شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حيث تموت الحيَاة.. مِن جَديد!
في الطابق الثاني من المستشفى الكبير، تسللت حزم ضوء مبعثرة من نافذة أسدلت على جوانبها ستارة بيضاء، وقد أوغل الليل في لجة سكون عميق.
وبدت أضواء كهرباء الفلورسن خافتة، تتسكع على الأرصفة التي انتشرت في زوايا ظلمة، أحالت هذا الشارع الممتد في مدينة جدة إلى مستشفى آخر فرض فيه السكون، وخنقت الضوضاء.
تدلت عنق سعيد من الطابق الثاني، وهو يبحث بنظراته القلقة الضائعة عن معنى للحياة، أو صورة لبشر، أو هيكل لآدمي ليشعر بوجوده. لكنه كان دائماً لا يسمع غير أصوات أبواق السيارات بين الحين والآخر، وهدير عجلاتها على الأسفلت المتكسر يعلو ثم يتلاشى.
وأطلق زفرة من صدره، ثم عاد وأطلق نظراته الضائعة، لتضيع مرة أخرى في هذا الهدوء المخيم، ووضع مرفقيه على حافة النافذة، وألقى برأسه فوق يديه. وهمس لنفسه يقول بحرد وتأفف:
ـ ما هذا؟.. حياة.. دنيا.. بشر يتحركون، ويفكرون، وينتجون، ويبدعون؟!.. كلا.. إن الحياة التي أراها.. تطالعني كل يوم.. كأنني أشاهد فيلماً سينمائياً لا تتغير قصته، ولا ينوع حواره.. أين هو المجتمع الذي يحفزني على المطالعة، لأبني فكراً في داخل دماغي؟!.. لا أجد ذلك المجتمع، لا أجد الناس، هؤلاء الناس مثل هذه اللمبات الكهربائية المنتشرة بانتظام على طول الشارع، تضيء في وقت واحد، ويضعف تيارها في لحظة واحدة، ثم يموت فيها الضوء في غمضة واحدة، إيه.. دعني أَعمل الخير أحسن.. لأذهب إلى داخل الغرفة لأرى هذا الصديق المريض.. كيف حالته الآن..
وعادت الستارة البيضاء إلى وضعها السابق على فتحة النافذة.
ونظر سعيد إلى وجه صديقه وإلى جسده المسجى أمامه على السرير، ولم يجد شيئاً جديداً.
وجه مصفر من أثر الخوف الذي عاناه صديقه عند بدء إجراء عملية الزائدة له، وجسد خدره البنج فلم يعد يتحرك منه، وليس في داخله، سوى نبض يتلاحق وفي رتابة عجيبة!
واتجه، بعد هذه النظرة السريعة، إلى السرير الثاني المعد لمرافق المريض، وقد ألقي في ركن الغرفة الأخرى، وامتدت يده تثبت وضع الأباجورة الصغيرة، وتحصر ضوءها على صفحات الكتاب المنبسط بين يديه. واستدار بوجهه ثانية، يحدث النظر في الجسد الذي أرغمه صاحبه على أن يقضي ليلته هذه.. على صورة ساكنة.
إن سعيداً لم يكن سوى صديق وفي، جاء إلى هذه الغرفة في المستشفى ليكون بجانب صديقه، يخفف آلامه ويصغي إلى مطالبه، ويرقب حركاته فوق السرير.
لا يهم، إن والد صديقه سيحتل هذا السرير في الليلة القادمة، وقد أدى واجبه، وتركزت نظراته تنبش في سطور الكتاب الذي بين يديه، ولم يعد يشعر بشيء حوله، فقد مضى به فكره، وإحساسه بعيداً مع المعاني التي يقرؤها، وكاد في هذه اللحظة أن يجد نفسه، ويبصر واقعاً حياً يحوطه ليعطيه كل إنسانيته، لكنه فوجئ بالممرضة المناوبة تدخل إلى الغرفة، وقد وضعت في عينيها الواسعتين ذرات من الغضب، واحتقن وجهها بكدمات أوجدتها أعصابها المتوترة وتعلقت نظراته في وجهها الغاضب فهو لا يعرف ماذا أصاب هذه المرأة؟!
