شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المكوّنات الذاتية لصورة العربي في الغرب
لقد أصابت الشخصية العربية انتكاسة كبيرة، ولحق بها ضرر فادح وذلك كنتيجة حتمية للأزمة التي شهدتها منطقة الخليج في الأشهر الماضية، وما نعني بالانتكاسة والضرر هنا هو ازدياد قتامة صورة هذه الشخصية في الإِعلام الغربي وهي صورة لم تكن - يوماً - مشرقة ولكن لم تبلغ - رغم كل الظروف - ما بلغته اليوم من سلبية وما وصلت إليه من مستوى متدنٍ. وقد تعوّدت وسائل الإِعلام في البلاد العربية والمؤسسات الثقافية النظر إلى هذا الموضوع من زاوية واحدة وهي عدم قدرة الآخر. (أي الحضارة الغربية) على استخدام مقياس متجرد عند تصديه لشخصيتنا بالدراسة، أو تحليله لجوانب معينة ترتبط بأخلاقياتنا وسلوكنا، كما أننا كثيراً ما نغالي في قدرة اللوبي الصهيوني على تشويه أبعاد هذه الصورة وإلصاقه بها بعض السمات التي يرى أنها سوف تجلب نقمة الفرد الأوروبي أو تثير اشمئزازه وتتسبب بالتالي في نفوره من الشخصية العربية مما يعيق وجود اتصال حضاري إيجابي بين الشخصيتين الأوروبية والعربية.
إلا أن الرؤية الموضوعية يجب أن تدفعنا إلى دراسة تلك العوامل التي يمكن أن توصف بأنها من صنع أنفسنا ومن غرس أيدينا، وهو نقد ذاتي يجب ألا نكابر في إخضاع أنفسنا له لأنه ينبع من تعاليم ديننا التي تحث الإِنسان على محاسبة نفسه، والالتفات إليها بين الحين والآخر.
كما أن هذا النقد ضروري لكل المجتمعات التي تعتزم - حقاً - التعلم من أخطائها، وتتطلع إلى بلوغ مكانة حضارية سامية بين المجتمعات الإِنسانية المختلفة في توجهاتها والمتباينة في منطلقاتها.
لقد جَنَت الشعارات الجوفاء التي رفعتها بعض الأنظمة العربية، كالثورية والقومية على مسيرة الأمة العربية وعلى شخصيتها الحضارية وذلك لأنها شعارات تنطلق من فراغ فكري وتتوسل رفع الصوت وتشنج الأعصاب في خطابها، وتعتمد في تحقيق أهدافها على الوسائل الدموية البعيدة كل البعد عن المنطلقات الحقيقية لتراث الأمة ومسلماتها.
وكانت هذه الأنظمة تتعمد إظهار هذه الدموية وسط العواصم الغربية التي يعتبر سكانها استعمال منبه السيارة سلوكاً مشيناً فكيف بهم إذا استيقظوا من مهاجعهم على أصوات تبادل العيارات النارية بين مساكنهم، وهم القوم الذين إذا مالت الشمس إلى المغيب - والتي قليلاً ما يتحقق لها إرسال أشعتها على أرضهم - خفوا إلى دورهم بحثاً عن الهدوء والسكينة، فإذا تَنَاثُر الدماء البريئة من أجساد بني قومنا يملأ أنفسهم بالهلع ويسكنها بالرعب.
