر؟! |
ألقى برأسه العاصف بالأسئلة على ظهر المقعد.. إنه لم يعد يدري هل يبكي، أم يقهقه؟! |
زوجته قالت له في الصباح، أمام طعام الإفطار: |
ـ لقد تغيرت كثيراً! |
ـ سألها: إلى الأسوأ، أم إلى الأحسن؟! |
ـ أجابت: أنت تفكر في امرأة أخرى غيري! |
ترى.. هل يضحك، أم يبكي أمام هذه النتيجة التي رمته بها زوجته؟! |
هل تغير بالفعل؟! |
لابد.. أن الرجل لا تغيره امرأة، ولكن.. يغيره الإحساس، والنضج، وتعامل المرأة معه! |
ابنه الأكبر أمضى عدة أيام، وعلى وجهه مسحة من الاكتئاب! |
ـ سأل ابنه: هل تعاني من مشكلة؟! |
ـ ابتسم الابن الرجل، وقال: بل لعلني أتشكل بالمعاناة.. دعني أكبر لوحدي! |
(3) |
عاد المساء إليه مرة أخرى، وفي أعطافه أصداء الحوارات! |
ـ همس لنفسه: هناك مشكلة بلا شك أعاني منها، وهناك مشكلة تتضخم في رؤية زوجتي محدودة في ذلك الذي أسمته "التغيير".. وهناك مشكلة تتبلور في تجربة ابني، ويدور حولها! |
لكن المشكلة لا تكمن في رؤيتنا للملموس، عندما نحدده بالرؤية، أو عندما نصد عنه بعد اكتشافه.. لكن المشكلة: أن الصور الجميلة تضطرب في حواسنا ونفوسنا، وفي انطباعاتنا التي نكتسبها من الاكتشاف.. لحظتها تنهشنا الأسئلة المدببة، وسوء الظن، وافتقاد الثقة، فإذا الصور المحددة بحجمها تتضخم وتتشوه، ويسود القبح.. ليطغى على كل الصور والملامح الجميلة التي كانت تحيا في حواسنا: خيالاً، وحلماً، وقناعة! |
رئيسه في العمل.. قال له قبل انتهاء وقت العمل: |
ـ لقد أرهقتنا بحساسيتك. لابد أن تتعامل مع الأشياء، ومع الناس، ومع الحياة بوقاحة، أو بواقعية تصل إلى درجة الوقاحة! |
ابتسم بتلك السخرية المريرة. أغمض عينيه، لعله يتخيل صورة أجمل، أو ملامح تريحه. |
ـ الإنسان في الاكتشاف الفاجع له.. يبدو سجيناً ومرهوناً في الحزن، أمام تعديات العقاب الذي يجمره! |
ولكن.. حتى هذا الإسقاط، أو هذه المواجهة بالفاجعة، أو مع التفاهة.. يكون من الصعب عليه أن يستبدل شجناً مكان شجن، أو أن يطلق الرصاص على شعور ما، ويضع مكانه شعوراً آخر! |
هنا في صدره آثار دماء نزفت، وآثار جراح لم تندمل، ولكن العذاب.. العذاب: أن يضطرب ما تبقى من الصور الجميلة في الحس! |
لحظتها.. كيف يحيا حس إنسان بصور مضطربة، أو مخلخلة غير ثابتة؟ |
ذلك هو: رفض التخيل، أو صعوبة تجسيد الاعتياد! |
(4) |
ها هو يعترف الآن - في توغل الشجن - أن الأمسيات تدخل قلبه كغيمة، ولا تخرج منه. ذلك هو عذاب الصدى! |
الصدى يعتاده من خلال صوت "أنثى" كانت تحاوره ذات يوم لتكتشفه وتصل إلى معرفة الإنسان في أعماقه! |
وكان يحاورها ليتأملها، فتكون معرفته لوجهها من خلال رؤية أفكارها، وعبر ثواني صمتها: |
ـ قال لها: لا بد أنك طبيبة نفسانية! |
ـ قالت: ولماذا؟.. ليس شرطاً ما تعتقده. |
ـ قال: فأنت إذن طبيبة باطنية؟! |
ـ قالت: أنا لست مراوغة! |
ـ قال: وما الرابط هنا بين المراوغة وسؤالي؟! |
ـ قالت: الطبيب الباطني مراوغ، أو لعله متأن بطيء! |
ـ قال: وأنت أيتها الزهرة البرية؟! |
ـ قالت: أنا جراحة.. والطبيب الجراح حاسم دائماً! |
ـ قال: فكيف تقدرين أن تحسمي موسم الثلج في صدري؟! |
ـ قالت: أشق صدرك. أدميه، فأذيب عنه الثلج المتراكم.. ليسري الدفء فيه. |
ـ قال: وبعد ذلك؟! |
ـ قالت: سأشتاق إليك. |
ـ قال: وما الذي ستفعلينه كلما تضاعف اشتياقك؟! |
ـ قالت: لابد أن أطمئن على صدرك.. خوفاً من عودة الجليد إليه! |
ـ قال: والأنثى لا تقتنع لمرة واحدة.. فلا بد لك أن تشقي صدري في كل مرة تشتاقين فيها إليّ! ولكن.. ما الذي يكمن في صدرك أنت؟! |
ـ قالت: زهرة برية.. لا تغطيها الثلوج! |
ـ قال: ولكنكم في الطب.. ابتكرتم القلوب الصناعية؟! |
ـ قالت: هذه فقط.. للصدور التي تراكم فيها الجليد! |
ـ قال: ليس شرطاً.. فبعض القلوب أصابه التلف من شدة الحرارة، أو الدفء! |
ـ قالت: فاعلم أن الزهرة البرية ليست من الشمع ولا من البلاستيك! |
ـ قال: زهرة حاسمة، تقصدين؟.. |
وأكاد أرى حسمها هذا في نبرة صوتك! |
ـ قالت: فماذا قلت؟! |
ـ قال: أنا مستعد لإجراء الجراحة! |
(5) |
استلقى أخيراً.. كأنه يدخل في غيبوبة ما بعد الجراحة. |
كان يشعر بدفء الشجن يسري في كل أضلعه! |
لم تعد هناك جراح في صدره، ولا في قلبه.. ولكن كل الجراح أصبحت في عقله!! |
|