سماعة التلفون |
شارفت الساعة على الواحدة والنصف ليلاً.. وفي هذا الوقت كانت كتل الظلام تستقر في كثير من زوايا ((سويقة)).. وقد بدت بعض المتاجر المتراصة إثر بعضها، وأمامه مقفلة، ووقع أقدام غير منتظمة تذرع الطريق جيئة وذهاباً.. بعض هذه الأقدام أتعبها أصحابها من كثرة التسكع في طول الطريق وعرضه يدفعهم الفراغ إلى ذلك!.. ويندفعون أيضاً بإحساسات مراهقة!.. |
لقد أصبحت حركة البيع والشراء في هذا الشارع المخصص لبيع الأقمشة، والملابس.. فاترة مات فيها النشاط، ((فالموسم)) الذي تزداد فيه حركة البيع انتهى ولحقت في أثره زفرات فائضة من قلوب بعض التجار.. لأنهم لم يستطيعوا تصريف بضاعتهم مثلما كانوا يحلمون ويأملون.. وهذه هي فترة أخرى تمرُّ أقسى من غيرها.. فهي فترة ((البصارة)) كما يطلقون عليها.. وفيها تبرد حركة البيع والشراء.. |
ولهذه الظروف فإن أغلب أصحاب المتاجر في ((سويقة)) يفضلون أن يوصدوا أبواب متاجرهم في هذا الوقت المبكر من الليل.. |
وقام ((أحمد صبري)) يجمع نماذج الأقمشة التي يعلقها يومياً في كل صباح أمام متجره، ثم وضع على كتفه إحرامه، وأوصد متجره متخذاً طريقه إلى بيته.. |
كان يحسُّ في صدره ضيقاً وتأفُّفاً لا يدري مصدرهما!!.. ربما كانت هذه الأحاسيس نتيجة للحالة التي يعيش فيها هو، وكل جيرانه أصحاب المتاجر الأخرى، فتور في السوق وفي البيع، ومع هذا فإنهم لم يلمحوا بوادر علاج لأزمتهم!.. ماذا جرى؟ |
وغرق في ذهول، وحيرة.. لم يفق منهما إلا عندما طالعته نوافذ بيته الذي يسكنه، وتذكَّر زوجته الجميلة الشابة، وطفله الأول في وجهه براءة عذبة حلوة.. لماذا يدخل عليهما منقبض الأسارير.. متجهم الوجه؟.. ما هو الذنب الذي اقترفاه حتى يشركهما في بأسه وضيقه؟.. |
ودفع ضلفة باب البيت المكوّن من طابقين، ثم أوصدها، وبدأ يصعد درجات سلَّم البيت في بطء وهدوء.. |
وقبل أن يصل إلى مدخل الدور الثاني.. سمع صوت زوجته يعلو وقد أحاطته الفرحة!.. مع من تتكلم.. من جاء إليها؟!.. |
وأمسك بخطواته عن التقدم، وأنصت إلى صوت زوجته ينساب رقيقاً إلى أسلاك التلفون.. ممزوجاً بضحكة ناعمة ليِّنة؟!.. |
وقد سمعها تقول: |
ـ لا أستطيع الحضور غداً، لأن ((أحمد)) لا يخرج من البيت إلا متأخراً كعادته في كل يوم سبت! |
! ....... |
ـ تحديد يوم الاجتماع غير معروف بالنسبة إلي الآن.. دعوه للظروف عندما تسمح!.. |
! ................ |
ـ ها.. ها، وهل أنتم مشتاقون لرؤيتي إلى هذا الحد؟ |
! ............. |
ـ ألا يمكن تأخير مجيئي إلى يوم آخر؟ |
وتزداد ضحكاتها وهي تقول: القلوب عند بعضها!.. |
! ............ |
ـ .. وأنا أيضاً أتمنى أن أراكم في كل لحظة.. الاجتماع بكم غايتي وسعادتي، ولكن - كما تعرفون - مسؤولية البيت، والأطفال. و... الزوج أيضاً؟! |
ـ عندما أجد الفرصة القريبة.. سأتصل بكم، وأحدِّد موعد الاجتماع! |