ولم تتركه يفكر في المهمة التي دفعتها للحضور في هذا الوقت، حوالى منتصف الليل، فقد اقتربت من سريره، وضغطت بأحد أصابع يدها الرقيقة التي طليت أظافرها (بالمانكير) على أزرار الأباجورة المضيئة، وأحالت الغرفة إلى ظلام تختلط به أشعة ضوء خافتة من لمبة صغيرة مدلاة في الحجرة! وفغر فاه من الدهشة، إذ لا يمكن أن يعيد هذا التصرف إلى ممرضة رقيقة تنتمي إلى فصيلة الناس! ولم يحتمل تصرفها، خصوصاً أنها أوشكت على مغادرة الغرفة بدون أن تتكلم..
وقذف الغطاء الذي دثر به رجليه بعيداً عن السرير، وقام يعدو خلفها نحو الباب وحدق في وجهها وقد شعر أن الاحتقان انتقل إلى معالم وجهه هو.. حدق فيها بغضب ثم قال:
ـ ما هذا التصرف، ألست إنساناً يمتلئ بجسدي هذا السرير؟.. ألا يمكن لك أن تستأذني قبل أن تتطاول يدك وتطفئ ضوء الأباجورة وأنت ترين الكتاب في يدي؟.. إيه إحنا في زريبة؟
ووضعت يديها في وسطها، وزاد تحديقها في عينيه، ثم تكلمت تقول:
ـ اسمع يا أستاذ.. كلمات جارحة لا يمكن أن أقبلها! إن المريض في حاجة إلى هدوء، والضوء يزعجه!
ـ ولماذا لم تستأذني؟.. إن تصرفك وقح!
ـ كلمة واحدة يا أستاذ.. يجب أن تطفئ النور!
ـ وأنا أصر.. يجب أن أضيء الأباجور حتى انتهي من قراءتي!
ـ وأنا لن أمكنك من ذلك لأنني سأعود، وأطفئه!
ـ وأنا لن أبقى في هذه الغرفة، إلا إذا كانت الأباجورة مضاءة، وإلا فإنني مضطر لترك المستشفى، والتخلي عن مسؤولية البقاء بجانب صديقي..
ـ ذلك شأنك أنت أيها السيد!
ـ ومن شأنك أنت أيتها السيدة أن تضعي مقعداً بجانب سرير هذا المريض وتسهري على راحته حتى الصباح، فهو ما زال يسدر في غيبوبة البنج، أما إذا حدثت له مضاعفات خطيرة فستقع المسؤولية كلها على رأسك! و...
ـ اسمع، أولاً أنا لست سيدة، فيجب أن تتهذب في ألفاظك!
ـ آه.. سيدة.. آنسة كله واحد.. هكذا أرى على وجهك!
ـ وقح؟
ـ وأنت قليلة أدب!
وأدار ظهره نحوها، وعاد إلى سريره، وامتدت يده تضيء ثانية، وبحركة عصبية، أضاء الأباجورة، والتقط الكتاب الملقى على السرير، وتهيأ للقراءة من جديد.. وهو يختلس النظرات من باب الغرفة!
ورآها تخطو هذه المرة نحوه بخطوات رشيقة، كأنها ترقص الباليه، واقتربت من حافة سريره وهو لا يشعر بوجودها عنده، وأمسكت بيده تربت عليها هذه المرة وتقول:
ـ اسمع. العناد لن يفيد. أرجوك أن تفهم. هذا النور يسبب إزعاجاً للمريض..
وتراخت يداه بالكتاب ونظر إليها في استعلاء.
ـ أرجوك؟ تقولينها الآن، ومع هذا لن أتنازل عن القراءة مهما كان! وقذفت بجسدها على حافة سريره، وجلست والتقطت من يده الكتاب ثم أخذت تقلبه وهي تواصل حديثها إليه:
ـ يبدو أنك تحب القراءة كثيراً؟
ـ وأنت مالك.. ليس هذا شغلك.. إن مهمتك أن تسخني الحقن لتجهزيها للمختص بإعطائها للمريض.
وكاد يرى على وجهها عودة الاحتقان، وهي تنشب نظراتها في وجهه وعلى حفافي شفتيه، لكنها أجابته:
ـ إنني أقرأ بوعي وإدراك، أحسن منك وخريجة جامعة وممرضة من الدرجة الأولى.. أما أنت..
