شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قشور الرمَّان
بدوية من وادي ((ليه)).. خطرت أمام عينيه الضيقتين على ما فيهما من اتساع مدى، وغور.. واختلطت في أثرها كل الرؤى، وتلوّن البساط الأخضر الممتد أمامه، وغامت السماء الزرقاء الصافية اللانهائية، وأعشيت نظرته.. في اللحظة التي شعر فيها بغيث يسقي جفاف نفسه القاحلة!
ماذا دهاه؟
هل طرأت عليه معاناة نفس متعبة؟
أيشعر في داخله.. بحس غريب له لون لازوردي؟
لون لازوردي.. يكاد أن يكون مثبتاً في خيوط ذلك الثوب الفضفاض الذي تتلفع به.. وفي خيوط خمارها الداكن المنحسر عن بحيرتي عسل صافٍ!. أرض الثوب زرقاء داكنة.. محلاة ببقع حمراء.. وسوداء.. فيها تجانس فريد.. غريب.. يراه لأول مرة حلواً.. زاهياً قشيباً.
إن الدليل قد خف رشيقاً من أمامه. في رهافة النسيم العليل الذي يهب على مدينة أرهقتها الرطوبة!
لقد تسلل هذا الرجل من متاعبه، وشظف أفكاره إلى هذا الوادي الحالم.. في ليلة جمعة.. ينسى فيها دنياه.. ليعيش حياة النجوم، ويتذوّق مرشف القمر - على أنف روّاد الفضاء! - ويعب من هذا الوجود الأخضر المتصل أمامه.. أرضاً.. تربة.. خيراً. حباً يلتحم فلا يبدو إلا وجوداً واحداً.. هو حياة هؤلاء البدو.. الذين ينتعلون تراب الوادي ويستظلون باسقاته، ويغمضون أعينهم على موكب مشتاق يخط طريقه في السماء.. موكب النجوم.
وتخلى عن النافذة المتواضعة التي أخذت من وقته ساعات حنين، وتذكر، وتأمل.. ودفع بخطواته إلى طريق هادئ.. يقطعه بقدميه ليلتقط بنظراته الولهى هذه أحلى المشاهد التي تنطبع في النفس.. فلا تبهت ولا يصيبها البلى.
في السماء أشعة نور تمزق ستاراً أسود حالكاً. ما عتم أن تلاشى سواده.. فتدفقت الأشعة هادئة.. حنون، ومع ملاحقة الأفق لمعرفة منتهاه.. كانت المحاولة قد أضنته.. وكان بحثه قد أصيب بالنضوب!
فكر لحظتها أن ((الأفق)) قد لا يكون في السماء..
الأفق.. في التأمل!
الأفق.. في التفكير!
الأفق.. في النفس!
الأفق.. في الأماني؟
أما ((أفقه)) الآن.. فهو متابعة.. بحث.. حتى يتمكن من العثور على ((بحيرتي العسل)) الصافي!
لكن.. ما هي دوافع هذا كله.. لماذا؟
همس لنفسه بهذه الحيرة التي تحركه، ولم يرتقب صدى هذا الهمس.. بل واصل ممشاه.. ينقل قدميه. قافزاً بين ((فلج)) التربة المرتوية.. مطلقاً زفرات من صدره.. يستنشق بها هواء عليلاً معافى ويعطر رئتيه برائحة الأرض والزرع.. كأنه يغسلها بهذا العطر.
وفجأة فقد توازنه، وزلت قدمه اليمنى في ((الفلج)) وسقط كل جسمه على الأرض، وتطلع حوله مخافة من عين رصدت هذا التهاوي لتطلق ضحكات السخرية!. وقام يحمل على ثوبه الأبيض الناصع طيناً.. وماء، ولوناً قميئاً.. فهل يستمر، ليكتشف منتهى الأفق؟!
