قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري (7) |
في تصنيف الأستاذ والناقد الكبير عبد الله عبد الجبار لمواقف شعرائنا من النهضة الأدبية الحديثة في العالم العربي يتحدث عن التجديد وارتباط شعراء الجزيرة العربية به قائلاً: ((أدباء حاولوا التجديد ودعوا إليه، وكانت دعوى بعضهم في التجديد أكبر كثيراً من طاقتهم على التجديد، ومن هؤلاء ((خواطر مصرحة))، وغيره... ومن هنا كانت النزعة الرومانسية وشعر التأمل الذهني))
(1)
. |
ولا بد من إلقاء نظرة على المشهد التجديدي في تلك الحقبة من خلال عرض سريع لتياراته ورموزه: |
يعترف - صراحة - الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد بالروابط الفكرية التي تربط بين مدرستي الديوان والمهجر، والمتمثل في قوله: ((والحق إنني وقعت من قراءة هذه الصفحات على قرابة صحيحة، وجوار ملاصق في الحي الذي أسكنه من هذه الدنيا الأدبية الجديدة)) إلا أنه يشير إلى الخلاف بين المدرستين وذلك في معرض تقديمه لكتاب الأستاذ ميخائيل نعيمة ((الغربال)) والذي يعتبر البيان الشعري للمهجريين والذين يعد (نعيمة) من شيوخهم في الإبداع والنقد، إلا أن العقاد يختصر هذا الخلاف في عملية التطبيق وليس في الجوهر، لذا نراه يلمس هذه القضية بأسلوبه الصارخ فيقول: ((وزبدة هذا الخلاف أن المؤلف - يعني ميخائيل نعيمة - يحسب العناية باللفظ فضولاً، ويرى أن الكاتب أو الشاعر في حل من الخطأ ما دام الغرض الذي يرمي إليه مفهوماً، واللفظ الذي يؤدي به - معناه - مفيداً))
(2)
. |
ويؤكد الناقد المعروف الأستاذ محمد مندور هذا الاختلاف بين مدرستي الديوان والمهجر... فيتحدث عنه بشيء من الإفاضة والوعي الذي تفتقده عند كثير من النقاد المعاصرين الذين قرأوا المدارس النقدية الشكلانية قراءة ينقصها التمثل والفهم والقدرة على تطبيقها - فنياً - على أدبنا بمختلف أشكاله وضروب الإبداع فيه... يقول ((مندور)) واضعاً مبضعه النقدي على نوعية هذا الاختلاف: ((وقد تجسمت هذه الحملة - أي على الأدب التقليدي - بنوع خاص في كتاب (الغربال) للأستاذ ميخائيل نعيمة، وهو كتاب يختلف عن كتاب الديوان كل الاختلاف وإن اتفق معه في الهدف) ويلمح مندور إلى أن الأسلوب الذي أخذت به مدرسة الديوان كان أسلوباً عاصفاً حتى مع المهجرين الذين حياهم الأستاذ ((العقاد)) ثم جعلهم في منظومة واحدة مع شعراء المشرق العربي، نقول: ((إنه بالرغم من اتفاق الحملتين في الهدف بدليل ما نقرؤه في كتاب ((الغربال))، ومقدمته من تحايا متبادلة، وتأييد متفاوض، فإن أصحاب الحملة المصرية لم يخفوا معارضتهم لشعراء المشرق العربي وشعراء المهاجر بنوع خاص في مسألة الأداء اللغوي))
(3)
. |
ويذكر الباحث بيسوفه محمد عبد السلام: ((إن أول من أطلق هذا الاسم - أي الديوان - هو المرحوم الدكتور محمد مندور في مقالات نقدية نشرها بالمجلة المصرية وهي عبارة عن خمس مقالات، ثلاث في العقاد، ومقالتين إحداهما في شكري والأخرى في المازني))، إلا أن الباحث بيسوفه نفسه يعود للقول: بأن ((رواد الديوان مهدوا لدعوتهم التجديدية بمقالات نقدية قبل ظهور كتاب ((الديوان)) وكان ((عبد الرحمن شكري)) أول من تناول ((طه حسين)) بالنقد، ثم تناول العقاد بعده ((شوقي)) وخصص ((المازني)) نقده ((لحافظ)) من الشعراء و((المنفلوطي)) من الكتاب بالإضافة إلى طه حسين