ولم يتحمل ((أحمد)) أكثر مما سمعه رقة وحبًّا وشوقاً عارماً.. فقذف بنفسه إلى داخل الغرفة.. تدفعه أعصابه المتوترة، وأمسك بسماعة التلفون بعد أن نحى زوجته، وأدار إصبع التلفون بسرعة قبل أن ينقطع الخط، ولا يعرف من هو المتكلم!.. وتجمدت أصابع يده على السماعة كأن لا دم فيها!.. |
وتجمدت في الزوجة نظراتها.. وهي تحدِّق في سحنة زوجها، وحالته.. ماذا أصاب الرجل؟.. إنه هادئ بطبعه منذ أن اقترنت به قبل عام مضى؟ ونظرت إلى نفسها.. ما لها هي الأخرى ترتجف.. ما بال أرجلها تتخبط؟!.. و.. هو.. زوجها.. لقد عاد مبكراً هذه الليلة. لماذا؟!. |
واضطربت في دوّامة هذه الحيرة!. |
أما ((أحمد)) فقد قال بصوت حانق.. وفمه على سماعة التلفون: |
ـ من المتكلم؟! |
! .......... |
ـ شكراً.. أريد المركز! |
ووضع السماعة في مكانها، وقد اقتربت منه زوجته تقول: |
ـ هل تأكدت من شخصية المتكلم؟!.. |
وارتفعت نظراته باردة بلهاء لا حياة تطل معها.. وبحث عن الكلمات في حلقه الجاف، وقال بصوت متشنج: |
ـ ألا تستطيعين الاحتفاظ بكل هذه الضحكات التي سمعتها، وبكل ذلك الكلام الرقيق الذي لا يليق بسمع عامل السنترال إلى أن تلتقي أختك وتضحكان ما شاء لكما الضحك؟.. وسحبت خطواتها إلى ركن الغرفة.. وهي تقول: |
ـ ولكني لا أعترف أن كلامي غير لائق وخال من الأدب. |
ـ إن طريقة حديثك لا أقبلها أنا كرجل يسمع صوت زوجته في التلفون!.. |
ـ ماذا جرى لك؟.. وأين كلامك السابق؟.. ألم تقل لي مرة أننا مظلومات في كثير من حقوقنا، وإنكم أنتم الرجال تغتنمون عواطفنا نحوكم، وتظللون علينا حتى تنسونا حقوقنا؟!.. ولماذا تضع في بيتك تلفوناً ما دام في اعتبارك، وفي مفهومك مثل هذه الاعتقادات، ومثل هذه الآراء؟!.. لقد كنت أتكلم مع أختي، وليس مع إنسان غريب دفعتك ظنونك إلى توهُّم شخصيته؟ |
ـ أنا لا أحتمل هذه المرافعة، ومهما قلت بالنسبة لقضيتكنَّ في مجتمعنا نحن الرجال.. فأنا لن أرضى مطلقاً هذه اللهجة في التلفون. |
ـ إذن.. أنا لا أريد تلفوناً في بيتي.. |
ـ وأتعب أنا في أعمالي التجارية من أجلك؟! |
ـ وأنا لا أعرف غير هذه اللهجة.. إن هذه أصواتنا نحن النساء هل لديكم ما يحيله إلى صوت خشن؟!.. |
وامتلأ وجهه بحمرة الغضب.. وقد اقترب منها حانقاً يقول: |
ـ شيء عجيب!.. إن لسانك الذي يجيد لهجة الرقة في التلفون يجيد أيضاً لهجة التحدي معي أنا؟ |
ـ ولكن رقة لساني كانت مع أختي.. أف.. أين ذهبت آراؤك السابقة.. أم أنك تجعل الغضب يتحكم في أعصابك إلى هذه الدرجة؟ |
ـ أنا أكفر بآرائي في المرأة كلها.. ومن الآن عليك أن تفهمي أنك إذا تحدثت مرة أخرى في التلفون فأنت.. أنت طالق!! |
* * * |
وهدأت العاصفة.. كأن ماءاً بارداً غمرهما في تلك اللحظة.. وشعر ((أحمد)) بأطرافه تتثلَّج، وهو ينهار على الأرض!.. ماذا فعلت يا أحمد؟.. انظر.. انظر إلى وجهها الذي كان منذ لحظات مورِّداً.. تفوح منه رائحة الحياة الناشطة كيف تحوَّل إلى اصفرار باهت.. انظر يا ((أحمد)) إلى هذا الفم الرقيق الممتلئ.. وقد اتسع يرمز إلى بلاهة! |