يستمر برغم هذا الوحل. فالاتساخ في ثوب يخلعه بحسب هواه.. ورغبته. ولن يكون في ضمير، أو ((أفق)) لا يملك بعد استفحاله إرادة التغيير فيه!
ـ أين أجدها؟!
خاطب نفسه هكذا.. وهو يتابع خطواته الهينة البطيئة متجولاً.. مستمتعاً.. رغداً بهذا الانعكاس في عينيه..
واضطربت خواطره قليلاً.. وهو يصطدم بتساؤلات.
ـ ماذا تروم من ملاحقتها.
ـ تبصر.. أنها نقيض لك.. في فكرك، في تفكيرك في أمانيك، في أحلامك، في أسلوب استمتاعك بالحياة، في النظرة إلى الحياة ذاتها.. إنها ((إنسانة)) كنزها في هاتين البحيرتين من عسل مصفى.. في أصالتها.. كشيء له جذور ضاربة في الأرض لا يمكن اقتلاعها، أو إيقاف نموها.
.. وأنت إنسان متعلم.. متحضر.. تملك قدرة التفكير واتساع التطلع.. وهي جاهلة.. بدائية.. تفكيرها ليس فيه أفق، وإنما له سطح، أو غطاء!
ـ أعرف هذا - أيتها الخواطر المضطربة - .. وأعرف أيضاً أن المتابعة لخطوها. لا يعني تشبثي بها ((كمادة)) وإنما يعني عثوري على منهل جديد غريب كما يقولون - هو الأصل لحياتي.. لتاريخي لجذوري أنا أجهل فلسفته حتى اليوم. وأتوجع عند استشعاري بجهلي.. هذا الأصل.. يتشكل.. ويتبلور.. ((كمعنى)) يفيد الديمومة.. ولا يناله الإفلاس (!)
لقد استوى - الآن - تطلعه وفكره على منطق مفحم.. يشحذ خطواته، ويدفعه ليجدّ في البحث.
أين يلتقي بها.. وكيف.. وهل يصح له أن يحادثها.. وما هو تعريف العيب، والحق في هذه الرقعة الصغيرة من عالمه؟!
وألح عليه تساؤل جديد:
ـ تود أن تقابلها من أجل الاستمتاع بحلاوة العسل المصفى من بحيرته.. أم من أجل تبلور ((المعنى)) الذي يفيد الديمومة؟
والتزم بالصمت. صمتاً مضاداً يقف في وجه الصخب الذي افترش نفسه، وتفكيره.
وتوقف قليلاً.. وهو يراقب أول عمل يبادر به الفلاح يومه الغامض.
الرجل، والمرأة، والفتى، والفتاة.. كلهم حركة، وجهد، وعرق.. أيديهم تبهج هذا الزرع المنتعش.. وتشذبه وتربيه. المحراث. ((المحش)) واليد التي تتغطى بالطين.. لتعدد مجاري المياه.. وتوزيع السقيا.. واليد الأخرى التي تقبض على أعواد البرسم الميعسمة... بحنو.. وحب حتى في لحظة جزها.. واليد الأخرى التي تقبض على الفأس لتزرع. ويمضي صاحبها مورم القدمين.
وبهرته هذه الصورة.. منقولة في مشهد من الطبيعة الرائعة.
ـ ما زال يلتزم الصمت المضاد للصخب الذي في داخله.
ومدَّ من خطواته.. في محاولة يبخر بها الصخب.. لينتصر الصمت مؤكداً!
* * *
وتضم بقلقه.. وذهوله ساعات من يومه.. جففها تحت أشعة شمس معافاة.. منتصرة.. حتى إذا ارتمى وهجها وراء قمم الجبال.. تلقف خطواته ثانية، وابتعد حتى عن وجوده!
تلك هي.. تلوح لناظريه مرة أخرى.. تستأنس بثغاء شياهها، وفي يدها عصاها تهش بها..وتكاد لا تبين في داخل ثوبها الأزرق الداكن المحلى.. ببقع حمراء وسوداء.. وعلى رأسها رداء ثقيل أسود يلحف حتى وجهها.. رداء كنود قاهر. مرهق.. انهزمت فاعليته القوية. وغرقت في بحيرتي العسل المصفى!.