ـ أنا لا أكذب كثيراً و (من الدرجة الأولى) فما زلت في المرحلة الجامعية، في سنواتها النهائية، غير أنني أقرأ أحسن منك وأتحدى فهمك المزعوم!
ـ أنت اسمك إيه؟
ـ ها.. ها.. اسمي فاهم.
ـ طيب.. قم يا أستاذ (فاهم) وتعال لأضعك في غرفة خالية هادئة، تساعدك على الفهم الكثير، وتمكنك من إضاءة النور، وسأتولى أنا مراقبة حالة مريضك!
ـ لا.. لن أتحرك من هذا السرير!
ـ لا تكن عنيداً.. هيا.
ودفعتها خطواتها نحو الباب، وشعر أنه قد أطبق الكتاب، ووضعه تحت إبطه وحمل سجائره وسار خلفها! إلى أين؟ لا يدري!
ودلفت به إلى غرفة مجاورة ليس فيها غير سرير واحد وبضعة أرفف، ودواليب رصَّت عليها أدوية مختلفة.. وعرف أنها غرفة الممرضة المناوبة واقترب منها يقول:
ـ لكنك لست ممرضة مناوبة.. أين تستريحين أنت؟!
ـ أفهم ذلك، لكني لن أستريح، لأن مهمتي تقتضي مني أن أتجول طوال الليل باستمرار على غرف المرضى لملاحظتهم وأنت لن تنام هنا، إنك ستقرأ حتى تتعب، ثم تعود إلى سريرك لتنام!
وتركته يتهيأ للاستلقاء على السرير، في الوضع الذي يتمكن فيه من القراءة، وانتقلت إلى أرفف ودواليب الأدوية تبحث فيها عمّا تريده. وهدأت ثائرته..
ووجد تفكيره يتجمد عن متابعة فصول الكتاب، فقد كان يتطلع إليها - هذه المرة - وفي داخله علامات تعجب واستفهام. كانت تقف أمام الصيدلية الصغيرة تلك، بثيابها البيضاء وطاقية الممرضات المنشاة، قسمات وجهها رقيقة، صغيرة، وبشرتها سمراء مشربة بحمرة، في عينيها سواد داكن في عمق هذا الليل، في فمها (زمة) تعبر عن الصرامة الموجودة في كل العالم على الإطلاق، وعندما ابتسمت له وهي تسأله عن اسمه أصابته الدهشة إذ لم يكن يعتقد أن هذه الشفاه المقلوبة قد ابتسمت قبل الآن، وهمس في نفسه:
ـ ليتها لا تجد الدواء الذي تطلبه بسرعة.
لكنها التقطت زجاجة صغيرة وفاجأته بنظراتها وهو ما زال (سارحاً) يتطلع إليها بذهول وسألته وهي تدفع خطواتها إلى خارج الغرفة:
ـ إيه.. مالك.. عايز حاجة؟
ـ شكراً.. إنني سأقرأ!
كنت أظن أنك انتهيت من قراءة عشر صفحات.
وتركته وحيداً. كان يفكر في طريقتها في الحياة ويتساءل:
ـ لماذا تبدو للناس عنيفة، شرسة، متنمرة، مع أن طبيعتها الرقة، والحنان؟!.. كيف تبدو شرسة، وهذه الرائحة التي استنشق فيها المرأة الزاخرة بالحب والعاطفة؟ ولكن.. لماذا اختطت لنفسها هذه الطريقة، في معاملة الناس؟ يجب أن أسألها، غير أنه لم يستطع أن يستمر، وأقفل الكتاب واتجه نحو غرفته، وهو يقاوم النوم الذي أثقل جفون عينيه.