وتابع ((أحمد)) حديثه إلى نفسه: |
ـ من أجل التلفون؟.. وأين ذهبت آراؤك في المرأة.. نعم أين ذهبت كما قالت لك؟.. لقد كنت تحدِّثها دائماً بأقوال تشيع السرور في نفسها، وتضع الاعتزاز والثقة على سحنة وجهها. كنت تقول لها يا أحمد: إن الجهل دائماً يظلم الناس، ولقد كان الجهل في مجتمعكنَّ.. بنسبة 99% ولهذا فقد كنتنَّ مظلومات.. يستعملكنَّ الرجال كالخدم للغسل والكنس والطهو والاستمتاع فقط!.. ليس لكنَّ رأي.. بل أنتن منجذبات إلى كل ما يقرره الرجل!.. إن النساء في صدر الإسلام كنَّ يتمتعن بحقوقهن كاملة.. بل إن مشاركتهن لأزواجهن معروفة!.. لقد قلت هذا يا ((أحمد)).. وماذا فيها لو كظمت الغيظ، وبحثت موضوع الشك هذا بهدوء.. وأنت الذي تضع ثقة كبيرة في زوجتك؟.. |
هل دفعك إلى هذا التصرف ضيق صدرك من حالة السوق؟.. ولكن ما ذنبها؟!.. |
ولكن يا ((أحمد)) إنك تحبها.. تعشقها.. تتفانى في هذا الحب، ولهذا فغيرتك في محلِّها.. أتذكر يا ((أحمد)) ذكريات هذا الحب الذي أثمر الزواج وأنتج هذا الطفل الجميل البريء؟.. |
قبل عام ونصف.. جاءت إليك في المتجر فتاة قالت عنها نظراتك المتفحصة إنها لا تتعدى التاسعة عشرة.. ووقفت أمام متجرك، وقد أبرزت يدها اليمنى التي تمسك بقطعة قماش.. وقالت لك بصوت يكاد يضيع في موجة الحياء: |
ـ عندك من هذا القماش؟ |
وقمت يا أحمد يا صبري لحظتها بسرعة، واختطفت طاقة القماش وفردته أمام وجهها المتواري خلف خمار شفاف أسود.. ومرة أخرى قالت لك نظراتك عنها: |
ـ أوه.. كم هي رائعة جميلة، بيضاء، ذات قوام ممشوق، تنفذ من نظراتها أشعة ساحرة، وبرزت أنامل يدها تتلمَّس جودة القماش وهي تسأل عن سعره، لقد كانت تقف في هدوء يلفُّه حياء لم تألفه كثيراً!.. |
ولففت لها القطعة التي اشترتها، ونظراتك تتعلق بنظرتها الثانية إلى وجهك. لقد كانت هي الأخرى تفحصك بنظراتها.. نظرات فقط.. وغابت قطعة القماش تحت عباءتها، وقد أحسست أن قلبك أودعته تلك اللفافة.. |
ما هذا يا ((أحمد)).. ماذا أصابك.. هل كانت هي الأولى من النساء اللاتي يقفن أمام متجرك ويبتعن منك؟.. ولكن لم تكن الأولى، إنما تختلف.. تختلف يا ((أحمد)).. ولكنها أين غابت.. ومن تكون؟.. |
* * * |
وانطلق ((أحمد)) يقفز من متجره، ويمسك بأول منعطف رآها تدخل إليه، ونظراته مبعثرة تصطدم بوجه كل واحدة.. حتى الرجال!.. ماذا أصابك ((يا أحمد))؟.. إنها هناك.. هناك! |
وأحس بارتياح ينسرب إلى قلبه، وأخذ يسير وراءها دون أن يقترب منها حتى لا تشعر بمطاردته لها.. |
ومرَّت دقائق عشر.. عاد بعدها ووجهه يتهلل بشراً بعد أن عرف من تكون، وأي بيت دخلت!؟.. |
وانقضى شهر على حبه الذي استعمر قلبه، ولم يعد يفكر إلا في ذلك الوجه الكريستال - كما سمَّاه ! - والكريستال أغلى نوع في الزجاج الشفاف!.. |
ورآها يوماً تقف أمامه.. تماماً نفس الوقفة الأولى التي فتحت له آفاقاً جديدة في قلبه.. وهي تقول له: |