مرة ثانية.. العسل المصفى!
مرة أخرى.. المعنى.. أم المادة؟!
وتوسعت خطواته.. فإذا هو أمامها.. خيل إليه كأنه أحد هذه الشياه.. بكل علمه.. بكل حضارته.. بكل خصوبة حياته.. لا فرق أبداً بينه، وبين أحد هذه الشياه.. ثوان قليلة، وفي إمكانها أن ترفع عصاها، وتهش بها عليه (!).
ماذا يقول؟!
خرس.. إلجام.. تهتهة، ارتعاد فرائص.. ارتعاد منطق، وتلجلج نطق.
ـ السلام عليكم..
قالها.. وأُغمي على شجاعته كلها!
ـ عليكم السلام!
سمعها تحييه بهذه اللهجة.. بصوت ينتشر دائماً مع تباشير الصباح..
ـ يقولون إن هذا الوادي يمتد كثيراً.. ليوصلنا إلى وادي ((ليه)) الكبير؟!
ـ هذا هو الوادي لا ينقطع بل يستمر حتى بلوغ نهايته عند مشارفه من غاد.
ـ أهلك قدماء في هذا الوادي؟
قالت باستغراب غاضب:
ـ علامك.. ويش تقول.. من أنت..؟!
ـ قال: لا تحنقي.. عربي أنا مثلك!
ـ قالت: ماذا تريد؟
ـ قال: أريد أن أعرف تفاصيل أجهلها عن أرضي.. وتربتي.
ـ قالت: عانه.. هناك رجال مثلك ينبئوك!
ـ قال: وأنت.. لماذا لا تعرّفينني على واديكم هذا؟
ـ قالت: الغريب.. لا نحادثه.
ـ قال: لست غريباً.. بل ابن أرضك.
ـ قالت: اجفل.. عانه.. هناك.
ـ قال: بل أنت.. حدثيني أريد أن أسمع منك!
ـ قالت: ملحاح.. تنح.
ـ قال: الإلحاح مطلب - أحياناً - يا ابنة الرمان.. فحققي مطلبي..
ـ قالت: حضري!
وأشاحت بوجهها، وفي يدها عصاها تهتز بعصبية..
ـ قال: حضري.. من أصل بدوي..
ـ قالت: ثرثار.. إنني أفهمك.. وأنت لا تفهم قيمة وعاء الماء.. والرعي.. والحصاد.
ـ قال: علميني قيمة وعاء الماء.. والرعي.. والحصاد!
ـ قالت: نحمل على رؤوسنا وعاء الماء.. فلا نهرق منه قطرة واحدة.. وأنتم تخليتم عن الوعاء.. وأسرفتم في استخدام الماء.. ونغبش في الصباح للزراعة.. وتحصيل ما يكسبنا قوت أيامنا.. وأنتم نسيتم نور الصباح.. فلا تتعرفون على يومكم إلا تحت وطأة حرارة الشمس. لتقولوا بعد ذلك متأففين: حرارة قاتلة.. شمس محرقة.. ونعد قدراتنا وجهودنا للحصاد كل عام.. ننتظر المواسم. فنجني السعادة، والبسمة.. وأنتم متلهفون.. عجلى.. جعلتم كل يوم من أيامكم.. يوم حصاد.. فخسرتم.. الجني والبسمة!
ـ قال بعد إصغاء: فصاحة مبينة!
ـ قالت: هذه تستطيع أن تتعلمها!
ـ قال: أنت قاسية في لهجتك.
ـ قالت: سامحني يا أخا العرب.
ـ قال: لن أسامحك حتى تقطفي لي حبتي رمان من بستانكم!