* * *
ومرت نصف ساعة، صرفتها في ملاحظة المرضى، وتلبية رغباتهم، وعادت إلى الغرفة لترى ذلك المريض الصحيح! لقد كانت تفكر مع طرقات خطواتها على ممرات المستشفى في هذا الرجل الذي حاول أن يذلها الليلة وهي التي تمردت على شخصية كثير من الرجال وطوعتهم لرغباتها. أما هذا، فإنه غريب، يختلف كثيراً. هل تقول إنه حاول إذلالها؟!.. كلا... لقد أذلها فعلاً عندما أرغمها أن تربت على يديه، وتسترضيه لكي يترك مريضه للراحة، وينتقل إلى حجرتها ليتابع قراءته، لكنه هددها بعظم المسؤولية عليها إذا خرج من المستشفى، وترك المريض وحده. وماذا يحدث لو خرج، وألزمها بالمسؤولية نحو المريض؟.. لا شيء! إنها أذلت.. هذا أكيد لا يحتاج إلى نقاش وهو قد أذلها.. وكان في تلك الأثناء رائعاً. رجلاً يؤمن بنفسه، وبوجوده مثلما كانت هي أيضاً عظيمة عندما أخرجته من هدوئه، وطبيعته، ومع هذا فإن حديثه حلو، يدل على ثقافة، ومعرفة وهي تميل كثيراً إلى الشاب الذي يحدثها بذكاء، ويخلق في الجو حواراً ينسيها الوقت فيما.. تقوله، وتفعله. وهل فعلت ما يرضيها مع هذا الشاب؟
لقد شتمته، وشتمها، ثم عقدا صداقة، وإلفاً.. وضبطته وهو يفحصها في أوله.. هكذا خيل إليها لحظة وقوفها أمام الصيدلية الصغيرة.
وهو كان وسيماً.. أعجبها كثيراً عندما انتشرت أمارات الغضب على وجهه واستمرت في إغضابه حتى ترضي في نفسها هذا الإعجاب بشكله وهو حانق. لكم تمنت أن تثير غضبه من جديد عندما أقنعته بالانتقال إلى غرفة (الممرضة المناوبة) لكنها.. لكنها ماذا؟!
أف.. هذا الليل ميت بلا حوار يعطي الحياة متعة من شفتين تتحدثان، ومن نظرات تفحص، وترى. إنه ميت بلا ضجيج.. كذلك الذي انتهى قبل ساعتين في غرفة الأستاذ فاهم!
أوه.. إنني لم أعرف اسمه الحقيقي بعد. وأسرعت الخطى نحوه، ودلفت من باب غرفة (الممرضة المناوبة) وفوجئت بخلو السرير من الإنسان العجيب. لقد ذهب لينام وبالتأكيد وليطفئ ضوء الأباجورة أيضاً. وقفلت عائدة إلى غرفته. ورأته يغط في نومه، فوقفت عند حافة السرير تتطلع إليه:
يا له من مكابر عنيد. إنه لم يقرأ كثيراً إلى الدرجة التي دفعته لتلك الثورة، والعناد؟!
وسقطت قطع من ظلال الليل على وجهه.. في اللحظة التي سقطت فيها قطع أخرى من تأملاتها على وجهه أيضاً وهمست:
ـ ليتك تثور الآن. ليتك تحلم بخناقة. لتغضب قسماتك.. ثم تضحك بعد ذلك!
وسحبت الغطاء على جسده وألقت نظرة على صديقه المريض، وخرجت.. ولم تذق النوم.
وجاء الطبيب في الصباح، يحدق في عينيها المصبغتين بالاحمرار، وسألها:
ـ يبدو أن التعب أصاب مرضى كثيرين ليلة البارحة، فلم تتمكني من النوم!
ـ ذلك هو الواقع يا دكتور!
وصعدت إلى الطابق الثالث حيث سكن الممرضات، وألقت برأسها على الوسادة، ثم لم تعد تدري ما حولها!
وأفاق سعيد من نومه في صباح اليوم الثاني على صوت صديقه يطلب ماء، وأسرع يعدو إلى ممرات المستشفى بحثاً عنها، عن الماء، عن الطبيب. واصطدم بوجه آخر لم يره. ممرضة أخذت مجلس صديقته في ليلة البارحة. وطلب منها الماء ورؤية المريض، وكاد يسألها عن حلم الليلة الماضية فلم يرق له إفشاء أسرار الليل وأضواء القمر ووصوصة النجوم.. ذلك من حقها هي.. ومن حقه هو فقط!..
وانفرج باب الغرفة، وفوجئ بوالد صديقه يدخل في لهفة وجزع، يريد أن يطمئن على ابنه.. ومرت لحظات.
ومر اليوم بكامله وسعيد في انتظار الظلام ليحتضن الليل بكل المعاني التي يحملها. وحدثت الكارثة له.
إن والد صديقه سينام هذه الليلة عند ابنه، والمستشفى لا يقبل سوى مرافق واحد!
و.. هي.. تلك التي لم يعرف اسمها بعد؟!