ولم تسلم بيوت الله التي أقامها المسلمون في الغرب من تربص المأجورين لهذه الأنظمة بها، وبأولئك الذين يؤمّونها ممن مَنّ الله عليهم بالتمسك بتعاليم دينهم الحنيف وشريعته السمحة، ولعلّي لم أنس ما حييت تجربة مررت بها شخصياً في مطلع الثمانينات الميلادية عندما وطئت قدماي لأول مرة بلاد الغرب فأحببت أداء صلاة الجمعة مع الجماعة فسعيت إلى مسجد ((ريجينت بارك)) الشهير وسط العاصمة البريطانية، ولم نكد ننته من الصلاة حتى رأينا جموعاً تتدافع وسمعنا أصواتاً ترتفع، لقد قُتل الصحافي العربي المعروف ((محمد مصطفى رمضان)) ببضع طلقات صوبها إليه بعض من أبناء جنسه، ولقد كان التزام الرجل وتمسكه بدينه سبباً في فقدانه حياته. ولقد أدت هذه الحادثة فيما بعد إلى أن يقوم رجال الأمن في المناسبات الإِسلامية - وأحياناً عن طريق طائرات الهليكوبتر - بحراسة المساجد، ولم تسلم بيوت الله من الاغتيالات التي كانت تدبرها الأنظمة بمجتمعات الطلاب التي شهدت هي الأخرى في منتصف الثمانينات وخصوصاً في مدينة - مانشستر - حوادث اعتداء وقتل شنيعة وكان ضحيتها عدد من الطلاب العرب، وتسببت بالتالي في تعميق أبعاد الصورة السلبية للفرد العربي، وأفسحت لمصطلحات الإِرهاب والقبلية والتعصب أن تأخذ طريقها إلى وسائل الإِعلام الغربي عند التعرض للقضايا العربية أو الشؤون الإِسلامية، ومع أن هؤلاء الذين يقدمون على ارتكاب هذه الجرائم في ديار الغرب لا يمثلون إلا فئة محدودة هي أبعد ما تكون عن الإسلام وتعاليمه ومنطلقاته إلا أن ذلك لا يعفينا من المسؤولية فكلنا في نظر الغرب - للأسف الشديد - ذلك الإِنسان الذي لا يحل مشاكله أو يصل إلى أهدافه إلا عن طريق طلقة النار، بينما يرى الغربيون أنهم تجاوزوا هذا التصور غير الحضاري واستبدلوه بتصور آخر يقوم على الكلمة والحوار.
وإذا كانت الأنظمة التي منيت بها المجتمعات العربية من ماركسية واشتراكية، وثَورية، وتقدمية قد تسببت في تخلف وانهيار المجتمعات التي وصلت إلى الحكم فيها عن طريق سفك الدماء، فإن جنايتها على إفساد الصورة الحضارية العامة للأمة العربية لا تقل سوءاً عن ذلك الخراب والدمار المادي الذي أشرنا إليه، وإذا كانت تلك الأنظمة قد جنحت إلى تلك الأساليب التي لا تقرها شريعتنا التي تدعو في وضوح إلى الحسنى، وتؤمن بالكلمة الطيبة، فإن أفراداً من الأمة جنحوا - أيضاً - إلى سلوكيات أخرى ساهمت في صنع واقع مؤسف وذلك من خلال الممارسات التي تدخل ضمن دائرة جهلنا بطرق التعامل مع أفراد المجتمعات الغريبة ومؤسساتها، فالغربي بطبيعته ينفر من أساليب الأمر المصحوبة بتجهم الوجه والمقترنة بإيماءات اليدين، ويتعجب من عربي ينسى ذلك القاموس الحضاري الذي تزخر به اللغة العربية التي كانت - يوماً - لغة العلم والفكر والمنطق، ثم يستعمل كلمات هي أكثر ارتباطاً بمفاهيم التسلط والعنجهية حتى عند احتياجه إلى شربة ماء أو كسرة خبز يأتيه بهما نادل يعمل في مطاعم الغرب أو حوانيته، ولعلّه إذا حصل على ما يريد نسي كلمة الشكر وعبارة الامتنان، ثم انصرف والكبر يملأ رأسه والعجب يتملك عليه نواحي نفسه. ويدخل في دائرة التعامل السلبي مع الآخر الرغبة الجامحة لدى بعضنا أحياناً في تقليد الأوروبي في كل شيء وهو أمر يثير استخفاف الطرف المقابل إن لم يكن حقده وكراهيته.
إن تمسك الفرد المسلم والعربي بعاداته وتقاليده النابعة - حقاً - من دينه وتراثه تجعله في نظر الغربي كياناً متميزاً له خصائصه التي لا يرضى بالمساومة عليها أو التساهل في شأنها، كما أن هذه الخصائص لن تمنعه يوماً من التحدث إلى الآخر أو الجلوس إليه مستمعاً أو محاوراً، أو الثناء على ما يراه صالحاً من طرق تعامله والاستفادة منه كأسلوب حضاري بشرط ألا يكون ذلك متعارضاً مع القواعد الشرعية التي أمرنا الله بمراعاتها في كل ما يصدر عنا من قول أو فعل.
كثيرة هي العوامل الذاتية التي ساهمت في تكوين الصورة المشوّهة عنا كأفراد وأمة وذلك يحتاج إلى وقفات عديدة لا تكفي فيها مقالة واحدة مثل هذه، ولكنها محاولة متواضعة أرجو أن يعضدها بآرائهم المتخصصون في ميادين البحث الإعلامي والحضاري.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :609  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 217 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.