عندك ((حبرا)) أصلي؟!.. |
وظهر الامتعاض على وجهه وهو يجيبها: |
آسف.. لا توجد عندي!.. |
وعندما تحركت قدماها لتغيب بها في المنعطف.. سمعته يواصل حديثه لها: |
في السوق ((حبرا)) ولكنها مختلفة توجد أصلي، وتقليد.. وخوفاً من الوقوع في نوع رديء.. اسمحي لي لمدة دقائق تقفين أنت هنا، وأسرع أنا لأعود إليك بنوع أصلي جيد! |
وأحسَّ بأن نظراتها تنغمس في وجهه، وكأن فمها ينفرج عن ابتسامة ماكرة! ومدت إليه نفس اليد الجميلة تعطيه قيمة القماش!.. |
لقد كانت تقف أمام متجره وحيدة.. كأنها حارسة على ما في داخل المتجر، ونظراتها مبعثرة في وجوه الغادين والرائحين، وتفكيرها يعمل كعداد الكهرباء الذي يحس ضغطاً!؟.. لماذا رضيت بهذا الحل.. وهو.. ماذا يعني بتصرفه هذا، ومن نظراته تلك؟! |
وأطلَّ ((أحمد)) برأسه من بين السائرين.. ثم ناولها اللفافة وهو يقول: |
سأحرص من غد على توفير ((الحبرا)) في هذا الدكان! |
وقد حرص ((أحمد)) على أن يكون السباق إلى بيت أبيها قبل أي إنسان. |
وعندما احتواه كرسي ((النصة)).. كان يتطلع إليها بوَلهٍ.. لقد رآها تضع تحت جفني عينيها بريقاً من الجرأة،.. وهي تركز نظراتها في وجهه.. كأنها تريد أن تطمئن!.. وشعر بارتياح نظراتها وهي تتجول في وجهه. ثم.. أغمضت عينيها على بسمة رقص لها قلبان!.. |
ووضعت زوجته طفلهما الأول في جوِّ الحب والتفاهم.. |
وخلق الرباط المقدس بينهما معاني كثيرة من التوافق والوله.. تغار عليه حتى من النظرة العابرة، ويتذكران معاً الأيام القصيرة الحلوة عندما كانت تبتاع منه! |
* * * |
وأفاق ((أحمد)) من استغراقة.. وقام يبحث عنها، ووجدها تضع وجهها الصغير على ساعدها، وقطرات من الدمع تبلِّل الساعد.. ولم يملك نفسه.. فقد احتضنها وعلى وجهه أسف عميق!.. |
وذات ليلة.. |
استيقظ ((أحمد)) وهو يشعر بمغص حاد في أمعائه، ويتلوَّى بكامل جسده واضطر الطبيب الذي جاء أن ينقله إلى المستشفى لإجراء عملية الزائدة الدودية!.. |
وبقيت الزوجة في البيت.. لا يراها إلا في أوقات الزيارة المعيَّنة، يحاصرها الإحراج في كل لحظة تسمع فيها صوت التلفون! |
وانتهت العملية، وعاد زوجها إليها، وقد أنهك المرض قواه.. يصارع في يومه صداعاً يوثق رأسه بالوسادة دائماً.. |
وازداد المرض ((بأحمد)).. وارتفعت درجة الحرارة إلى مستوى مفزع.. وأصبح في حالة تدعو إلى طبيب يفحصه، وينقذه مما هو فيه من ألم، وينقذ زوجته من الاضطراب الذي كبَّلها.. |
وبدأ ((أحمد)) يثرثر بكلام مفكك ليس له معنى يربطه.. وزوجته في اضطرابها تبحث عن إنسان يدعو الطبيب.. |
وفجأة.. قفزت إلى التلفون، وطلبت شقيق زوجها من بيته لينقذها، وينقذ أخاه من ألمه القاتل،.. ولكنها قبل أن تنهي المحادثة ألقت بسماعة التلفون في عنف.. وصرخت، وارتفع صوتها بنحيب حزين!.. |
وأمسك ((أحمد)) برأسه الثقيل بين يديه، وانحدرت الدموع من عينيه، وألقى برأسه المثقل بكل شيء على الوسادة!! |
|