وبذل محاولاته مع والد صديقه دون أن يظفر بنتيجة تعيد إليه الأمل. وارتدى ملابسه الخارجية، وأخرج ورقة صغيرة ملأها بسطور أتعبته كثيراً وهو يكتبها وسلمها لصديقه.
ودفع بجسده إلى ممرات المستشفى وهو يرى الابتسامة التي ارتسمت على وجه صديقه عندما سلمه الورقة الصغيرة..
وغاب في جوف سيارة أجرة.. في زحام السيارات المكتظة بها الشوارع.
* * *
وجاءت الساعة الثالثة ليلاً.. ومع دقات ثوانيها كانت خطواتها تحدث صوتاً على أرض الغرفة التي يرقد فيها صديق سعيد.. إنها قادمة لترى حالة المريض، لتؤدي وظيفتها ككل ليلة.
.. والأستاذ (فاهم)، ولكن أين الأستاذ (فاهم).. غير معقول.. هل تحول في ليلة واحدة إلى رجل أشيب هرم؟.. الحب لا يعطي هذا المفعول بهذه السرعة؟!
أين هو إذن؟!
وأرادت أن تسأل.. لكنها لاحظت إشارة صديق سعيد، وخرجت، ثم عادت تحمل في يدها الحقنة اليومية للمريض. واقتربت منه كثيراً تسأله بعينيها عن صديقه.. ولم تتكلم!
ولاحظ حيرتها وكبرياءها أيضاً عندما أصرت على عدم السؤال عنه!
وسألها: ألا تسألينني عن سعيد؟
فأجابت: وما شأني به. لقد كان مرافقك أمس واليوم مرافقك والدك!!
ـ هكذا.. وماذا حدث ليلة البارحة؟
ـ ماذا حدث.. هل قص عليك.. لقد شتمني، وشتمته!
ـ ثم؟
ـ أين ذهب الليلة؟
ـ لقد انتهت مهمته بعد أن حضر والدي.
ـ ولماذا حضر والدك؟
ـ ماذا؟
ـ عفواً.. أقصد.. قال لي صديقك أن والدك يقطن مكة.
ـ لقد جاء من مكة وذهب سعيد و.. خلَّف لك هذه الورقة!
ـ ورقة.. دعني أرها. واختطفت من يده الورقة الصغيرة، وعادت إلى الخارج، واسم سعيد يدوي في أذنيها.. فهذا اسمه.. سعيد.. سعيد!!
ووضعت مرفقيها على حافة النافذة، ويداها تمسكان بالورقة الصغيرة، وعيناها تتابعان سطورها القليلة..
((عزيزتي.. لا أعرف اسمها:
لقد كنت قبل أن أتشاجر معك، أقف أمام نافذة هذه الغرفة التي سيهنأ صديقي بالبقاء فيها أياماً قصيرة، وكنت أحدق في ظلال الضوء الباهت المنتشرة في عرض الشارع وطوله، وأشهد لحظتها الحياة وهي تموت، كما أحس بها تموت في داخلي، في إحساسي كل يوم، كل ليلة، إذ لم يكن في هذه الحياة أي جديد يحيل، ويطور، ويدفعنا للتفكير والابتكار، والإبداع.. ثم حدث الفصل السخيف بيني وبينك!
سخيف؟.. هل قلت هذا؟ كلا، إنه فصل حلو. كان هو السبب الذي جعلني أرى الحياة، الحركة، الشرايين التي تجري فيها الدماء بعنف، وكرهت وقفتي التي كانت أمام النافذة قبل المشاجرة معك، كرهت كل الماضي، وأحببت رائحة الغرفة الصغيرة التي جلست أقرأ فيها، أقرأ الحياة خاطفة، أنا متأكد من ترمد وهجها..
إن الورقة صغيرة، ولن أطيل.. إني أودعك. وأنا سعيد اسمي الذي لم تعرفيه، وسعيد لأنني استطعت أن أستشرف بنفسي حياة بهيجة لم أستطع أن أراها بنظراتي فرأيتها بأعصابي وأعصابك.
ولا تبحثي عني.. فأنا عائد من جديد.
وسقطت الورقة من يدها.. وسقطت نظراتها من حافة النافذة إلى أرض الشارع.. إلى حيث تموت الحياة.. من جديد!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :972  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.