ـ قالت: قليل ما طلبته لتأكله.. وكثير ما طلبته لتدخره.. وتتلذذ به (!).
ـ قال: لم أقصد.. لقد طلبت ما آكله.
ـ قالت: حرارة الشمس جعلتكم نهمين.. حتى بتم تظنون أن كل شيء يؤكل.
ـ قال: لا تقسُ عَلَيَّ.. حتى لا أحتقر نفسي.
ـ قالت تعال..
وسار في إثرها.. صامتاً حتى مدخل البستان ثم التفتت إليه.. وحدقت فيه ملياً.. وقالت:
ـ لا عليك.. ابتعد، وعد إلى مكاننا، وسألحق بك!.
وفغر فاه دهشة، ونكص.. إلى حيث أمرته، والثواني تتباطأ في وقته.. وأوجس كل محذور.
ورآها تسعى إليه.. خفرة.. رشيقة.. جذلى.. حتى إذا اقتربت منه.. قالت:
ـ هاك.. رمانتان كما طلبت.. عسى أنك بعد أكلها تحسن الفهم.. ونحن نحب أن نتعلم مثلكم، وننتظر افتتاح مدرسة هنا.
ـ قال ضاحكاً: وأنت.. ألا تودين أن تحسني فهم مقصدي وحديثي، أنا أعرف أن المدرسة ضرورية لأمثالك.. فحرام أن يُهدر هذا الذكاء.. ولقد حان وقت افتتاح هذه المدرسة قريباً.. ولكن ألم تقرئي نظراتي؟
ـ قالت بخفر: ماذا تريد أن تقول؟
ـ قال: أريد أن أعرف الحب منك.. أن أقرن الحضري.. بالبدوية.. تشاهدين حضارتنا وأتعلم ذكاءكم!
ـ قالت وعيناها في السماء: الحب.. والزواج؟!
لا تستطيع يا أخا العرب أن تحقق ذلك لنفسك.. ولي.. وافرض أننا فزنا بهذا الأمل.. فهل تخلص لطبيعتي البدوية.. أو أبصرك يوماً تسدر في طريق الضياع.. أفتقدك.. وأفتقد شياهي.. وجبالي، وأرضي؟!
ـ قال: ما يدريك أنني قدير على التمسك بأصالتي وبعهودي؟
ـ قالت: أخاف الضياع.. أخافه!
ـ قال: كيف يكون الضياع؟
ـ قالت: أنت تحبني.. وتتزوجني.. وتمتلك حضارتك وأصالتك معاً.. ثم يخونك مبدأ الحفاظ.. فماذا بعد أكل الرمان؟
ـ قال بوجوم: قشرته!
ـ قالت: هل تحتفظ بالقشرة.. أم ترميها تحت قدميك؟!
ونظرت إليه طويلاً بطرف عينيها!
ولم تنتظر إجابته، وإنما رفعت عصاها، وهشت بها على شياهها واحتضنها ((الأفق)) وغابت فيه.. فلم يعد يحتفظ في عينيه إلا بالسواد والبياض فيهما.. ومشروع مدرسة!.
وتطلع إلى يديه.. وفيهما حبتا رمان موردة القشرة.. ربما كانت حباتهما حلوة.. ((كالعسل المصفى)) فاقعة الحمرة، وربما كانت الحبات كالأرز.. لكنه يعرف أن رمان ((ليه)) حلو، لذيذ!
والقشرة؟.. إنها تداس بالأقدام كما عبرت هي.. فهل كانت الحلاوة في الرمان معنى، أم مادة؟!
كان يهذي بهذا التساؤل.. وهو في طريقه إلى المدينة.. إلى الحضارة!..
إنه يقول.. كل الآكلين.. يتلذذون باللباب.. ويقذفون بالقشور.. هذه القشور هي التي حفظت ما في الداخل.. احتفظت بالجوهر!.. ليست كل القشور.. وإنما ((قشور الرمان)) فقط!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :977  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.