(4)
. |
وإذا صح أن مندور هو من أطلق على آراء هذا الثالوث التجديدي في الأدب العربي مسمى (الديوان) فإنه في مسعاه النقدي لتتبع حركة التجديد في البلاد العربية، ينفي عن روادها سمة المدرسة... على عكس ما أقره لشعراء المهجر، الذين ساروا بحسب تعبيره قدماً في تجديد مضمون ذلك الشعر ولغته على السواء، ولكن للأستاذ مندور حيثياته في هذه الرؤية إزاء أصحاب ((الديوان))... فهو يقول: ((والشيء المؤكد هو أن حركة الديوان لم تخلق مدرسة شعرية، ولم ترب تلاميذ وأتباعاً، وذلك لأن المازني لم يلبث أن هجر الشعر إلى النثر، والتهاب العاطفة إلى السخرية، وإذا كان الأستاذ العقاد لم يهجر الشعر بل واصل إخراج الدواوين حتى (أعاصير مغرب) ثم بعد ((الأعاصير)) سنة 1950م فإن هذا الأستاذ الكبير لم يواته، فيما يبدو، الطبع الذي يستطيع معه أن يكون مدرسة وأن يتبنى تلاميذهم مواهبهم وشخصياتهم الأصيلة))
(5)
. |
وامتد تيار التجديد في مصر فإذا بشاعر عربي الروح، أمريكي الثقافة يظهر على الساحة، إنه الدكتور أحمد زكي أبو شادي (1892 - 1995م). ويعده الأستاذ محمد عبد النعم خفاجي ((رائداً للمدرسة الرومانسية في الشعر العربي المعاصر ومن الذين بذروا بذور الواقعية الحديثة في الأدب، وهذه المدرسة هي التي حملت لواء الشعر بعد شوقي وحافظ، متابعة خطا المجددين من أمثال: مطران، وشكري، ومحرم))
(6)
. |
ويؤكد مندور تأثير خليل مطران على أحمد زكي أبي شادي، مؤسس جماعة (أبوللو). ويرى أنه بشعره كان أكبر من أن تحتويه مدرسة أو مذهب شعري محدد، يقول مندور في هذا الشأن: |
(إن جماعة (أبوللو) ومجلة ((أبوللو)) لم تكونا مدرسة أدبية متجانسة، ومذهباً موحداً ذا خصائص مميزة، لأن رائدها وهو أحمد زكي أبو شادي قد كان هو نفسه موسوعة شعرية)). |
وإذا كان مندور قد قلل من شأن مدرسة الديوان وتأثيرها في تيار الشعر الحديث، فإننا نراه يتحمس لحركة ((أبوللو)) ورائدها ((أبي شادي)) الذي جمع بين الشعر القصصي، والدرامي والعاطفي، والوصفي، والفلسفي، بل وتخطى الشعر إلى مجالات أخرى كالنثر والنقد والعلم وبعض الفنون وبخاصة فن التصوير الزيتي، يقول ((مندور)) موضحاً أثر ((أبوللو)) على الشعر المعاصر والذي - لا ريب - فيه أنه إذا كانت حركة ((أبوللو)) لم تكن مدرسة محددة متميزة، فإنها قد أدت إلى ذلك التفاعل الكبير، وتلك الفورة الشعرية التي أغنت شعرنا المعاصر بعدة اتجاهات
(7)
. |
وإذا عدنا بعد هذه التوطئة التي بدأناها برأي لناقد كبير ينتمي لهذه البلاد الكريمة وهو الأستاذ عبد الله عبد الجبار الذي ذكر أن دعوى بعض شعراء بلادنا في التجديد كانت أكبر من طاقاتهم. ومَثَّل في هذه الناحية بإنتاج الأستاذ محمد حسن عواد - رحمه الله - الذي برز تلميذ له ليأخذ منه راية التجديد التي ابتدأها بكتابه المعروف (خواطر مصرحة) وكان هذا التلميذ على قدر كبير من الموهبة والفكر والثقافة ونعني به الأستاذ ((حمزة شحاتة)) - رحمه الله - فإنه لن يمنعنا عائق من إيراد رأي الدكتور محمد حسين هيكل الذي ضمنه مقدمة أهم الكتب الأدبية التي حاولت التعريف بالأدب السعودي في نهضته التجديدية الحديثة، ألا وهو كتاب (وحي الصحراء)، الذي ضم إنتاج معظم الرواد في بلادنا باستثناء ((حمزة شحاتة))، يقول الدكتور ((هيكل)) حول تأثر ذلك الجيل بالنهضة الأدبية في مصر - وغيرها - ((والحق إن الأدب الحجازي الحديث متأثر بهذه النهضة تأثراً تاماً، وإنك لترى أثناء قراءتك هذه المجموعة أثر النهضة بادياً في كل ما اشتملت عليه. فالأسلوب والصور وطرائق التفكير والتعبير تجري كلها مجرى ما تقرؤه في أدب مصر وسورية والعراق من البلاد العربية في هذا العصر الأخير، بل تجري مجرى الصور الأخيرة لهذا الأدب الحديث في تلك البلاد. فأنت ترى شعراً منثوراً، وترى أوزاناً في الشعر من أوزان المدرسة الحديثة، وترى تفكير هؤلاء الأدباء مصوراً في قوالب تكاد تردها إلى مصادرها في تفكير العصر الحاضر وأدبه. ثم إنك ترى أساليب يحتذى فيها أصحابها بعض الكتاب المعروفين - اليوم - في مصر وغير مصر))
(8)
. عام 1355هـ. |
لكن الدكتور هيكل في مقدمته لهذا المصدر الأدبي، الذي كانت طبعته الأولى في عام 1355هـ، لم يدلل على ما ذهب إليه من قول يرى فيه وطأة التأثير العربي والمصري - خاصة - على مجمل إنتاج أدباء الجزيرة العربية في تلك الحقبة، ولربما غلبه شيء من المجاملة فلم يقل إن إنتاجهم ما هو إلا استنساخ لما يكتبه الأدباء المصريون. ولعل هذا الشعور بالذاتية المفرطة هو الذي دفع بالأستاذ الكبير أحمد عبد الغفور عطار أن يشيد بالأدب السوري واللبناني أثناء الزيارة التي قام بها الدكتور طه حسين للأراضي المقدسة قبل حوالي نصف قرن من الزمن، ولقد سببت كلمة الأستاذ العطار شيئاً من الغضب والحدة للدكتور طه حسين، الذي اختصر رده على العطار في بيت شعري مشهور. |
وإذا كان ((شحاتة)) عزف عن نشر أي شيء من إنتاجه مع جملة رصفائه - آنذاك - في كتابه (وحي الصحراء)، وتتعدد الأقوال عن هذا العزوف الذي كان سمة من سمات شخصية هذا المبدع، فإنه في الوقت نفسه ذكر في عبارات موجزة وضع لها عنواناً هو (لم أنتم لأية مدرسة) عدم التزامه بأي منهج معين ونجده في إجابته متواضعاً إلى حد بعيد، يقول ((شحاتة)): ((ورب سائل يسألني عن المدرسة الأدبية التي أنتمي إليها، وفي هذا المجال أحب أن أوضح أنني قرأت الكثير، كل شيء وصل إلى يدي... تأثرت، وانفعلت بكل ما كان له صدى في نفسي وفكري... ولم ألتزم منهجاً معيناً ففاتني التخصص في أي شيء... كما فاتني الاحتراف، وربما كان أثر من آثاري الأدبية يعكس لوناً من ألوان المدارس الأدبية والفكرية في شكل من أشكالها، ولكن هذا لا يعتبر انتماء، لأن الانتماء الموسع اعتباري من طراز ((اللامنتمي))، ربما كان الكلام عن نفسي بهذه الصورة، يعتبر تكبيراً لصورة بالغة بالنسبة لي إنه ليست لي آثار مجموعة تحدد وجودي الأدبي
(9)
. |
ومع أن ((شحاتة)) اشتهر من خلال معاركه الأدبية - وخاصة مع الأستاذ الرائد محمد حسن عواد - رحمه الله - إلا أنه كان من الشجاعة بمكان أن ينقدها قبل غيره، وربما كان هذا عائداً لبعض ما تضمنته تلك المعارك من تجريح شخصي. والأمر لم يكن مقتصراً عليه وحده ولكن يشمل جميع من دخل دائرتها. ولكنك تقف احتراماً للرجل الذي يرفع صوته قائلاً: ((إن المعارك الأدبية التي خضتها، كما سماها البعض بالمعارك، لم تكن في رأيي سوى مشاجرات تغلب عليها صبيانية الفكر قبل أن يذبل، وكانت أسبابها في غاية التفاهة، وكذلك موضوعاتها، ولأني مجرد من الذكاء كانت تفرض على المثقفين في صورة دفاع عن حرماتهم الأدبية))
(10)
. |
|